كلف به في صغره أشد ما يكون الكلف وشغله في شبابه إلى درجة أنه أضحى محور حياته وحديثه إلى جلاسه، والعمل الذي ينفق فيه بياض نهاره وسواد ليله. هذا الانشغال سرعان ما تحول إلى ممارسة للفعل المسرحي كتابة وتمثيلا وإخراجا، وأفضى به إلى المسرح الفردي كخيار فني وعملي. "" وعلى امتداد ما يربو عن أربعة عقود يمضي عبد الحق الزروالي في تجربة المسرح الفردي التي حمل لواءها في المغرب، مؤسسا لمسار إبداعي داع صيته على امتداد الوطن العربي. في هذا الحوار مع "الرأي" نتحدث مع عبد الحق الزروالي عن جدوى المسرح الفردي في زمن الفيديو كليب والمسرح التجاري وعن مسيرته ووضع المسرح العربي. وهذا نص الحوار: في زمن الفيديو كليب والمسرح التجاري، ما جدوى المسرح الفردي؟ - لكل زمن إيقاعه وإيجابياته وسلبياته، والموجات التعبيرية التي لها علاقة بالتنشيط الثقافي والترفيه ودغذغة الأحاسيس هي تجارب سريعة الظهور والاندثار. أما المسرح الفردي فكان ومازال وسيظل نبتة خاصة، ولو أردت مجاراة هذه الموجة لكانت وضعية عبد الحق الزروالي شيئا آخر، لأني أمتلك أدوات الاشتغال الفردي وإمكانات الكتابة والسخرية والترفيه، ولكني آمنت بأن كل ميسر لما خلق له، وأن المسرح بصفة عامة والمسرح الفردي بصفة خاصة ينقسم إلى قسمين: الكوميديا والتراجيديا، هذا هو التعريف العالمي لمفهوم المسرح، بيد أننا لم نتقن أي منهما، فنحن نمارس التهريج باسم الكوميديا والبؤس باسم التراجيديا. وفي ظل هذا الخلط للمفاهيم والمصطلحات يشتغل الإنسان بقناعته من أجل أن يحافظ على نسبة من النقاء في علاقته بأبي الفنون. قد تبدو، تجربة المسرح الفردي، في الظاهر، سهلة الاقتحام، لكن بمجرد أن يضع الشخص قدماه على الخشبة يدرك أنها تجربة محفوفة بالمخاطر وأن لها انعكاسات قوية قد تدمر صاحبها، لأن علاقة المبدع بهذا النوع من المسرح هي علاقة أن تكون أو لا تكون والنجاح فيها لا يقبل النسبية. لذلك فإن استمرار تجربة المسرح الفردي لعبد الحق الزروالي لما يربو عن أربعين سنة، لدليل على امتلاكها مقومات الاستمرارية. ما يحز في نفسي أن هذا المسرح أصبح مرتبطا باسمي، وأنا لا أعدو أن أكون مجرد عابر سبيل، وكنت أمل لو أن تجربتي استطاعت أن تؤدي مهمتها من خلال انتشارها وبروز مجموعة من الكفاءات التي تغذيها وتمدها بالاستمرارية. في سنة 1976 حين نظمنا أول مهرجان وطني للمسرح الفردي بتعاون مع وزارة الثقافة كنت أعتقد أنه بعد عشر سنوات سيكون لدينا في المغرب نحو ثلاثين تجربة لكن، مع الأسف الشديد،لا نجد في الساحة المسرحية وفي سنة 2007 غير تجربة وحيدة. على كل حال، أعتقد أني أديت مهمتي بشكل جيد، وغير مسؤول عن النقائص التي هي ناتجة في نظري عن التلوث الذي يحيط بالممارسة المسرحية في بلادنا . بعد مسيرة أربعين عاما من العطاء في مجال المسرح الفردي، هل حققت جميع أحلامك؟ - لم أستثمر لحد الآن غير 10 في المائة من إمكاناتي، فممارسة المسرح الفردي كما أراه انطلاقا من الغنى في المخيلة والقدرة على الفعل أكبر بكثير مما نحن عليه الآن. وعندما يطرح علي مثل هذا السؤال ويتعذر علي الجواب، أقول إن أجمل الزهور هي التي تنبت في المزابل. ربما أن الضيق الذي نعيشه في ممارستنا للعمل الثقافي والفني ككل، والنظرة الساقطة لدور المثقف والمبدع في مجتمعنا لا تلزمني بتقديم أكثر مما قدمت. وأعتقد جازما أني لو قدمت طيلة رحلة امتدت ل 46 عاما، ست سنوات في المسرح الجماعي وأربعون سنة في المسرح الفردي، 10 في المائة مما قدمت في بيئة أخرى ومناخ ثقافي وجمهور ومسؤولين سياسيين آخرين، لكانت التجربة حدثا إعلاميا غير مقتصر على قطر أو إقليم. فإذاكانت الأسماء الكبيرة في المسرح العالمي تتوفر لها جميع شروط النجاح من قاعات مجهزة بأحداث الأجهزة ودعم من كل الجهات الإعلامية والمالية، مما يجعلها تشتغل في ظروف مريحة وأدنى مجهود تبذله يحقق نتائج مبهرة ، فإن المبدع عندنا ملزم بصنع الطريق لنفسه ليسير فيها. على كل حال، بقدر رضاي واقتناعي الشخصي بالمجهود الذي قدمته، بقدر ما أنا مستاء لأن طموحي أكبر بكثير مما حققته والأسباب التي حالت دون ذلك أنا غير مسؤول عنها. هل من السهل أن تكون مؤلفا وممثلا ومخرجا؟ - صعب جدا. ولهذا السبب لم تنتشر تجربة المسرح الفردي، لأنك قد تجد ممثلا جيدا بيد أنه يحتاج إلى من يكتب له، وقد تجد كاتبا جيدا بيد أنه يحتاج إلى من يخرج له. وقد تجد مخرجا جيدا يحتاج لمن يؤدي الدور المسند إليه. تجربة المسرح الفردي يتعين أن تقوم على التكامل، بمعنى أن مفهوم المبدع الشامل في الغرب هو القمين بإنجاحها. فالعملية الإبداعية في المسرح الفردي تولد متكاملة، إذ لا يمكن أن تكتب نصا في فترة زمنية ما، ليتم إخراجه أو تمثيله في فترة زمنية أخرى. فهي إما أن تولد بكل مكوناتها وعناصرها أو ستظل تجربة مفككة في جوهرها. بدأت علاقتي مع المسرح كممثل، ثم تحولت بعد ذلك إلى الكتابة بعد ما تبين لي أن الكاتب الجيد هو الذي يكتب وكأنه يمثل وأن الممثل الجيد هو الذي يمثل وكأنه يكتب ولا يكفي أن يحفظ دوره وإنما أن يعيش ما يقول وهو ما يفرض عليه أن يكون فيه الروائي والشاعر وعالم الإجتماع والفيلسوف حتى يكون ممثلا جيدا. وفي اعتقادي، أن المبدع المسرحي جزء لا يتجزأ، أنا لا أعترف بوجود كاتب ومخرج وممثل ومصمم أزياء وغيرها من مكونات العرض المسرحي، ما يهمني هو أن نصل بالمبدع المسرحي إلى الإلمام بكل هذه المكونات حتى يعطينا مسرحا تتكامل فيه العناصر بشكل دقيق ومتلاحم وليس بشكل إجرائي يهدف إلى تخفيف الأعباء عن التخصصات. أزمة المسرح المغربي *قمت بتأليف عدة نصوص مسرحية، فهل اتجهت إلى التأليف لغياب وندرة النصوص؟ - هناك أزمة كبيرة في المسرح المغربي، فإذا أحصينا عدد كتاب المسرح سنجد أنهم لا يتجاوزون عدد رؤوس الأصابع. ولو وجدت نصوصا لكتاب آخرين لما ترددت لأن ذلك سيجنبني عناء ستة أشهر من الكتابة وعوض أن أقدم عرضا في سنة أو سنتين سأقدمه في ثلاثة أشهر في حال توفر نص جيد. أتوفر على رفوف من الإنتاجات المكتوبة التي تحتاج إلى عمر آخر لكي أقوم بتقديمها للجمهور، لكن ذلك لا يمنعني من البحث من حين إلى آخر عن نصوص لكتاب آخرين لكني لا أجدها. أعتقد أن عدم وجود كتاب مسرحيين وكتاب سيناريو حقيقيين وكتاب سخرية جيدين، هو سبب تدهور المسرح المغربي والمسلسلات الدرامية والأفلام التلفزيونية والسيتكومات. صحيح أن هناك كتاب ، لكن لكي تكتب نصا تحتاج إلى سنة من التفرغ حتى تعطي نصا جيدا. ولا يمكن لأي شخص أن يغامر بسنة من وقته لكي يكتب نصا جيدا يوضع في الرفوف في انتظار من يقرؤه أو من يقوم بإعداده. ما أود لفت الإنتباه إليه هو أن تجربتنا الإبداعية في المسرح أو غيره لا تقوم على مؤسسات وهيئات الكتابة والإخراج والممثلين ومكاتب الدعم والإعلان عن العروض والترويج للأعمال الفنية واستثمارها ماديا. وفي ظل غياب هذه الهيكلة التنظيمية للممارسة الإبداعية بصفة عامة، تتراجع مجموعة من الكفاءات وفي مقدمتها مغامرة الدخول في مجال الكتابة للمسرح. فما جدوى المغامرة وبذل الوقت والجهد الفكري، إذا كنت تدرك أن المناخ الذي نعيش فيه لا يساعد؟ فالسياسة الثقافية منذ الاستقلال وإلى الآن كانت سلبية ولم تخلق في الأجيال الجديدة الاحتياج إلى التغذية الثقافية والفنية بمفهومها السليم، وإنما خلقت فيهم الاحتياج إلى معانقة الابتذال والتهريج والصخب المجاني، وهي قد نجحت في ذلك والنتائج نراها على أرض الواقع. بين الاقتباس والاختلاس والتناص * يعرف المسرح المغربي هيمنة نصوص الأجنبية والمقتبسة على أغلب العروض المقدمة، كما أن أغلب مشاريع المسرحيات المرشحة للدعم المسرحي تعتمد نصوصا أجنبية أو مقتبسة. من خلال هذا الواقع، هل يمكن القول بأن المسرح المغربي يعيش مرحلة اقتباس؟ - منذ الاستقلال، بدأ المسرح المغربي بالاقتباس ثم تدرج إلى الاختلاس والتناص، وهي مراحل كانت لها مبرراتها في ذلك الوقت. وإذا تأملنا لائحة خريجي معاهد التكوين المسرحي في عموم الوطن العربي وليس فقط المغرب، سنجد أن هذه المعاهد خرجت مئات الممثلين وعشرات المخرجين والعديد من المتخصصين في السينوغرافيا، لكن لا نجد اسما لكاتب مسرحي واحد تخرج من تلك المعاهد. اللجوء إلى الاقتباس هو ضرورة فرضتها طبيعة التكوين في هذه المعاهد، وكان القصد منها الإبقاء على الاستعمار اللغوي والفكري، فتم تشجيع العديد من الأسماء لكي يذهبوا إلى معاهد الغرب للتكوين، ليعودوا فيما بعد للقيام بدور الدركي للبلدان التي كان لها الفضل عليهم. أعتقد، أنه إذا تمادينا في الانفتاح على مدارس وفنون الآخرين بحجة أنهم متقدمين في هذا المجال، فإننا سنفقد أنفسنا مع أننا نتوفر على طاقات إبداعية ينبهر بها الأخرون. وكما نتفاخر بأننا أنجبنا أبطالا في صنف من الرياضات، فلما لا نطمح لكي نتفاخر في يوم من الأيام بأن لنا مسرحيا عالميا أو أديبا حاصلا على جائزة نوبل؟ ما جدوى أن أقدم مسرح شبيها بما يقدم في ألمانيا أو في فرنسا مثلا؟ سأكون نسخة باهتة لمنتوج مستورد، وبالتالي لن أرقى لمستوى هذه الأعمال كما تقدم في بيئتها ولن أخدم المسرح في البيئة التي أنتمي إليها، فلذلك الخصوصية والهوية في الإبداع تبدو لي شرطا أساسيا، أن نستفيد من تجارب الآخرين ولكن أن لا نجترها وأن لا نكررها وأن لا نقلدها لأننا سنسقط فيما يسمى بالتبعية والاستلاب. أعتقد أن التبعية والاستلاب في الفكرة وفي الإبداع حالة مرضية ولذلك يجب أن نستفيد من التقنيات، وأن نتخلص من عقدة الدونية إذا كنا راغبين، حقيقة، في أن يكون لنا شأن بين الأمم. في سنة 1997 عندما قدمت مسرحية "عتقو الروح" في المسابقة الوحيدة التي نظمتها وزارة الثقافة، أشرت في بداية النص إشارة لابد من قولها هي: شكسبير، برست، موليير، أسماء شكلت أضلاع مثلث يصعب اختراقه، لنحول المثلث إلى مربع أهديكم "عتقو الروح"، انتظروا عبد الحق الزروالي قادم". هذا ليس غرورا وأنا متأكد أنه لو ترجمت إلى اللغة الانجليزية أو الألمانية لانقلبت الموازين ولتغيرت وجهة نظر العالم إلينا من خلال نص واحد. علينا أن نضع كل قدراتنا الفكرية والإبداعية لمسايرة حركة الثقافة والإبداع في العالم، لا أن نبقى نشتغل في مواضيع وأسئلة بسيطة جدا. *كيف ترى وضع المسرح في العالم العربي؟ - المسرح في عالمنا العربي يعيش مرحلة تسكع وتشرذم وانفلات إبداعي، وعندما نذهب إلى مهرجانات مسرحية كقرطاج والقاهرة نشاهد مسرحيات يمكن أن تصنفها في أي إطار إلا إطار المسرح العربي، حتى أني قلت مرة في مهرجان قرطاج إني أخشى على هؤلاء المسرحيين الذين جاؤوا من أقطار عربية مختلفة، من شئ واحد هو أن يقوم أرباب الملاهي الليلية وشركات السيرك بمقاضاتهم بتهمة التدخل في اختصاصاتهم. مسرحنا العربي يعيش الفوضى ودعوة مفرطة لمسرح الصورة ومحاولة نقل أجواء الملهى الليلي ووضعها فوق خشبة المسرح بحجة التجديد والتجريد. المسرح سيظل هو الكلمة والممثل وما عدا ذلك، فهو مجرد إضافات فنية قد تكون لها قيمة. على كل حال، يمكن القول بأن المسرح العربي الآن هو في غرفة الإنعاش، لن أقول بأنه يحتضر لإيماني بأنه سيولد من رماده مجددا كطائر الفينيق. فالمسرح الذي استمر طيلة هذه القرون وقاوم، لابد وأن يستمر من خلال رموز وتجارب وإن كانت معدودة على عدد أصابع اليد.