بسم الله الرحمن الرحيم بعد تغريب بعض المترفين الذين رضعوا لبان ثقافة المحتل بمدارس التغريب في الداخل والخارج وتهيئتهم ماديا وعلميا لتولي المناصب العليا في الدولة؛ كي يتمكنوا من تنفيذ خطط الكيد والمكر الرامية إلى طمس هوية الحضارة الإسلامية، ومحاولة ربط المغرب الإسلامي بالغرب فكريا وماديا، تتواصل جهود التغريب تحت شعارات خداعة وبراقة هدامة لإبعاد الشعب عن لغة كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بالدعوة إلى اعتماد "الدارجة المغربية" لغة في التعليم والحياة العامة (وهي معتمدة جزئيا) ليس حبا في الدارجة أو الشعب بل باعتبارها وسيلة من الوسائل الخفية لإبعاد الناس عن اللغة العربية، سيما بعد انسداد أفق "الفرنسة" وخيبة "الفرنكوفونيين" ومن على شاكلتهم، بسبب تمسك المغاربة بهويتهم وعقيدتهم ولغتهم رغم القرارات السياسية الجارية بما لا تشتهيه رياح المغاربة، فكان طبيعيا أن يفكر عملاء المحتل ودعاة التغريب في أمر ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، ظاهره: تقريب العلوم من المجتمع! وباطنه افتراس ما بقي من التعريب، في الإدارة والتعليم والإعلام، والإعلانات، لتصير الفرنسية لغة أبناء الطبقة البورجوازية وما بقي من فئات الشعب لا تحسن الفرنسية يكفيها أن تقتصر على الدارجة في مختلف وسائل الاتصال والتواصل. دعوة قديمة وأسلوب تغريبي جديد ! والدعوة إلى اعتماد الدارجة المغربية ليست جديدة بل تولى كبرها مستشرقون وعملاء الاحتلال؛ حيث كانت بداية هذه الدعوات من بلاد الكنانة ومنها امتدت إلى البلدان الإسلامية؛ لما جندت مؤسسات التغريب أنصارها للدعوة إلى اعتماد العامية وإبعاد العربية الفصحى، عن واقع الأمة وحياتها العلمية، لإحداث فجوة بين الشعب والدين بجهل أحكامه وتقويض الجيل الناشئ من العلماء المجتهدين والمجددين؛ سيما وأن العربية كما يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: "ركن من أركان الاجتهاد" (الموافقات، ج: 1، ص: 5) وممن تصدر هذه الدعوات نجد من الألمان الدكتور "ويلهيلم سبيتا" سنة: 1880 م، ومن الإنجليز نجد: "ويليم ويلكوكس" ...وغيرهم كثير من المستشرقين والمستغربين من أبناء جلدتنا. وتأتي توصية اعتماد الدارجة في التعليم التي تعالت بها أصوات خلال الأيام الماضية في هذا السياق امتدادا لجهود التغريب الفاشلة، التي ما يزال بعض أبناء هذه المدرسة لا يكفون عن رفع توصياتهم وتمرير رسائلهم متى أتيحت لهم الفرصة لذلك. فبعد فشل جهود الفرنسة فكريا وأخلاقيا نسبيا، كان لابد من التفكير في تجربة أخرى مختلفة شكلا ومضمونا ومتقاربة في الهدف مع جهود الفرنسة بحيث يرمي الكل إلى إبعاد الشعب عن لغته وتجهيله بها؛ فلا يدري بعد ذلك ما الكتاب ولا الإيمان. واقتضت مجموعة من الظروف والملابسات تغيير وسائل الغزو لكسب المغانم وتخفيف المغارم؛ كما اقتضت تلك الظروف تسخير أبناء الجلدة بتكوين شخصيات غربية النزعة و إن كانت مغربية الجنس! من محاربة لغة القرآن إلى محاربة القرآن وجدير بالنظر في هذا المقام تحليل اقتران الدعوة إلى اعتماد الدارجة في التعليم، مع الدعوة إلى تقليص التعليم الديني، مما يبرهن بجلاء لذي عينين أن الحرب لا تقتصر على اللغة بل يراد بها أصل تلك اللغة، وما من أجله تقرأ تلك اللغة، وهو الدين والشريعة. وقد قرر الإمام الشاطبي أن: "الشريعة عربية، وإذا كانت عربية؛ فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم... فإذا فرضنا مبتدئا في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة، أو متوسطا؛ فهو متوسط في فهم الشريعة والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية، فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة"(الموافقات، ج: 5، ص: 72). ولما كانت العربية كذلك سعى الخصوم لمهاجمتها؛ لأن حصرها حصر للشريعة، وتغييبها تغييب للدين والشريعة!. وللقارئ أن يتأمل تاريخ ومسيرة من يتصدرون دعوات إقصاء العربية ليلاحظ أنهم حفدة بررة لدعاة التغريب وامتداد لغزاة الفكر والثقافة، دخلوا في هذا المضمار الخسيس وتلقوا إتاوات قد تكون مادية أو معنوية، مقابل الطعن في لغتهم وتاريخهم وهويتهم؛ لكون اللغة العربية هي اللغة التي تربط المسلم بفهم دينه، وهي اللغة الوحيدة التي صمدت أمام عتو مختلف اللغات الرامية إلى الاحتلال اللغوي للشعوب الإسلامية. آفاق الدعوة إلى اعتماد الدارجة: إن الخطابات الرامية لإبعاد اللغة العربية عن حياة المجتمع في مختلف المجالات رامية إلى التمكين للمحتل فيما فشل في تحقيقه من أهداف، والتنكر لعقيدة الأمة وجذورها التاريخية، ومسخ هوية المجتمع، وتغيير بنيته الفكرية، والحرب الدائرة على العربية لا يقصد بها حرب اللسان والبيان، وإنما هي حرب لأصلهما من الكتاب والسنة وأقوال علماء الأمة. والمراحل القادمة في حياة الأمة ستشهد حربا ضروسا بين سدنة الاحتلال وحملة مشروع اختراق الأمة وخلخلة مشاريعها الفكرية والاجتماعية، وستتلقى حربا فكرية أشد ضراوة مما تلقت أيام الاحتلال الذي رحل بدباباته وبقي بآثاره جاثما على مجالات الحياة المختلفة. ولا تقتصر رغبة سدنة الاحتلال وحماته في التغريب بل يسعون إلى المظهر بمظهر المصلح الغيور على مصلحة الشعب، حاملين شعارات خداعة وبراقة تحت شتى المسميات مدعين الإصلاح وحقيقة حالهم كما قال الله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) ( البقرة : 11-12 ) . ونزف البشرى لدعاة التغريب اللغوي بفشل دعوتهم، وذلك بفضل الله ثم بفضل القرآن الذي أضفى على العربية هالة من الهيبة والجلال غمرت كل مسلم مهما كان جنسه ومهما كانت لغته، فاستمرت حية تتوارثها الألسنة جيلا بعد جيل وستبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد يكتب لأي لغة أن تندثر أو تموت إلا لغة القرآن الباقية ببقاء هذا القرآن، ومن تمام حفظ الله لكتابه الذي تعهد بحفظه حفظ لغته وحمايتها، قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) الحجر: 9). وحفظ اللغة العربية في تاريخ الأمة لم يرد به حفظ اللغة لذاتها بل اقتضته الحاجة لفهم الشريعة التي كانت وما تزال هي الدافع لحفظ لغة العرب ومشتقاتها. خلق الصراع بين أبناء اللغة الواحدة: وحتى لا يبقى الخلاف بين لغة فرنسية غريبة عن المجتمع وجدت في محاربتها شبه إجماع وطني، اقتضت تقنيات المعركة الفكرية تغيير الأسلوب ليكون الخلاف بين لغة ودارجة تنتميان إلى الشعب ومن رحمه، الأولى: منبثقة من كتابه الذي يتعبد الله به، والثانية: من عاداته ولهجاتها وأعرافه، فتكون المعركة داخلية بين أبناء الدين والشعب الواحد. وهذه الجهود وإن لم تقوض ما بقي من سند للعربية وعناية واهتام بها؛ فعلى الأقل تثير الشكوك حولها، وهو أمر يعلم القائمون عليه فشله الذريع؛ غير أنهم لا يتوانون في إحداث الاضطرابات الفكرية في الأمة سدا لنوافذ التقدم والتطور واشتغالا بقضايا هامشية عفى عليها الدهر. قطع روابط الأخوة بين البلدان العربية والإسلامية ولكيلا تظل الشعوب الإسلامية تربطها لغة ودين واحد وأمة تسعى إلى الوحدة والخروج من التمزق والتشذرم، لا يتوانى التغريبيون في إضعاف الروابط؛ فبعد أن نجحت جهود التغريب نسبيا في إضعاف كثير من روابط الأخوة يأتي الدور على رابط اللغة لإحياء نعرات ولهجات كل دولة؛ بل وكل قبيلة داخل البلد الواحد وسيتنافس البلداء والرعاع حول أي لهجة أقوم وأسد سبيلا، ويتطاحنون حول دراجة الشمال أو الجنوب، وربما لن تعترف بذلك قبائل أمازيغية لا تدري من الدارجة نقيرا ولا قطميرا، وقد تقوم بسبب ذلك خلافات شبيهة بخلافات قبائل الجاهلية الأولى، التي لم يوحدها إلا دين الإسلام الذي وحد الأمة في الرب والنبي والدين والقبلة واللغة والشعائر والمناسك؛ ف(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ...) (الأعراف: 43). [email protected] www.facebook.com/karimkallali