سؤال دولة الحق والقانون خلال جائحة كورونا، يطرح اليوم داخل الاوساط الحقوقية والقانونية، تحاول أن تقف عند فهم تداعيات كورونا على مجالات تداولية ومدنية وسياسية وتدبيرية مختلفة، كما أن خروجنا من منطقة الصدمة واللايقين في علاقتنا بالجائحة سيمكننا من رؤية تسعف أكثر على قراءة أكثر موضوعية للإشكالات المرتبطة بالجائحة، وضمنها طبعا إشكالية الحرية في علاقتها بالظروف الاستثنائية حيث يصبح الحق في الحياة والحق في الصحة العامة والسلامة الجسدية يبرز وكأنه في تضاد مع حريات أخرى، كحرية التجمع والتنقل، وحتى حرية الرأي والتعبير. لقد سبق لنا في النقابة الوطنية للصحافة المغربية أن أصدرنا تقريرا سنويا مرتبطا بحرية الصحافة وبالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للعاملات والعاملين في مهن الصحافة والإعلام، وغطى الفترة من مارس 2019 إلى مارس 2021، وأفردنا فيه محورا هاما خاصا بحرية الصحافة خلال جائحة كورونا، ويمكن الرجوع له لأنه يوثق عددا من الوقائع الدالة التي عاشها الجسم الصحافي أثناء تغطيته للجائحة. لا يخفى عليكم أن هذه الجائحة لم تواكبها أي إجراءات استباقية، ليس في بلدنا فقط، بل في سائر دول المعمور. فهي من جنس ما أصبح يطلق عليه بما بعد الحقيقة، أي تلك الوقائع والقضايا غير المتوقعة، والتي يصعب التكهن بها، لكن تأثيراتها تكون عميقة، وأحيانا جذرية، مما يدخل العالم في حالة من اليقين، تفرض إعادة ترتيب الأولويات، مما يجعل حتى المخططات قصيرة ومتوسطة المدى مجرد فرضيات أكثر منها برامج قابلة للأجرأة، ومما يقتضي كذلك استعجالية التوفر قيادات متملكة لكفايات القدرة على التعديل وإعادة بناء التوازنات. وفي ارتباط بموضوع اليوم، فإن الجائحة طرحت عالميا ضرورة العودة لدولة الرعاية الاجتماعية، وأصبحت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تفرض نفسها على أجندات الدول، حتى تلك التي كانت قد أعلنت نهاية الدولة تحت مسمى النيوليبيرالية، فما يجري حاليا بأوكرانيا له علاقة بعالم ما بعد كورونا، لأنه في تفاصيل هذه الحرب يختبئ سؤال: الدولة القومية، التي كان الجميع يعتقد أنه قد أبنها وصلى عليها صلاة الجنازة. ولنعد إلى الجائحة وعلاقتها بسؤال الحرية: لقد قامت بلادنا بإجراء الإغلاق الشامل للحدود، وبعدها الحجر الصحي، وكل ذلك عبر إجراءات قانونية فتحت نقاشا بين المتخصصين حول مشروعيتها أو حول حدود ملاءمتها، أو فعاليتها، ففرض الحجر الصحي كان عبر مرسوم بمثابة قانون متعلق بحالة الطوارئ الصحية لازال ساري المفعول لحد الآن عبر تمديده مع تعديل بعض إجراءاته حسب تطور الحالة الوبائية. لم يحظ النقاش القانوني حول مشروعية ذلك المرسوم بمثابة قانوني بمساحة كبيرة في النقاش العمومي، مما يدل على أن الوضع الوبائي ومخاوف المواطنين قد جعلت الأولوية سواء عند الدولة أو المجتمع هي التدخل لمحاصرة الوباء، ولو على حساب حقوق مكفولة دستوريا وكذلك بموجب الاتفاقيات والمعاهدات الدولية. وللإنصاف فإذا كان المواطنون قد حرموا من حق التنقل مثلا، وهو واحد من الحقوق التي لها علاقة بالحريات، فإن الصحافيين لم يحرموا منه، بسبب طبيعة عملهم، مما جعلهم ضمن الصفوف الأمامية التي استمرت في أداء مهامها في تلك اللحظات العصيبة، وللأسف لم يتم تثمين عمل الصحافيات والصحافيين في تلك الظروف، ولم يتم الاعتراف بالمجهودات التي قاموا بها قياسا إلى فئات أخرى تستحق كل التنويه والإشادة. غير أن حق التنقل هذا المشروط بأداء المهام الصحافية، كان مهددا في لحظة ما بالمصادرة، حين أصدرت مصالح الداخلية مذكرة تقيد حق تنقل الصحافيين ليلا بحصولهم على ترخيص مسبق من هذه المصالح، وطبعا واجهت النقابة الوطنية للصحافة المغربية هذا القرار بالرفض، باعتبار أن عمل الصحافيين والصحافيات المكلفين بتغطية الأحداث خارج مقرات العمل، مطبوع بالاستعجالية التي تفرض حضور الصحافي الآني في مسرح الحدث، وأي اشتراطات تقيد هذه الاستعجالية تجعل عمل الصحافي ناقصا وغير ذا قيمة. ولحسن الحظ فإن وزارة الداخلية تراجعت عن هذا القرار بعد حوار مع النقابة الوطنية للصحافة المغربية، وتفهمت إكراهات العمل الصحافي. ومن الإشكالات التي واجهها الصحافيون والصحافيات خلال الجائحة هو صعوبة الوصول إلى المعلومة، وخصوصا من مصالح وزارة الصحة سواء على المستوى المركزي أو المستويات الجهوية والإقليمية. لا ننكر أن هناك إشكالات مرتبطة بأجرأة القانون المتعلق بالحق في المعلومة، والذي لدينا مجموعة ملاحظات عليه، أثبتناها في تقريرنا السنوي، سواء على مستوى المدونة القانونية، أو على مستوى الأجرأة، لكن طريقة تفاعل وزارة الصحة خلال تلك المرحلة مع الصحافة، لم تكن له علاقة فقط بالإشكالات المرتبطة بقانون الحق في المعلومة فقط، بل بنقص في الوعي بأهمية الإعلام ودوره في تطويق تداعيات الجائحة. طبعا، لا ننكر المجهودات الجبارة التي قامت بها طواقم وزارة الصحة خلال تلك المرحلة، لكن كان يجب عليها الانتباه أن جزء مما يعرقل جهودها، ويضعف حالة التعبئة المجتمعية التي كانت تراهن عليها الدولة لتقليل الخسائر في الأرواح وفي الصحة العمومية، كانت له علاقة بانتشار المعلومات الطبية الخاطئة، وبذيوع فكر المؤامرات، وبظهور مجموعة من الأخصائيين المزيفين في مجال ما يسمى الطب البديل، والذين استثمروا الجائحة لتقديم بعض الوصفات التي تسببت في كوارث وجعلت فئات كثيرة تتهاون في الإجراءات الاحترازية. ولذلك كان من شأن انفتاح الوزارة على الصحافيات والصحافيين أن يفضي إلى توفر الصحافيين الذين كانوا مكلفين بتغطية الجائحة على ما يكفي من المعلومات والمعطيات التي لن يحتاجها فقط في مهنته المتعلقة بالإخبار، بل كان من شأنها المساهمة في التقليل سواء من التهويل والتخويف، أو من الاستهانة والتشكيك. ورغم أن موضوع اليوم مرتبط بسؤال الحرية الذي له علاقة بمجال الحقوق المدنية والسياسية، فإن استهداف الحقوق الاقتصادية والاجتماعية أثر بطريقة غير مباشرة على الحريات الصحفية، ذلك أن مجموعة من المقاولات الصحافية عمدت إلى تسريح مجموعة من العاملات والعاملين بدعوى الخسائر المترتبة على منع طبع الحف الورقية، وتقلص المداخيل الإشهارية في الصحافة الرقمية بسبب منافسة وسائل التواصل الاجتماعي خلال تلك المرحلة، او عمدت إلى تقليص الأجور، وبعدها تم إغلاقها نهائيا، مما خلق جوا من الخوف انعكس سلبا على حرية الصحافيين ، حيث نمت الرقابة الذاتية خوفا من رد فعل المشغلين. وهذه مناسبة لشكر وزارة الثقافة والاتصال السابقة التي بعد نقاش مع هيئات الناشرين والنقابة الوطنية للصحافة المغربية قررت توجيه الدعم العمومي الموجه للصحافة من أجل أداء أدور العاملين والعاملات ، وتم صرف الدعم مباشرة نحو حساباتهم، مما ساهم نسبيا في الاستقرار المهني. وعلى العموم فإنه يجب الاعتراف أن المغرب لم يشهد تقييدات كبرى على حرية الصحافة خلال هذه المرحلة، وأن هذه التقييدات في أغلبها كانت مرتبطة بحالة الطوارئ الصحية، أي أنها تقييدات استثنائية، ولم نلمس أي نية لاستدامتها بعد الخروج من حالة الطوارئ الصحية التي نتمنى أن تنتهي قريبا، بل أحيانا كان هناك نوع من التعامل بمرونة حين كان الوضع الوبائي يسمح بنوع من التسامح. وهذا الوضع كما قلت في المقدمة كان في كل أنحاء المعمور، بل إن المفوضة الأممية المعنية بحقوق الإنسان ميشيل باشليت جردت مجموعة من الوقائع المرتبطة بتقييد الحريات، ومنها حرية الصحافة في عدد من دول العالم بمن فيها التي توصف بأنها متقدمة ديموقراطيا، بحيث تم فرض قيود استثنائية على ما ينشر في وسائط الإعلام إذا كان من شأنه تقويض جهود الدولة لمحاصرة الوباء. ما ينبغي أن نخرج به كخلاصات، هو ثلاث: الأولى: يجب التفكير في وضع قواعد لسقف الاستثناءات المقبولة خلال الأوضاع الاستثنائية، حتى تكون واضحة معياريا، ولا تسمح بتأويلات تستهدف روح الحرية نفسها. الثانية: وضع آليات للحوار بين مختلف مصالح الدولة وبين الفاعلين الذين لهم ارتباط بمجال الحريات: الصحافة، الجمعيات الحقوقية، هيئات المحامين،، من أجل حل الإشكالات الطارئة. الثالثة: لا نقيد الحرية إلا لاستدامة الحرية نفسها، بمعنى أن الحقوق والحريات هي على نفس الأهمية، وأن الحق في الحياة هو وحده الأسمى، أما باقي الحقوق فهي على نفس المستوى، وأن كل الحقوق هي ممر لتحقيق ثلاث قيم أساسية وهي: الحرية والكرامة والمساواة. (*) نائبة رئيس النقابة الوطنية للصحافة المغربية- المكلفة بالحريات