من المعلوم أن قصة موسى مع الخضر عليهما السلام اشتملت على فوائد غزيرة ودروس كثيرة،، سواء في الجانب العلمي أو في الجانب الإيماني، لكنها تضمنت أيضا فوائد في جوانب أخرى، كالجانبين التربوي والفكري. فالقصة عالجت ظاهرة تربوية وفكرية في غاية الأهمية، وهي الحكم على الشيء دون الإحاطة به، ويفهم هذا من قول الخضر لموسى عليهما السلام في بداية لقائهما: "وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا" (الكهف:68). وتعد هذه الظاهرة من أكثر الظواهر انتشارا في مجتمعنا، ولاسيما في مواقع التواصل الاجتماعي، فيكفي أن تلقي نظرة على التدوينات والتغريدات والمقاطع المصورة لترى حجمها: فتجد هذا قد أصدر أحكاما في نزاع من خلال معلومات ضحلة، وذاك قد فصل في قضية معقدة أرهقت الخبراء والمختصين، وكل ما في جعبته نتف من هنا وهناك، وتجد ثالثا قد أدلى بدلوه في حادثة لا زالت التحريات لم تنته بعد، وآخر قد حمل مسؤولية إحدى المعضلات لجهة معينة لا علاقة لها بموضوع المعضلة ! فالنقطة المشتركة بين هذه الحالات التي مثلت بها وهي من الواقع، هو تكلم الشخص في القضية دون إحاطته بكل جوانبها، وطبعا إن سلمنا بجواز تكلمه، وإلا فالأصل ألا يخوض المرء فيما لا يعنيه، وهذا من حسن إسلامه كما أخبرنا الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام. وأسباب انتشار هذه الظاهرة تعود بالأساس إلى تسرع الناس، وسيطرة الأحكام المسبقة، وغلبة الأهواء. وقدمنا أن القرآن الكريم قد عالج هذه الظاهرة من خلال قصة موسى والخضر عليهما السلام، فكيف ذلك ؟ قبل أن نقف مع ما جرى بين موسي والخضر عليهما السلام، لا بد أن أنبه على أن موسى عليه السلام كان يتكلم انطلاقا مما عنده من العلم وأنه كان حاضرا شاهدا، وأنكر أشياء تبدو في الظاهر أنها غير مقبولة، ورغم ذلك تبين له لاحقا أنه لم يكن على صواب، فكيف بمن يتكلم وهو بعيد عن الواقعة ودون حد أدنى من العلم والاطلاع ؟! وأما المواقف الثلاثة التي مر منها موسى عليه السلام خلال مرافقته للخضر عليه السلام، فإنها كلها تشترك في وجود جزء غيبي، لكنها تختلف من حيث الزمن الذي يتعلق به: فخرق السفينة متعلق بأمر غيبي واقع في الحاضر، وهو استيلاء الملك الغاصب عليها. وقتل الولد متعلق بأمر غيبي سيقع في المستقبل، وهو إرهاقه لاحقا لوالديه بطغيانه وكفره. وإقامة الجدار متعلق بأمر غيبي وقع في الماضي، وهو وجود كنز تحته. فالأبعاد الزمنية الثلاثة، الحاضر والمستقبل والماضي المحيطة بأية قضية، هي ما ينبغي على المرء أن يبحث فيه قبل أن يحكم عليها، فالحاضر يعرفه بظروفها وعناصرها، والمستقبل يعطيه مآلاتها ونتائجها، والماضي يمده بأسبابها ودوافعها. ففي ما يتعلق بالحاضر، فعليه أن يقلب نظره في كل حيثيات القضية وظروفها وعناصرها في الزمن الحاضر، ويحاول قدر المستطاع أن يطلع على ما خفي عليه، ويستمع إلى كل طرف من أطراف القضية. وفي ما يتعلق بالمستقبل، فعليه أن يعطي لنفسه الوقت الكافي ليرى ما ستؤول إليه الأمور ويتريث حتى تظهر كل النتائج، وألا يتسرع ويتعجل، فالتسرع والعجلة مظنة الخطأ، كما قال الشاعر: قد يدرك المتأني بعض حاجته *** وقد يكون مع المستعجل الزلل وفي ما يتعلق بالماضي فعليه أن يلقي نظرات على ما جرى سابقا، ليعرف الأسباب والدوافع التي أدت إلى ما حدث، فلا غنى عن معرفتها لفهم كل حادثة، وقديما قيل "إذا عرف السبب بطل العجب". وبهذا يكون قد أحاط بالقضية، أو على الأقل قد قارب الإحاطة، فتكون الحالة ماثلة أمامه بوضوح، وكلما كانت الصورة أوضح كان الحكم عليها أقرب من الحق والصواب، والقاعدة تقول "الحكم على الشيء فرع عن تصوره"، فأحسن التصور تحسن الحكم.