لا يخفي المزارعون الإسبان حاجتهم إلى اليد العاملة المهاجرة لرفع حجم الإنتاج وتمكين إسبانيا من الاستمرار في قائمة الأكثر تصديراً لبعض الفواكه والخضروات. لكن حقوق الكثير من المهاجرين تبقى عرضة للانتهاك وفق أكثر من مصدر. يتوافد على إسبانيا كل عام الآلاف من المهاجرين لأجل العمل، منهم النظاميين وغير النظاميين. تعدّ الحقول الزراعية في جنوب البلاد من أبرز الأماكن التي تجذب هؤلاء، إذ لا يتطلب العمل فيها مهارات خاصة غير الجهد العضلي، وهو ما دأب عليه الكثير من هؤلاء المهاجرين في بلدانهم الأصل. بيدَ أن أحلام الكثيرين بالوصول إلى جنوب إسبانيا وإيجاد فرص عمل تحفظ كرامتهم وتحقق القليل من أحلامهم، تصطدم بظروف معيشية تجعل الكثيرين يغيّرون نظرتهم عن "النعيم" الأوروبي، خاصةً ما يتعلّق بظروف العمل، إذ تسود شكاوى من مهاجرين باستغلالهم من لدن بعض المشرفين على الحقول. "مهاجر نيوز" زار مقاطعة ألميريا في جنوب إسبانيا شهر ديسمبر 2018، حيث التقينا بمهاجرين قدموا رؤى مغايرة لما يسود في أذهان العديد من الراغبين في الوصول بأيّ ثمن إلى أوروبا. حد أدنى للأجر لا يُحترم حركية واسعة يشهدها مكتب نقابة العمال الأندلسيين "SAT" في ألميريا، حيث يتوافد عدد من العمال المهاجرين الذين يشتكون ضياع حقوقهم أو حتى طردهم. لكن النقابة لا تكتفي باستقبالهم في مقرها، إذ تصادف لقاؤنا بعض مسؤوليها مع جولة يجرونها في نواحي المقاطعة. بعيداً عن مركز ألميريا ببضعة كيلومترات، وقف عمال مغاربة مضربون عن العمل في انتظار حضور ممثليهم النقابيين. كلهم مهاجرون يمتلكون أوراق إقامة، وهو ما شجعهم على طرق أبواب القضاء، عكس غير النظاميين الذين غالبا ما يتخوّفون اللجوء إلى السلطات. تقول لنا إحدى العاملات: "هناك استغلال في العمل، لا يعطوننا حقوقنا، وإذا طالبنا بها يطردوننا.. لا حقوق هنا للعمال". تحكي أكثر عن تجربتها لها بالقول إنها عملت رفقة زوجها في ضيعة أحد الملاك الإسبان لمدة سنتين، متحدثة عن أنهما يوجدان في إسبانيا منذ مدة، وأن المشغل هو من طلبهما للعمل. لكن وبعد أن طالب الزوجان بحقوقهما الاجتماعية، رد عليهما المشغل بقسوة، لدرجة أنه قال لهما كلاما بذيئاً للغاية، وفق حديثها. يتحدث عامل آخر أنه لم يسبق له أن عرف أيّ مشكل طوال 12 سنة من العمل في الحقول الإسبانية إلّا مع المُشغّل الأخير، وذلك بعد المطالبة برفع الأجور. لكن عموماً، يوضح العامل، تُعرف مقاطعة ألميريا بضعف الأجور، وزاد من ذلك تأثير الأزمة الاقتصادية التي مرّت على البلاد، ما جعل عدداً من المشغلين يتجرؤون على طرد كل من يحتج، خاصةً مع وفرة العمال. تقول السيدة إن الحكومة تلزم المشغلين بأجر 46 أورو في اليوم الواحد لثماني ساعات من العمل (وهو ما يؤكده منشور لنقابةSAT يشير إلى أن الساعة الواحدة تُحتسب ب5.84 يورو)، لكن المشغّل لم يكن يمنح سوى 36 يورو (عامل آخر قال 38 يورو) يومياً، فضلاً عن أن التأمين الاجتماعي يُقتطع شهرياً من هذه الأجور. يوضح عامل آخر أكثر أن الأجر اليومي المنصوص عليه يخصّ ثماني ساعات من العمل كحد أقصى، وكلّ زيادة يجب أن يؤدى عنها، لكن المشغل لا يؤدي تعويض نصف ساعة إضافية، فضلاً عن أنه يُبقي على أجر يومي السبت والأحد كبقية الأيام العادية. وقد بدأ الخلاف، وفق المتحدث، بين العمال والمشغّل بعد مطالبتهم برفع الأجر اليومي إلى 40 يورو، وحذف الوقت المضاف غير المؤدى عنه، وعدم اقتطاع التأمين من أجورهم، لكنه رفض وهددهم بالطرد، ما جعلهم يرفعون تظلمهم إلى السلطات، واليوم هم مصرّون على رفع السقف والمطالبة بالأجر القانوني المحدّد في 46 يورو. بحث مضنِ عن العمل حقيقة العرض أكثر من الطلب تظهر واضحة للعيان، ففي صباح باكر في مدينة إليخيدو في مقاطعة ألميريا، يقف عدد من العمال انتظاراً لفرصة قد تأتي وقد لا تأتي. يرغبون في أن يقف مسؤول عمل أحد الحقول للمناداة عليهم واصطحابهم إلى الحقل (غالباً لأجل الجني). حسب ما عايناه، كان المهاجرون، منهم نظاميون وغير نظاميين، من جنسيات متعددة يقفون على شكل مجموعات صغيرة في أماكن متفرقة من الشارع، بقوا هناك لمدة من الوقت، ومع صعود الشمس إلى وسط السماء إيذاناً بمرور الزمن، يتضاءل الأمل في العمل رويداً رويداً قبل أن يتأكدوا أن الحظ لم يبتسم لعدد منهم في هذا اليوم. يقول أحدهم، وهو أب لأربعة أطفال، تركهم في المغرب: "أنا هنا منذ سنة.. أخرج يومياً مع السادسة صباحاً بحثاً عن العمل. لكن لا أعمل دائماً، فقط يومين أو ثلاثة أو أسبوعا في الشهر الواحد، فمنذ شهر لم أعمل". بالقرب منه يتحدث مهاجر آخر جاء قبل شهرين فقط: "أتيت من مدينة بركان (المغرب). نأتي إلى هذا الشارع بحثاً عن العمل لكن لا نجد شيئا". يؤكد أنه ترك هو الآخر أولاده في المغرب، وأنه جاء بشكل نظامي، غير أن ذلك لم يشفع له للعمل: "المشرفون المغاربة هم من يتدخلون لاختيار العمال.. العمل هنا يحتاج الوساطة، وإذا لم يكن لديك معارف، فلن تجد شيئاً". يقول آخر إنه جاء إلى إسبانيا أول مرة عام 2005، لكنه لم يعمل طوال هذه السنوات في المجموع سوى أربعة أو خمسة أعوام. لم يكن العمل حسب توقعاته، خاصة وأن الأجر في الواقع يختلف عما ينصّ عليه القانون. قلة العمل أثرت عليه مادياً، فرغم أنه يتدبر أحواله المعيشية في إسبانيا، إلا أنه يجد صعوبة في تحويل المال اللازم لإعالة أبنائه في المغرب. بالقرب من المغاربة، هناك مهاجرون من دول إفريقيا جنوب الصحراء. يتحدث أحدهم لنا: "أتينا لأجل العمل لكننا لا نجده. هناك مهاجرون معنا لم يعملوا منذ شهرين أو ثلاث أشهر، رغم أنك ملزم بدفع الإيجار وشراء حاجياتك الغذائية". يستطرد أن هناك الآلاف من الأشخاص دون عمل هنا، وأن الوضع صعب للغاية في إسبانيا، ومن الصعب كذلك الذهاب إلى بلدان أخرى، مطالباً المسؤولين الإسبان بتمكين المهاجرين العاطلين من حلول لأجل الخروج من البلد والبحث عن فرص أخرى. الخوف.. عدو العمال في بلدة سان إيسيدرو، البعيدة بحوالي 33 كيلومتراً عن مركز مدينة ألميريا، كان هناك لقاء دوري بين عمال مهاجرين ونقابة SAT. ديليا مكغريت، عضو اللجنة الدولية في النقابة، أكدت لنا أن مثل هذه اللقاءات تساعد العمال في معرفة حقوقهم، لكن هناك بعض العراقيل من قبيل عدم حديث جميع العمال باللغة الإسبانية، وكذا كون النقابة قليلة الأعضاء، ولا تتوفر على الزاد الكافي لزيارة كلّ المناطق ولقاء جميع العمال. بيدَ أن المشكل الأكبر هو الخوف، إذ تقول مكغريت: "العمال، سواء بأوراق إقامة أو بدونها، لديهم خوف هائل من نظام عمل رؤسائهم ومن فقدان أعمالهم. لذلك يجدون صعوبة كبيرة في المشاركة في النضالات العمالية للمطالبة بحقوقهم"، مضيفة أن الخوف قد يقسّم الكثير من العمال. ورغم أن جنوب إسبانيا يعرف وجود العديد من الشركات الكبرى من جنسيات أوروبية متعددة، إلّا أن الأرباح لا تصل إلى العمال حسب قول مكغريت، ففضلاً عن عدم تأدية الحد الأدنى من الأجور، لا تؤدي الشركات التأمين الاجتماعي اللازم، ولا تمكنهم من استراحة الغذاء ولا من معدات السلامة اللازمة، تقول الناشطة، مردفة أن هذه الشركات "توّفر الكثير من المال عن طريق العمال لزيادة أرباحها وهذا أمر خاطئ أخلاقياً". نفي وتأكيد طلبنا تعليق الحكومة الجهوية للأندلس، لكننا لم نتوصل برد رسمي على بريدنا الإلكتروني رغم توصلنا بإشعار وصول البريد. في المقابل، ردت علينا متحدثة باسم اتحاد صغار المزارعين ومربيي الماشية (اختصاراً UPA) وهو تنظيم يضم كذلك أصحاب الحقول ذات الاستقطاب المتوسط، وأحالتنا على تقرير منشور على موقع الاتحاد بتاريخ 06/03/2019، جاء فيه اعتراف روكي غارسيا، مسؤول في الاتحاد، أنه لا يمكن للمزارعين التقدم في الإنتاج لولا العمال الأجانب، نظراً للحاجة الماسة إليهم في ظل المساحات الشاسعة المخصصة للزراعة في مقاطعة ألميريا. لقاءات بين العمال والنقابة غير أن الوضع يختلف مع الأجانب غير الحاصلين على أوراق إقامة، فهم لا يستطيعون العمل حسب قوله بما أن المزارعين لا يُتاح لهم توقيع عقود معهم، وبما أن هناك غرامات من السلطات لمن يخالفون القانون تصل إلى 60 ألف أورو. ويتحدث المسؤول عن أن عدد من يخرقون هذا القانون قليل جدا. كما توجد كذلك غرامة ب3800 أورو ضد كل مزارع يشغّل مهاجراً نظامياً دون عقد، يضيف المصدر ذاته، لافتاً إلى أن اتحاد UPA في ألميريا يشدّد على الأمور القانونية المتعلقة بالعمل ويفعّل اتفاقاً بالطرد المباشر لكل عضو لا يحترم هذه المقتضيات. ويقول المسؤول كذلك إن الاتفاق الجماعي للعمل ينصّ على 50 أورو كالحد الأدنى للعامل الواحد في اليوم، أما ساعات العمل فتختلف من موسم لآخر، لكنها عموماً تصل إلى 6 ساعات ونصف. كما أن المشغّل غير ملزم بتوفير النقل ولا السكن ولا الطعام للعمال حسب قوله، مضيفاً أن الاتحاد يعمل على تكوين العمال في الميدان، ليس فقط في المجال التقني، بل كذلك في المجالين الاجتماعي والصحي. غير أننا عند تجوالنا في أكثر من مكان في مقاطعة ألميريا وقبلها في مقاطعة ويلفا، أكد لنا مهاجرون غير نظاميين التقينا بهم أنهم بالفعل يستطيعون العمل، فيما أكد آخرون أن وضعهم "غير القانوني" يخلق لهم صعوبات بالغة في ذلك. كما أن خوسي كويفاس، المتحدث الرسمي باسم نقابة SAT في ألميريا يقول ل"مهاجر نيوز" إن هناك لا مساواة كبيرة في ألميريا بين العمال المحليين والمهاجرين في عدة جوانب منها الأجور وأيام العمل وبعض الامتيازات كالاستفادة من النقل، فضلاً عن أن الأغلبية من العمال المهاجرين لا يستفيدون من عقود دائمة، رغم أقدميتهم في العمل، زيادةً عن عدم تأدية الكثير من مبالغ الضمان الاجتماعي، وهو ما ينعكس سلباً على الحياة اليومية للمهاجر. (المصدر: موقع "دويتشه فيله").