(ليس للطغيان صورة واحدة .. فمتى استغلت السلطة لإرهاق الشعب وإفقاره تحولت الى طغيان أياً كانت صورته) جون لوك في المسار الديمقراطي السليم يأتي السياسي إلى السلطة ويذهب عنها في مباراة تنافسية عادية، لا تأثير لها على بنيان الأمة ومؤسسات الدولة، ولا يخلد إلا ما شيده السياسي الديمقراطي من نجاح أو فشل في حياة شعبه، لكن في الأنظمة الاستبدادية، الأمر يختلف فقدوم الزعيم إلى السلطة كما رحيله عنها مرتبط بنوع من الإخراج المسرحي والطقوس الكرنفالية، كما لو أنه يعلن قدوم عقيدة جديدة تحتاج إلى الحشود والأتباع، دم وعنف، أوهام بطولة ونرجسية مريضة مليئة بالعناد والتبجح، المزاوجة بين ملهاة الخطب العصماء وتصفيق الجماهير وهتافاتهم، والانتهاء إلى مأساة تعذيب الزعيم وسحله واغتصابه وقتله شنقاً أو إعداماً.. هتلر، صدام، القذافي.. لم يموتوا مباشرة بعد بث مقاطع فيديو من كاميرات هواتف محمولة على المواقع الإلكترونية، وبعدما أُعلن رسميا عن قتل الزعيم الليبي معمر القذافي، قام خبير روسي بتكذيب رواية قتله مدعياً أن من قتل هو شبيه القذافي لا ملك الملوك ذاته.. وأعاد حكاية الشبيه كما ترددت مع هتلر وصدام حسين الذي لا زالت مقاطع كبيرة من الجماهير العربية. تؤمن أنه لم يشنق ولا أعدم وأنه لا زال حيا يرزق.. كأن الزعيم لا يموت! هل هو خوف الشعوب من عودة الطاغية من جديد للبطش ونشر الرعب؟ هل هو تماهي العامة مع الحاكم المستبد، ثمة ما يشبه الرحمة والشفقة على رؤية "كبيرهم" يسقط بين يدي "صغار" الشعب؟ أم لأن الطغاة الحقيقيين للبشرية كانوا دائما أشباح الموتى او الاوهام التي خلقتها بنفسها حسب تعبير غوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجية الجماهير"؟ موت الطاغية يظل في اعتقاد عامة الناس أشبه بالخدعة، فالمستبد استثنائي، كائن يقترب من الأسطورة، وبحكم دهائه ومكره يملك قدرات غيبية لينبعث من جديد، يتجمهر الناس حول جثة الطاغية يريدون التأكد من أنه غادر عالم الأحياء ولن يعود إلى سابق بطشه، إنهم لا يثقون بالأخبار الرسمية، فالشعب المضطهد يصطف في طوابير للتأكد من موت الزعيم، وأنه ليس أمام خدعة حرب، بل إن الجثة نفسها لا تقوم كدليل على موت الحاكم المستبد، إذا لم تلمس أو تصور أو ترى في مشهد فرجة جماعي.. لكي لا ينبعث من مرقده الأخير، ليس الحاكم، ولكن حكمه المستبد، إرهابه وطغيانه ورعبه. ولأن الزعيم المستبد لا يريد أن يموت فإنه اكتشف في العالم العربي طرقاً جديداً لإدامة سلطته القمعية، حيث حول أنظمته الجمهورية إلى أنظمة وراثية، لقد نجح حافظ الأسد في توريث حكمه لإبنه طبيب العيون بشار، وسار على هدية كل من حسني مبارك وزين العابدين بن علي ومعمر القذافي لولا اندلاع الربيع العربي الذي أنهى حكمهم بشكل تراجيدي، وقبله اجتهد صدام حسين في تأهيل ابنه عدي وقصي لخلافته لكنهم جميعا انتهوا بشكل دموي أو بطريقة تراجيدية. الزعيم والشبيه.. تماه الضحك والبكاء "موت الطاغية" هو موت استثنائي، لأن الدكتاتور دوماً يحب أن يعيش أطول مدة متماهياً مع كرسي الحكم، يريد أن يخلد في الواقع العيني، ولأنه غير عادل، ممقوت ومكروه من طرف الشعب، فإنه معرض للقتل من طرف الأعداء، من خاصة أو عامة الشعب.. لذلك يستثمر الطاغية ذكاءه فيخلق شبيها أو أشباه له، يتم صنعهم كما في الصناعة الهوليودية لتمثيل دور الزعيم، يوضعون للتمويه، لاختبار الأمكنة، وأحياناً لمجرد الفرجة، وخلق حالة سخرية لدى الزعيم، فقد كان شبيه صدام حسين، يخرج إلى الساحات العامة حيث يتجمهر الناس ويحيونه، وأحيانا يفاجئ وزيراً في مكتبه أو رجال أمن.. حتى يبرز أن الزعيم قريب منهم قادر على التواجد معهم في كل حين، وأن يرصد سكناتهم وحركاتهم أينما حلوا وارتحلوا.. فهو معكم حيث كنتم. يسهر خبراء التجميل على خلق ثان للإنسان الشبيه للحاكم المستبد، ضمن حلقة جد ضيقة قد يحكم عليها بعدم مغادرة القصر الرئاسي إلى الأبد، وأحيانا يكون مصيرها ما لاقاه المهندس سنمار مع الإمبراطور الروماني.. القتل أو الرمي من شاهق كما تقول الحكاية.. يَمَّحي الاسم الأصلي ورسم الولادة والوثائق الذاتية لشخصية الشبيه، الذي يكتسي هوية جديدة، هوية الزعيم، يقلد مشيته، يتعلم طريقة أكله وشربه، شكل جلوسه، طبيعة ملامح وجه الزعيم لحظة الغضب والفرح، السخط والرضى.. تذوب أو تقمع إلى الأبد شخصية الشبيه ليتماهى مع شخصية الزعيم.. لا يعيش الشبيه حياته كذات مستقلة، ككينونة حقيقية.. إنه هنا للتمثيل والمسرحة والقيام بأدوار سينمائية مؤدى عنها بسخاء، الشبيه يقتل أناه ليعيش ك "هو" أو كآخر.. الزعيم الذي يخشى الموت والتعرض للأذى، رغم أنه مصدر كل الشرور.. لذلك يُوضع الشبيه دوماً في قلب الخطر لفداء الزعيم، إنه فَأْر تجارب خروج الزعيم إلى الفضاءات العامة.. موت الطاغية.. استثنائي دوما الطغاة يأتون دوماً إلى السلطة عبر القهر الدموي، ولا يغادرون كرسي الحكم.. لأن السلطة مثل الأسد حين تمتطيه فهو يفترس الآخرين لكن حين تنزل عن ظهره يأكلك، هذا ما حدث لجنكيزخان وكاليكولا وإدوارد الثاني والسلطان المملوكي بيبرس حتى تشاوسيسكو وهتلر وصدام حسين ولن يكون آخرهم معمر القذافي.. في مقال جميل له على صفحات جريدة "إنترناشيونال هيرالد تريبيون" نشر يوم 28 أكتوبر الماضي (انظر ترجمة حميد عالية بجريدة "الاتحاد الاشتراكي في عددها ليوم 3 نونبر 2014)، كتب سيمون صباغ مونتيفيوري: " تنتهي حياة السياسيين بالفشل ما لم تنقطع في ظروف مواتية، لأن تلك هي طبيعة السياسة وطبيعة الأعمال الإنسانية"، بيد أن الحياة السياسية للطغاة يختلف شأنها في التعامل مع شؤون الناس بكثافة خاصة، فموت زعيم ديمقراطي، بعد وقت طويل من التقاعد، يعد حدثا من قبيل الحياة الخاصة، لكن موت الطاغية يعد في كل الأحوال حدثا سياسيا يعكس طبيعة سلطانه، فإذا مات بسلام في سريره في تمام ازدهار حكمه، فإن موته يعد مسرحاً لتلك السلطة، أما إذا تجرع الطاغية الموت وهو يبكي مستجديا الرحمة وهو يتمرغ في التراب فهذا أيضا انعكاس لطبيعة نظام منهار ورد فعل شعب مضطهد". بعد موت الحسن الثاني كتبت مقالا ب "الصحيفة" في يوليوز 1999 مضمونه أن الحسن الثاني مات شامخاً، لم يطلع أحد على ضُعفه الإنساني، لقد ولد ملكا ومات ملكا، ولقد استغرب العالم كيف هبَّ كل أفراد الشعب المغربي، الذي قُمع وفُقِّر، إلى العاصمة لحمل جثمانه إلى مثواه الأخير! لم يقتصر أمر الحزن على عامة الناس بل مس خاصتهم، هل هي الألفة فقط، هل للطابع الشعبة الوطني الذي ميز الملكية في المغرب، هل هو الإحساس باليتم بعد موت الأب، يحكي الكونفدراليون والاتحاديون الذين زاروا نوبير الأموي الذي سجنه الحسن الثاني أكثر من مرة، أنه كان يبكي ويردد على مسامع المحيطين به: "مات بانا، مات بانا". لقد تم إخراج صدام حسين من حفرة وتم إعدامه شنقا.. في حين هبَّ الشعب إلى جرجرة تمثاله في الشارع العام، في القديم تجمع الناس حول الطاغية البيزنطي أندور نيكوس الأول، نتفوا لحيته وأقلعوا أسنانه وصبوا على وجهه ماء مغليا، أما الملكة المستبدة شجرة الدر، فقد ماتت تحت ضربات العبيد والإيماء لها بجزماتهم، أما الملكة إيزابيل فقد تم إلقاؤها من الشرفة العالية لقصرها.. لذلك نفهم ما قام به الثوار، خارج الوجه الأخلاقي والإنساني، حين ألقوا القبض على معمر القذافي، ملك الملوك، الرجل الدموي الذي تماهى مع السلطة حد الموت، فتعرض للصفع والسحل والتمثيل بجثته.. إنها نهاية الطاغية.. وهو ملمح غير إنساني لحاكم مستبد ولرعية غاب في ثنايا ثورتها كل وعي أخلاقي أو حس إنساني، وقد صدق لوبون حين قال:" ان الجمهور يمكنه بسهولة ان يصبح جلاداً ولكن يمكنه بنفس السهولة ان يصبح ضحية وشهيداً فمن أعماقه سالت جداول الدم الغزيرة الضرورية لانتصار اي عقيدة أو إيمان جديد". الأعضاء التناسلية ونهاية الزعيم ثمة ملاحظة لافتة.. للانتباه في نهاية الطغاة، ترتبط بدلالة سعي العامة إلى العبث بالأعضاء التناسلية للحاكم المستبد وأحيانا بشكل وحشي، فقد عمد عامة الناس إلى بتر الأعضاء التناسلية للملك العراقي فيصل وإبن عمه عام 1958، وعام 1996عمد الأفغان إلى قطع الأعضاء التناسلية للزعيم نجيب الله الذي كان مواليا للسوفيات قبل شنقه، كما الملك إدوارد الثاني، الشاذ جنسيا، إذ تقول الروايات إنه تم إدخال قضيب محمي حد الاحمرار في مؤخرته، وقد أبرز شريط فيديو أن أحد الثوار أدخل سكينا في مؤخرة معمر القذافي، كما تم تداول خبر قطع العضو التناسلي لأحد أبنائه.. في وصف موت أحد ملوك يهوديا الطغاة، يقول الكاتب جوزيفوس: "إن مرض هيرود يشتد عليه يوماً بعد يوم(...) وأعضاؤه التناسلية قد تعفَّنت وصارت تولد فيها الديدان"! لقد ناب المرض هنا عن فعل الثوار أو الغوغاء. إن القضيب هنا إشارة إلى فعل اغتصاب السلطة، فالحاكم المستبد يأتي إلى الحكم فيما يشبه الخيانة، ينبت الرعب في شعبه، ويقتل بعنف، يحكم بالحديد والنار، يستعمل كل وسائل الدولة لإخراس صوت المعارضين، ينهب الثروة بإسم الثورة، ويزرع بدهاء ومكر كل أشكال الخوف في المحكومين... فالطاغية رجل مستبد بالسلطة، والقضيب هو رمز الذكورة وأداة الاغتصاب، لذلك حين تتقوض دعائم حكم الطاغية الذي يسقط بين أيدي عامة الناس، ثواراً أو غوغاء، لا يكتفي الناس بقتله ورؤية جثته الهامدة، بل لابد من قطع أعضائه التناسلية أو اغتصابه كنوع من الثأر لسنوات من الكبت والحرمان والتسلط التي مارسها الحاكم المستبد على محكوميه، لذلك لابد من موت استثنائي لزعماء استثنائيين اغتصبوا السلطة وسرقوا أحلام شعوبهم في الحرية والكرامة والتنمية والديمقراطية. لا قبر يتسع للزعيم نادراً ما مات الطاغية على سرير نومه بشكل هادئ وبدون زوابع، فموت الطاغية مستفز، استثنائي، فرجوي، ميلودرامي، مليء بالإثارة.. يموت الحاكم المستبد ولا تنتهي حكايات وأساطير تنمو مثل كرة ثلج حول شكل موته الغريب والوحشي.. ولأن الطغاة دهاة حتى في موتهم فإن الأحياء يستمرون في القلق من جثثهم التي لا يتسع لها قبر. يروى أن الحاكم المنغولي جانكيزخان الذي اشتهر برعبه وبطشه وعاث فَساداً في كل أرجاء آسيا وشرق أوربا، بقيت جثته بدون قبر، وحتى اليوم تختلط الأساطير بالحقائق حول قبر جنكيزخان، فقد أوصى بأن تدفن جثته بإحدى المراعي التي تشبه قطعة من الجنة، وحين مات وعملا بوصيته قام خدامه بنقل جثمانه إلى منغوليا حيث المرعى الذي اشتهى أن يكون مثواه الأخير، غير أن العربة التي كانت تقل جثته سقطت في حفرة قبل بلوغ القبر المشتهى لجنكيز خان، وبعدها لم يعد الترك ولا المغول يعرفون قبر الطاغية. كان موت هتلر استثنائيا، لقد تزوج من معشوقته إيفا براون ومات بتناول السم في حديقة "كوتردا ميرونخ"، وبرغم تعدد الروايات حول شكل انتحار الدكتاتور ونهايته، هل أطلق النار على نفسه أم تناول سم "السيانيد".. المهم هو أن جثته كانت مثل الجمرة الخبيثة بين أيدي الأحياء من ورثة نظام الحكم الجديد بألمانيا حيث تم حرق جثة هتلر ومعشوقته ورمي رمادها في نهر ألبه.. وفي رواية أخرى فإن جثته تم دفنها في مقر مركز المخابرات الألمانية ليعاد نبش القبر وإخراج جثته أكثر من مرة قبل أن يتم الأمر بإحراقها وإتلافها نهائيا خوفا أن يصبح مزاراً للنازيين الجدد! وعلى خلاف الطيبين من الحكام الذين يصبح لهم أكثر من قبر مثل باقي الأولياء الصالحين الذين يتصارع الناس على نصب الأضرحة على قبور مفترضة لهم، فإن الطغاة لا يدفنون إلا في أماكن سرية. فلا قبر لصدام، ولا قبر للقذافي.. والذريعة هي الخوف من تحول قبره إلى مزار، إنه خوف من عودته إلى الحياة، من بعثه مجدداً من خلال قبيلته أو أنصاره الجدد.. كأن الموت الذي يوقعه به الخصوم أو الغوغاء لا يكفي لاختفاء ظلم الدكتاتور وجثته الهامدة ذات مكر خاص، تظل مصدر خطر داهم بالنسبة للأحياء حتى الثوار منهم لا يهنؤون بنصرهم إلا بعد إحراق جثة الطاغية وذرها في البحر، أو إخفاء معالمها عن عامة الناس، هكذا هم الطغاة يحيروننا لما يحكموننا، ويحيروننا لما نقتلهم ويموتون.