هوية بريس – احسان الفقيه* المُهرِّج، ذلك الفنان الذي يُغير معالم وجهه بمستحضرات التجميل، ويرتدي ملابس غريبة ذات أحجام كبيرة، كم أضحك الناس كبارا وصغارا، وربما أبكاهم أيضا، كما فعل الممثل الهندي راج كومار في رائعته «ميرانام جوكر»، عندما أدى في الفيلم فقرة كوميدية بعد وفاة أمه، اختلطت فيها دموعه الحقيقية بالزائفة، يُضحِك خلالها الجماهير وقلبه مُمزق نازف. لكن المُهرج ليس فقط من يُضحك الناس ويرسم على وجوهم البسمة أو يبكيهم شفقة وتأثُّرا، فأحيانا يتسلط على رقابهم، ويدفن كرامتهم، ويستبيح دماءهم وأرزاقهم، ذلك هو القائد المهرج، وفق أحد تقسيمات أساتذة العلوم السياسية وخبراء الإعلام لأنواع القادة، فإنهم قالوا إن هناك نوعين من القادة، القائد المهرج، والقائد الزعيم، ولكُلٍّ منهما سماته ومسالكه. للوهلة الأولى قد يبدو للقارئ، أن وصف القائد الطاغية بالمُهرج لا يناسب أحواله من الجوْر والاستبداد، إلا أن المُتخصّصين أحسنوا التوصيف من وجهة نظري، فالحاكم الطاغية المُستبد أشبه ما يكون في حكمه بالمُهرج في فوضاه وعدم منطقية قراراته ومسلكه، إضافة إلى خداع الآخرين، وتخدير عقولهم بحركاته البهلوانية، وبالتالي استنزاف أموالهم، فهو كما قال عبد الوهاب المسيري في وصف الجيل الأول من أبناء المهاجرين من يهود اليديشية لدخول المجتمع المُضيف: «يسْخَر من نفسه ليُضحك الآخرين، في الوقت الذي يَضحك هو عليهم فيه ويأخذ أموالهم». وبالمناسبة، اليديشية هي لغة يهود أوروبا التي تشكلت منذ حوالي ألف عام من عدة لغات الآرامية والألمانية والإيطالية والفرنسية والعبرية. لقد تملكني العجب عندما قرأت في بعض كتب مختار التهامي، رحمه الله –أقدم عمداء كلية الإعلام في جامعة القاهرة وأستاذ الرأي العام– حديثا له عن القائد المُهرج، فبدا كأن الرجل ينقل في كتبه واقع قادة بعينهم، نعرفهم بسيماهم. فالقائد المُهرج كما يصفه التهامي يصل إلى الحكم عادة في أوقات الأزمات العنيفة، وعندها تحين الفرصة لكي ينْقضَّ هذا الحاكم على الدولة ويُمسك بزمام الأمور فيها، ويستولي على قيادتها بالأماني والوعود المعسولة التي يُوزعها بلا حساب، مستغلا الحالة النفسية والعقلية للجماهير، وتعاوُن القُوى الرجعية معه. فسبحان الله، كلام يُجسّد واقع حكام مستبدين، استغلوا أزمات البلاد، وقفزوا على الحكم، وباعوا الأوهام لشعوبهم، ووعدوا بمشروعات ضخمة زعموا أنها ستحدث نقلة بعيدة في الاقتصاد تزدهر معها حياة المواطنين. لكن هذا القائد المُهرج الذي يبيع الوهم، سرعان ما ينقلب ويُفصح عن وجهه الحقيقي القبيح، فيحكم الأمة بالحديد والنار، ويُصادر الحريات ويسوق الشعب سوْق القطيع ليحقق رغباته الأنانية، أو رغبات أسياده المختفين وراء الستار. وهذا اللون من القادة يعتبر الشعب وسيلة لا غاية، وهو في الوقت نفسه يحتقر الجماهير ويخافها، ويسوقها ولا يقودها، ويُخضعها ولا يُخلص لها، بمعنى أوسع يتخذ من كتاب «الأمير» لمكيافيللي دستورا له، حيث تصبح الغاية مُبرِّرة لكل وسيلة، أي وسيلة. ولئن كان هتلر يُؤخذ كمثال على هؤلاء القادة الذين أضرّوا ببلادهم وبالعالم بأسره، إلا أن الزعيم النازي كان مُخلصا لعرقه وقوميته، وأراد لذلك الجنس الآري التفوق، بخلاف المُهرجين في بلاد العرب، الذين لا ينظرون إلا إلى البقاء فوق العروش أطول فترة ممكنة، قبل أن يداهمهم الموت أو تأكلهم الشعوب أو يبيعهم الأحلاف والأسياد. هذا النوع من القادة، لا ينْفكّ عن التلَبُّسِ بِمُصارعة التفاهات التي لا تخدم الأمة والشعوب، فأصدق ما يمكن أن تُوصف بها سياساته، أنها تعني الصراع مع التفاهة بما فيها التفاهات الشخصية، حسب تعبير الرئيس التشيكي الظريف المُثقّف ميلوش زيمان. أما الدكتور سرمد الجادر أستاذ العلوم السياسية في جامعة النهرين، فيطرح في كتابه «تطور الحرب النفسية في السياسة الصهيونية»، فرقا جوهريا بين القائد المهرج والقائد الزعيم، فالأول لا يُخاطب سوى عواطف ومشاعر الجماهير ليُلْهبها ويُثيرها، ناقلا المجتمع إلى حالة الهيجان والتوتر، بل إنه لا يتوانى عن استخدام الكذب في تعامله، والثاني قائدٌ مُدرك لأهدافه، ويُخاطب عقول الجماهير معتمدا على الصراحة والثقة، وإذا استخدم أسلوب إثارة الحماس الجماهيري، فإنما يخدم به الجماهير والمصالح الكلية العليا لا أغراضه الشخصية. وهو يأتي إلى سُدّة الحكم بالاختيار السليم والإرادة الشعبية الكاملة، لا يدّعي العصمة ولا حيازة الحق المطلق، يستفيد من الأخطاء التي نتجت عن التجارب، يُؤمن بالعلم وحرية الرأي، ويضع نصب عينيه أن الشعب هو الزعيم الحقيقي، وأن بقاءه مرتبط بقناعات الشعب بصلاحيته وأهليته للحكم عن طريق الانتخاب الحر، يستجيب لمطالب الشعب ويُعبر عنها ويسعى لإيجاد الوسائل لتحقيقها. أتخيل لو أنني تحدثت عن القائد الطاغية المهرج من تلقاء نفسي بدون الاستناد إلى تعريفات أهل التخصص، لسارع البعض إذن إلى القول بأنني مدفوعة بمواقف شخصية تجاه بعض الحكام، لكن تناول هؤلاء الخبراء والمتخصصين للقادة المهرجين يُضفي على الحديث بُعدا موضوعيا، بعيدا عن الأحاديث الإنشائية العاطفية، ومن ثم يكتسب مصداقية لدى الجماهير، ربما تمكنوا من خلالها من تقييم حكامٍ خدعوا شعوبهم فانساقت وراءهم كالقطعان. إن من ينظر في حال الأمة، يُدرك بدون عناء أنها وقعت في معظم أرجائها تحت حكم المُهرجين، إلا مَن رحم ربك وقليل ما هم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. * كاتبة أردنية