قال مالك: "لا يفلح الرجل حتى يترك ما لا يعنيه ويشتغل بما يعنيه، فإذا فعل ذلك يوشك أن يفتح له قلبه". علق الإمام مالك فلاح الرجل على تركه ما لا يعنيه والاشتغال بما يعنيه، وقد صدق رحمه الله تعالى، إذ كيف سيفلح الشخص إذا أقبل على ما لا يعنيه وأعرض عن ما يعنيه ؟! وقد أشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى هذا المعنى فقال: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" (رواه الترمذي)، وهو حديث عدَّه العلماء من أصول الأدب ومن قواعد السلوك، ومنهم من جعله عمدة الدين إلى جانب ثلاثة أحاديث أخرى فقال: عُمْدَةُ الدِّينِ عِنْدَنَا كَلِمَاتٌ *** أَرْبَعٌ مِنْ كَلامِ خَيْرِ الْبَرِيَّهْ اِتَّقِ الشُّبُهَاتِ وَازْهَدْ وَدَعْ *** مَا لَيْسَ يَعْنِيكَ وَاعْمَلْنَ بِنِيَّهْ يقصد أحاديث: "الحلال بين.."، و"ازهد في الدنيا.."، و"إنما الأعمال بالنيات..". وما أحوجنا اليوم إلى العمل بهذا المعنى المذكور في الحديث وفي عبارة الإمام مالك، وخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي التي فتحت الباب لكل من هب ودب ولمن ليس له في العير ولا في النفير أن يخوض في ما لا يعنيه ولا يهمه، ويزداد الأمر سوءا وخطورة حين يتعلق بالكلام في دين الله تعالى وفي أحكامه. فيكفي أن تقع الواقعة اليسيرة لترى مئات المنشورات وآلاف التعليقات، وجلها صادر عن من لا علم له ولا أهلية، حتى إنك لترى اقتحام المواضيع الحساسة والقضايا الكبرى ممن يظن كل بيضاء شحمة وكل حمراء لحمة، ثم تشهد الخلافات والنزاعات التي تفسد الأخوة وتقطع المودة، وقد كانوا في غنى عن كل هذا ! وإننا في زمن قلت فيه البركة في الوقت، وتزاحمت فيه الواجبات والضروريات، فصار من اللازم أن يرتب المرء أولوياته، وأول شيء ينبغي البدء به أن يركز فيما يهمه وأن يزيل عن مشاغله ما لا يعنيه، وأن يقتصر على ما فيه نفعه الأخروي والدنيوي. والخوض فيما لا يعني المرء من علامات الخذلان، والموفق المسدد بالطبع هو من أقبل على واجباته الدينية والدنيوية، وحرص على أدائها. قال الحسن البصري: "من علامة إعراض الله عز وجل عن العبد، أن يجعل شغله فيما لا يعنيه". وقال معروف الكرخي: "كلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من الله تعالى". وقال الإمام الذهبي: "رحم الله امرءا أقبل على شانه، وقصر من لسانه، وأقبل على تلاوة قرآنه، وبكى على زمانه". ثم إن الانشغال بما لا يعني المرء له عواقب وخيمة في الآخرة، فقد روى البيهقي وغيره أن غلاما استشهد يوم أحد، فوجدوا على بطنه صخرة مربوطة من الجوع، فمسحت أمه التراب عن وجهه وقالت: هنيئا لك يا بني الجنة ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يدريك ؟ لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويمنع ما لا يضره". فانظر إلى هذا الغلام الذي قتل في معركة، وقد جعل على بطنه حجرا من الجوع، ومع ذلك قد يحال بينه وبين الجنة بخوضه فيما لا يعنيه ! وزاد الإمام مالك أن إقبال المرء على ما يعنيه سيفتح له قلبه، وهو أمر منتظر وبدهي، لأن الشخص يجمع قلبه على ما يهمه ويركز في شؤونه الخاصة. ولذلك لما سئل لقمان عن مصدر ما وصل إليه من الحكمة قال: "صدق الحديث وترك ما لا يعنيني". وقال مالك بن دينار: "إذا رأيت قسوة في قلبك ووهنا في بدنك وحرمانا في رزقك فاعلم بأنك تكلمت بما لا يعنيك". نسأل الله تعالى أن يبصرنا بعيوبنا، ويشغلنا بما يعنينا، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. آمين.