"الدّارجة"، والمقصودُ بها "العامية"، لسانٌ انبثق أصلا عن اللغة العربية في سياقٍ مغربي فاكتسى صبغة محلية، نُطقاً واقتراضاً وتكييفاً. ومِن حيث هي لسان، لا تَقِلُّ الدارجة قيمة عن أمها، اللغة العربية، وذلك بمُوجب القاعدة العِلمية القائلة بأنّ اللغات والألسن متساوية، وما الاختلاف فيما بينها إلا على مستوى كثافة أو تواتر الاستعمال. ولكن هذا لا ينفي أن تكون العامية أقل رقياً من الفصحى عِلمياً وحضارياً، لأن الدارجة شفهية وغير مقعَدة لغوياً، ومحصورة جغرافياً في المغرب وتاريخياً في عهدٍ غير بعيد وعَملياً في التواصل اليومي البسيط وثقافياً في بعض المظاهر الفلكلورية أو شبه الإبداعية، بينما الفصحى ذات تاريخ أعرق وجغرافيا أشمل واستعمالٍ أوسع وتراثٍ مكتوب وجماليةٍ أكبر، وهذا بحُكم العَرب والعَجم معاً مِن العارفين الموضوعِيّيِن. ثم إن الفصحى عند المسلمين تتميز عن باقي لغات العالم بكونها لغة القرآن والدين؛ بها أنزَل اللهُ كتابَه المبين على العالمِين. وهو بُعدٌ روحي بليغٌ لا يُدركه غيرُ مئاتِ الملايين من المؤمنين. وبما أن الدارجة المغربية منبثقة عن العربية، فإنّ استعمالها يتكاثف بكثافة المغاربة العرب والمستعرِبة؛ كما أنها لا تُشكل اللغةَ الأمَ ولا حتى لغةَ التواصل إلا لنسبة معينة من المغاربة. فقد ظلت في مناطق بعيدة عن العاصمة والمدن الكبرى، كالناظور والنواحي مثلا، وإلى غاية الثمانينيات، لساناً لا ينطق به إلا رجال الأمن والجمارك والدرك والقضاء والضريبة والسلطة والتعليم القادمِين من خارج الإقليم. كما كان يُهجّيها كلُ متملقٍ مَحلي يُحابي الدولة وأعوانَها. طبعاً، هذا الكلام لا ينطبق على الخطيب أو المُدرس المحلي اللذين كانا يَعتبران الدارجة أداة تربوية، ولو أن الفصحى هي التي كانت غالبة في خُطب الأول ودُروس الثاني. هذا مع التذكير بأنه لم يكن هناك مجال حقيقي لاستعمال العربية، سواء الفصحى منها أو العامية، حيث أن الحفظ والتلاوة والاستظهار عن ظهر قلب والإملاء كانوا يُشكلون منهجية التدريس، فيما كانت الأمية شبه شاملة في أوساط مرتادي المساجد وكان كلام الأئمة يعتمد حصراً على الاقتباس من القرآن والاستشهاد بالنصوص. في المسجد أو القِسم، كانت العربية، بنوعيها الفصيح والعامي، مقبولة تعميماً وإن تعددت الأسباب، ولكن الأمر كان يختلف تماماً عند التعامل بها مع ممثل السلطة، مدنياً كان أو عسكرياً. على المستوى الشعبي، والسياقُ آنذاكَ هو سياقُ تهميشٍ شِبهِ رسميٍ للمنطقة وتحقيرٍ لسكانها الريفيين ولسانِهم، كانت الدارجة تُعتبر لغة دخيلة لأنها تُجسّد الهيمنة والقمع والشطط والفساد المرتبطِين بأعوان المخزن الموفَدين إلى المنطقة. وقد كان أغلب هؤلاء بالفعل يَعضُّون الأيادي التي تُطعِمهم ويَحتقرون لسانَ وعاداتِ أصحابها. لذلك كان الأهالي يَنبذون كلَ ما يأتيهم مِن "الداخل"، بما في ذلك الدارجة، لأن "الداخل"، كما قلنا، كان مرادفاً للاستفزاز والابتزاز. كان السكان المحليون يُسمون الدارجة "ثعرافتْ"، فيما كان أهلُ الدارجة "الدخلاء" يُسمون لسان المحليين "الشلحة"، التي كان يسميها أهلها "ثمازيخت"، بدل "ثَريفَشْتْ"، ربما لأن اللاشعور الجماعي كان يخشى غضبة المخزن، المُعقَد لعقودٍ من "الريف" وكل ما يُنسَب إليه. مع حلول الألفية الثالثة، حصل الانفراج السياسي والحقوقي شيئاً فشيئاً وتوافدَت على إقليمالناظور (مدينة بني أنصار بمينائها وحدودها مع مليلية نموذجاً)، إضافة إلى عشرات موظفي الدولة في مختلِف المصالح، أفواجٌ من المغاربة من كل الأنحاء بغرض الشغل أو التهريب أو التجارة أو الهجرة أو الدعارة أو الشطارة. وتجدر الإشارة إلى أن القادمين من "الداخل" هذه المرة كان مِن بينهم مَن ليستِ الدارجةُ لغتَه الأم، حيث يتحدث بالسوسية أو الزيانية مثلا، ولكنهم يضطرون لاستعمال الدارجة للتواصل مع الريفيين. وهذه الوضعية، التي تدحض بالملموس فكرة تفاهم أمازيغ المغرب فيما بينهم، بسبب اختلاف ألسنتهم، تُبيّن بأنّ الدارجة، من جهة، ليست لغة كل البيوت في المغرب كما يتوهم أو يدّعي مَن يريدونها لغة للتعليم، ومِن جهة أخرى، بأنها في إقليمالناظور (مَثلا) كانت ولم تعُد لغة أعوان المخزن حَصراً، مِمّا جعل المحليين يرفعون عنها بالتدريج نَبذهم القديم ويَعتبرونها لساناً كباقي الألسن المغربية. مَهما يكن، لا بد من الإشارة إلى أن أبناء المنطقة لم "يُطْلقوا لسانَهم" بالدارجة إلا مع تدفق الوافدين عليهم من خارج الريف في العِقدين الأخيرين. أمّا في فترة ما قبل التسعينيات، وبسبب المقاطعة العفوية للغةِ السلطة (بما في ذلك إذاعتها وتلفزيونها وموسيقاها وسينماءها ومسرحها) وندرة استعمالها لغياب الحاجة (قلة "الدخلاء")، فلم يكن الشباب المتعلم المحلي يتحدث بالدارجة ببعض الطلاقة إلا بعد ولوج الجامعة، خارج المنطقة الناطقة بالريفية (فاس أو وجدة)، بينما كانت الأغلبية الأمية لا تتحدث بها إلا نادراً وعند الضرورة القصوى، حيث كانت دارجتهم ركيكة للغاية؛ يُدرّجون الكلمات الريفية أو ينطقون الدارجة بلكنة ريفية بارزة. واليومَ إذا كان المقصود هو استعمال الدارجة في القِسم الدراسي كآلية إضافية للشرح والتفسير وإيصال الرسالة فهذه ظاهرة واردة ومعمول بها منذ عقود في الأقسام المغربية، ولا داعي لرفع توصيات في هذا الباب. وفي غياب أسباب موضوعية، لن يكون الرافع لها إلا جاهلا أو باحثاً عن الشهرة أو متطفلا ثقيلا. عبْدُ ربِه يُدرّس في الجامعة ولا يتردد في استعمال الدارجة (أو العربية المُدرَّجة) تيسيراً واستكمالا للتواصل والفهم. بل وكنتُ سأستعينُ بلغتي الأم كذلك لو كان طلبتي جميعاً يفهمون الريفية. بينما إذا كان المقصودُ في الواقع هو تدريس الدارجة في ذاتها، أو بها على حساب الفصحى، فإن القصد لن يكون نبيلا، بل سبيلا إلى استدراج العقول الساذجة لخدمة أغراض مُبيَّتة. لذلك وجب على مَن يريد العيش عبْر دَرْج سُلّم الكسب والشهرة بالدارجة أن يَعود أدراجَه لأنّ مجهوده هذا مُنافٍ للعقل والمصلحة العامة، وسُرعان ما يذهب أدراجَ الرياح. *أكاديمي ومترجم