لا أقصد بالعنوان أن إشكالية لغة التدريس ليست ذا أهمية تذكر، بل إن الموضوع بالغ الأهمية ولا يمكن تجاوزه في حالة كنا حقا أمام إرادة حقيقية لتجاوز إزدواجية لغة التدريس التي خلفها إجهاض المخطط الرباعي لحكومة عبد الله ابراهيم (التعريب المغربة التعميم التوحيد). لكن والأمرلا يعدو أن يكون زوبعة إعلامية خصوصا أن الفرنسية أصبحت أمرا واقعا منذ زمن،وفي العديد من دواليب الدولة فإن الهدف الحقيقي من إثارة هذا النقاش بهذا الشكل وفي هذا التوقيت لا يخرج بعيدا عن ثلاثة مقاصد؛ أولها وأعجلها صناعة أجندة إلهاء للرأي العام وتمييع الصراع المشتد بين فئات واسعة من الشعب والدولة السلطويةعبر إثارة البعد الإيديلوجي في الموضوع وتغذية الصراع الأفقي بين مكونات المجتمع، وثانيها تقوية النخبة الفرنكفونيةالحليفة للاستبداد، وثالثها وهي الأهم والاستراتيجية بالنسبة لدولة استبدادية وترتبط بالتمكين للتسلط وإضعاف كل ما من شأنه تقوية النسيج المجتمعي وفي مقدمتها الهوية. موضوع لغة التدريس ليس جديدا في أجندة الاصلاحات التعليمية التي عرفها المغرب، بل ظلت دائما، منذ جلاء المحتل الفرنسي، أحد مظاهر الصراع الثقافي بين النخبة الفرنكفونية المستسلمة لنحلة الغالب الغربي، والتي ترى في أي محاولة للتشبث بالذات تشبث بالتخلف والضعف، وبين طموحات "القوميين" الذين يولون الأهمية الكبرى في تصوراتهم لتحصين الهوية وبناء الذات المستقلة. وإذا استثنينا إصلاحات حكومة عبد الله ابراهيم سنة ،1958 التي يتفق الجميع على صدق دوافعها وجرأة طرحها في محاولة لتجاوز مرحلة الاحتلال الفرنسي والتأسيس لتعليم مغربي يستجيب لطموحات أجيال الاستقلال، فإن الصراع الثقافي للأسف كان يرجح غالبا لصالح النخبة الفرنكفونية التي حظيت دائما بالدعم اللازم من أجهزة الدولة الإدارية والأمنية والإعلامية. حتى إن أكد منطوق الدستور المغربي أن اللغتين العربية والأمازيغية هما اللغتين الرسميتين للدولة، فإن اللغة الفرنسية حاضرة بقوةفي دواليب الدولة. فالعديد من الادارات العمومية، خاصة في المستويات العليا تصر على تثبيت اللغة الفرنسية في وثائقها وتواصل أطرها، أما القطاع الخاص وخاصة الشركات الكبرى بما فيها شركات الدولة، فحدث ولا حرج. حتى ممثلو الدولة في اللقاءات الدبلوماسية يصرون على إهانة اللغات الوطنية. هنا أذكر المغاربة بحادثة السفير الروسي الذي تحدث في منتدى روسي مغربي عقد بالرباط بالعربية الفصحى وطلب منه مسؤولون مغاربة التحدث بالفرنسية فرفض وذكر المغاربة بأنها اللغة الرسمية للبلد، حتى السفير الفرنسي الذي كان حاضرا في اللقاء لم يعلق احتراما منه للأعراف الدبلوماسية. نحن اذا لسنا أمام نقاش علمي انطلق بُعيد تقييم لمعيقات التعلم في المواد العلمية، أوأمام استلهام لتجارب أجنبية رائدة يعود الفضل في ريادة تعليمها إلى التخلي عن اللغات الوطنية وتبني اللغة الفرنسية كلغة لتدريس العلوم، بل نحن بصددقرار سياسييطمح إلى توجيه ولاء الشعب "لماما" فرنسا بعد ضمان ولاء أجهزة الدولة بنجاح. إذن؛ النقاش المثار حول لغة تدريس العلوم ليس نقاشا علميا تربويا، مؤسسا على خلاصات تقييمية لصعوبات تعلم العلوم ومعيقات تقدم البحث العلمي، بل نحن أمام قرار سياسي هدفه التمييع والإلهاء، والانتصار للنخبة الفرنكفونية الحليفة للاستبداد، ومن ثم تعميق التفسخ الشعبي والتمكين للتلسط والاستبداد. لكن دعونا نغض الطرف عن هذه الحقيقة، ونفترض أن الدولة أشركتنا كمغاربة لندلي بدلونا ونحاول هادئين من الحمولات الإيديلوجية ونطرح بموضوعية وعلمية رأينا في هذا النقاش. يقول أحمد عصيد في مقال نشرته العديد من المنابر الإعلامية المغربية "إما أن نعمل على نشر المعرفة العلمية والتربية عليها وتغيير بنيات التفكير… وبهذا تتحول اللغات الوطنية عبر الممارسة العلمية والتفكير العلمي إلى لغات علوم، وإما الحفاظ على بنيات التخلف… والاكتفاء عندئذ بتدريس العلوم باللغات الأجنبية التي تنتج بها المعارف ". قول لا غبار عليه.. نكتفي بتدريس العلوم باللغات الأجنبية إذا أردنا الحفاظ على بنيات التخلف.. ولا أعتقد عصيد يريد لنا ذلك. لكن يعود عصيد ويثير الشكوك حول موقفه من اللغات الوطنية فيقول: "من لا ينتج معارف علمية وطنيا لا يمكن له أن يجعل من لغته الوطنية لغة تدريس العلوم"، ونتساءل نحن هل يمكن أن نجعل من لغاتنا الوطنية لغات علم دون تدريس الأجيال الناشئة بها؟ وهل يمكن لأجيال لم تتعرف على لغاتها أن تنتج بها "معارف علمية"؟ ثم هل اتبع الفرنسيون والإنجليز والإطاليون نفس المسار قبل أن يجعلوا من لغاتهم "لغات علم"؟أم أن اللغات الإنجليزية والفرنسية واليابانية والصينية والفنلندية والنرويجية والدنماركية… لها خصائص ذاتية تأهلها دون غيرها من اللغات لتوصيل المعلومات العلمية وتعلٌم المنهج العلمي. يقفز عصيد على كل هذه الأسئلة وينفعل نصرة للفرنكفونية ويقول وبكل صراحة : " اللغة العربية لن تكون أبدا لغة علم" بمبرر أن اللغة العربية لغة القرآن، والقرآن دين، والدين والعلم في مخيلة عصيد لا يلتقيان. صحيح نظرية الذكاءات المتعددة تؤكد أن كل ميسر لما خلق له، فبعض المتعلمين لهم ذكاء رياضي والبعض له ذكاء موسيقي والبعض الأخر ذكاء لغوي… ولكن لم نسمع بنظرية تقول أن المتحدثون بالفرنسية والإنجليزية مؤهلون دون غيرهم لتعلم العلوم، والمتحدثون بالعربية ليس بمقدورهم الا أن يتعلموا "الاعجاز العلمي في القرآن". ثم إن اللغة في آخر المطاف مهما كانت طبيعتها وخصائصها تستطيع أن تؤدي وظيفتها الأساسية وهي التبليغ وكل الوظائف المرتبطة بها، وقدرة اللغة على التعبير عن علم من العلوم مرتبط بقدرة المتحدثين بها على تمكينها من ذلك. فأهل اللغة هم الذين يجعلون منها آداة طيعة للتعبير عن العلم والعمران والمشاعر والدين والعلم، وإلا فإنها تجمد بجمودهم وتتكاسل بكسلهم وركودهم. وهذهالحقيقة لا يقول بغيرها إلا عارف محرف أو جاهل مخرف. واللغة العربية أحد اللغات التي حققت نهضة علمية مهمة وأسس أصحابها العديد من العلوم مثل الكيمياء والبصريات والجبر،وسجلت في تاريخ العلوم العديد من الأسماء العربية مثل ابن سينا وابن الهيثم وجابر بن حيان وعباس بن فرناس … والمنهج التجريبي نفسه كأحد أهم أعمدة مناهج البحث العلمي الحديث عربي النشأة باعتراف الغرب أنفسهم، اعترف بذلك بريفليت في كتاب"بناء الانسانية" وجوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب" وعبر عن ذلك جورج سارطون في كتابه "تاريخ العلوم". لقد كانت اللغة العربية "لغة علم" لما كان العرب رجال علم، ولما كانت لهم سيادة سياسية على العالم كانت لهم أيضا سيادة معرفية، واليوم السيادة السياسية للأمريكان والانجليز فالسيادة المعرفية لهم أيضا. لذا عوض اتهام اللغة بالعجز لنبحث عن مكامن أزمة التعليم في عجز أصحابها، في الإرادة السياسية المفقودة، في الميزانية المخصصة للبحث العلمي، وفي التخلص الممنهج من المدرسة العمومية… يقول المفكر المغربي المهدي المنجرة: "لا توجد أي دولة في العالم انطلقت في المجال التكنولوجي دون الاعتماد على اللغة الأم"، وهذا تؤكده تجارب العديد من الدول الأوربية والأسيوية الرائدة في البحث العلمي والتكنلوجي التي تعتمد لغاتها المحلية في التدريس، خلاف أغلب الدول الإفريقية التيتخلت عن لغاتها وتبنت الفرنسية والانجليزية لغات رسمية دون نتيجة تذكر. و"ما دام جهازك المعرفي ملتقط من مخازن غيرك فأنت تابع… وثقافتك تابعة ولا تخدم الا الاسياد"،كما يقول عبد السلام ياسين. ولا يفهم من موقفنا هذا، إمكانية الاستغناء عن تعلم اللغات الأجنبية، ففي العالم الحديث "أصبح بمثابة الأمي من لا يتقن إلا لغة قومه"، وتعلم اللغة الأجنبية تبقى المفتاح الضروري لولوج الدوائر العليا من العلوم إلى أن تستقلاللغات الوطنية ويثبت لها قدم في ميادين العلوم والتكنلوجيا والابتكار.