لشدة اعتزاز العلمانيين بمواقعهم داخل المجتمعات الإسلامية، منذ حلول الاستعمار بأرضنا – وكأنهم يحيطون علما بكل شيء – أخذوا تحت وطأة الانبهار بالغرب، ينظرون إلى العلماء نظرة دونية مريبة، حيث يعتبرونهم من وقفوا ومن يقفون وراء التخلف الذي عرفه العالم الإسلامي برمته؟ ثم ظهر الحقد الدفين للمذكورين قبله، حينما ظهر ما كان شبه مدفون تحت الرماد إلى السطح. فجاء ظهوره بالنسبة إليهم داخل السلطة وخارجها كنار تهدد بالإحراق ما حولها ومن حولها! فجرت محاولات لإطفائها قبل أن تأتي على الأخضر واليابس. لكن المحاولات تلك باءت بالفشل الذريع حتى الآن! وسلاح إطفائها هو الإعلام الحزبي والرسمي في موازاة مع حملات الاعتقالات والمتابعات والتعذيب، وحلق اللحى، ومنع القبض في الصلاة مع أنه من صميم المذهب المالكي، بل وكان ص يقبض حتى قبض. إضافة إلى المحاكمات التي يتعرض لها الإسلاميون، والتي يصفق لها العلماجيون اليساريون على وجه الخصوص. ممثلين في الاشتراكاويين أو في الشيوعاويين. بحيث أخذ الفكر الظلامي السلطوي والحزبي في الضخامة بعد أن كان مخفيا إلى حد ما خلف ركام من الخطابات الديماغوجية الصادرة بنسب متفاوتة، من طرف أعداء المناداة بضرورة العودة للاحتكام إلى الشرع بمفهومه العريض الواسع؟ فكان من بين سلاح العلمانيين الحقودين على انتشار الاتجاه صوب المطالبة ب"الأسلمة" الشاملة، وصف الإسلاميين ب"الظلاميين"، ووصف ما يدعون إليه ب"الظلاميات". وكان من الطبيعي أن تعتريهم أحوال من يداهمهم مهاجمون في فترة، لم يكونوا يتوقعون فيها أي هجوم؟ وهم الذين كانوا يرددون في ماضيهم الزاهر: "الضغط يولد الانفجار"؟ فأيدوا الإرهاب من منطلق يساري ثوري، مع تعليله بالضغط الممارس على المناضلين الشرفاء من طرف السلطات الحاكمة. ناسين أو متناسين بأن نفس السلطة هي التي سلطت قمعها على خصوم علمانيتها التي لم تحقق من أهداف ما بعد الحرية والاستقلال غير القليل القليل مما كان الشعب يتوقعه ويتوق إليه! إن الإشكال منذ البداية هو سخرية العلماجيين المشاركين في تسيير شؤون الدولة فور استقلالها عن المستعمر الغاصب المحتل. وتركيبة "المجلس الوطني الاستشاري" المعين لا المنتخب، بين عام 1956م وعام 1959م، تعطي صورة العلمجة المبكرة دونما إدخال لاستشارة الأمة في الاعتبار؟ فمن بين 76 عضوا من أعضائه يوجد أربعة علماء: الحاج محمد التطواني. الحاج محمد بن الطاهر الإفراني. الحاج محمد داود. والشيخ محمد ماء العينين. أما مكتب المجلس المعين، فهو على الشكل الآتي: المهدي بنبركة رئيسا. والمحجوب بن الصديق نائبه الأول. والتهامي عمار نائبه الثاني. والأمين الأول للمجلس: الدكتور بناني. وأمينه الثاني: الهاشمي بناني. والمستشارون هم على التوالي: الحاج أحمد المذكوري. والحاج محمد داود (عالم ). وأحمد والحاج التاجر السوسي. نقول: عندنا في سوس وليمة يقيمها أحد المتطلعين إلى أن يحل صاحب الضريح المزور عقدة من عقده!!! هذه الوليمة يسميها الأهالي ب"المعروف" ويحضر لتناولها النساء والرجال والأطفال حسب القربان الذي تم ذبحه عند عتبة الصالح المقدس! ويحدث أن ينال أحد الحضور من اللحم نصيبا أوفى من نصيب غيره. فيقال له: "جدتك في المعروف"، يقصد كطباخة أو كمشرفة على الطبخ. لكن العالم الوحيد الذي هو المستشار الثالث في "المجلس الوطني الاستشاري" لا توجد له فيه جدةّ!!! وإنما هو أشبه ما يكون بيتيم في "مأدبة اللئام". يعني أن الحضور في المأدبة حينها سوف يمتطون "تايتانيك" العلماجية على اعتبارها الباخرة الوحيدة الآمنة التي يضمن ربانها الوصول بركابها إلى بر الأمان! لكنها في الواقع مجرد نذير شؤم!!! لأن ركابها في نفس العام الذي وقعت فيه معاهدة الحماية عام 1912م، غرقوا معها إلى حد أن الأغلبية الساحقة منهم لم تظفر بالنجاة! فما خطط له ركاب "المجلس الوطني الاستشاري" منظورا إليه كسفينة، مستقلو ظهرها، لم يتجهوا كليا إلى المجهول. وإنما إلى المعلوم الذي تم لهم تحديد خريطته، لكنهم لم يتمكنوا من الوصول إليه!!! فهل نتحدث عن المواجهات الدامية بينهم كعلماجيين في الشوارع والأزقة والدروب؟ أم نتحدث عن الاختطافات والاغتيالات والمداهمات، والممارسات المشينة التي لا تشرف العلماجية في شيء. بقدر ما تقلل مما يعتبره معتنقوها إنجازات تحت مسمى حمل المغرب في ظروف وجيزة إلى قلب الحداثة والعصرنة والتقدمية!!! تكفي الإشارة هنا إلى المفاوضات التي أجروها مع المستعمر في "إيكس ليبان". والتي لم تسفر عن تحرير الأراضي المغربية بكاملها. بل تركوا للجزائر أجزاء منها بحجة وجوب احترام الإخوة الأشقاء! ريثما يتخلصون من الاستعمار، ثم نسوي معهم مشكلة الحدود والأراضي التي ألحقها الغزاة الفرنسيون بأرضهم قبل عام 1912م. ولم يفلح العلماجيون حتى في استرداد الأراضي الفلاحية المغتصبة التي ظلت بيد المستعمرين إلى السبعينات من القرن الماضي، بعد أن حصل جلهم على المقابل المادي لها. فكان أن استفاد منها ذوو النفوذ والسلطة والمال! فضلا عن التراخي في قضية الجنوب المغربي من خلال المفاوضات التي جرت مع الإسبانيين لاستعادة كل من طرفاية وسيدي إفني. فكان من ذيول تراخيهم ما أصبح الآن غصة لكل المغاربة الذين يدفعون ثمن ما لم تكن لهم في تأخير استعادته لا ناقة ولا جمل! وحتى بعد استرجاعها (أي الصحراء) كجزء لا يتجزأ من التراب الوطني، فإن الدبلوماسية العلماجية أصيبت عندنا بعطب الإصغاء إلى نصيحة الأشقاء العرب والأفارقة. فقبلنا بالاستفتاء الذي أدى القبول به إلى الوضع السيء الذي عقد أكثر من قضية! مما أثر على مسار العلاقة المغربية الإفريقية من جهة! وعلى مسار التنمية والوصول على الأقل إلى ما يمكن عده خمسون بالمائة من الطموحات التي يمتزج فيها المادي بالمعنوي. فالليبرالاوية المعتمدة عندنا لم توفق إلا في إثراء بضعة آلاف من المغاربة. هؤلاء الذين تعيش الجماهير البائسة على فتات موائدهم الفاخرة. أما الحرية والكرامة والديمقراطية، وكافة المظاهر الليبرالاوية، فلا تزال قيد الدرس، وإن بدا أن بعضها في سبيل التبلور على أرض الواقع. فإن ما بدا كذلك، أشبه بقطرات من صنبور تنزل بتثاقل. بينما الشعب يريد أن تمتلئ مراجيله ليهنأ باله من كون الماء متوفرا لديه! ولكون ما يشرب بعده الماء، لا تحول بينه وبينه تكاليف باهظة، ولا بطالة في كل ربع من ربوع بلاد، خيراته لو تم استغلالها وحراستها من مكر اللصوص النهمين، لما فتح الباب مترعا أمام المهاجرين الذين طالما غرقوا في أعماق البحر الأبيض! ولما تعرضوا للإهانة والتهميش خارج بلدهم الذي لم يفلح علماجيوه، إلا في وضع دساتير ممنوحة على مقاس من وقفوا وراء صياغتها، كي تكون عبارة عن حماية للحكام أكثر مما هي حماية للأمة؟ فكان لا بد للشعب كله أن يتدمر. بغض النظر عن الانتماءات الأيديولوجية لكافة فئاته. إذ العلماجيون كحكام، وكأحزاب وكهيئات وكمنظمات، لا يبدو أنهم يتحلون بفضيلة الإنصاف. فقد أجمعت أغلبيتهم الساحقة على تأييد موقف الدولة بخصوص حرمان فصائل بعينها من العمل السياسي المعلن! وكأنها تدفع بهم إلى العمل السري، أو إلى تبني اختيار الإرهاب القاتل!!! فقط لأن قرارا سلطويا جائرا حرمهم من العمل المشروع! وهذا القرار الجائر في ظل العلماجية، وفي ظل وجهها الليبرالاوي على وجه التحديد. يشكل الفكر الظلامي السلطوي والحزبي في أبشع مظاهره! وكأننا من شدة بشاعته وبشاعة مختلف تجلياته، عادت بنا عجلات الزمن إلى عهد المأمون العباسي الذي أقدم على اتخاذ قرار غاشم ظالم يقضي بفرض الفكر الاعتزالي على الأمة بكاملها لأنه معتزلي متنطع متغطرس؟ يعني أن العلماجيين من ذوي القناعات القائلة بخطر الدين على النظام القائم، يجمعهم اليوم هم واحد هو محاصرة الإسلاميين للحد من تنامي أعدادهم، ومن انتشار خطابهم أو رسائلهم في الأوساط الشعبية! وما تحرك العلماجيين المصريين لإخماد ثورة الجماهير، واختيارات الجماهير، غير نموذج حي ملموس لإبراز همجية العلماجيين أولئك المستجيرين بحماية الأمبريالية العالمية لقمع طموحات الشعوب بأية وسيلة! حتى ولو بلغت من الدناءة والخسة ما بلغته! ولا بد هنا من توضيح الأفكار الآتية: 1- العلماجيون جملة وتفصيلا مسؤولون عما وصلت إليه الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العالمين: العربي والإسلامي. ولا صحة للادعاء بأن الحكام وحدهم هم المسؤولون عن الأوضاع تلك. فالأحزاب برمتها تمدهم بالسند اللازم للاستمرار في تطبيق قشور من الليبرالاوية المقيتة، التي لا يتردد في الواقع المعيش عندنا غير صداها. فقلبها النابض مفقود. نقصد الحرية والمساواة والأخوة والكرامة. وهي للتذكير مبادئ دينية قبل أن تصبح مبادئ عالمية. كما أن الأحزاب العلماجية أمدت الحكام لسنوات طوال في بعض الدول بدعم لامشروط، لتطبيق مسمى الاشتراكية العلمية (مصر. العراق. سوريا. ليبيا). وفشل الليبرالاويين والاشتراكاويين تترجمه الوقائع الراهنة في أي بلد يقع عليه اختيارنا. 2- إن تحرك الإسلاميون في مختلف دول العالم لاستنكار ما استنكرته الأحزاب العلماجية من ظلم ومن طغيان الدكتاتوريين المستبدين، منذ أمد بعيد، فإن تحركهم لا يعني إلغاء التهمة الموجهة إلى تلك الأحزاب، والتي تنحصر في كون المتهمين بها يسخرون كالحكام من المطالبين بالتغيير على أساس النهج الإسلامي في الحكم. إذ طالما وصفهم هؤلاء وأولئك بالظلاميين وبالإرهابيين! والحال أن الأوصاف المشينة الصادرة عن الحكام وعن الأحزاب تجاه الإسلاميين، تعبير عن التكامل والتعاطف بين الطرفين المعاديين للإسلام السياسي بالتحديد!!! 3- بما أن التوجيهات الاستخباراتية الأمريكية، لا تقف عند الباب، إنما تدفعه وتدخل بدون ما استئذان. فقد بدا لها منذ الثورة الإيرانية، تنشيط الفكر الظلامي الديني من خلال دعم ممثليه عبر التراب الوطني بمبالغ مالية مغرية! كانوا مشايخ للزوايا، أو كانوا قيمين على الأضرحة. فإن الأحزاب العلماجية والإسلاماويين يشكلون أعضاء فاعلين في الحلف المقدس، على أساس تحويل الجماهير عن الانتماء إلى الأحزاب الدينية المسيسة إلى الزوايا التي تخدم الأنظمة في أكثر من بلد عربي! 4- نحن لا نعمم وصف الإسلاميين بالإسلاماويين. بل إننا نميز بين هذين الإسمين. فالإسلاميون لم ينصبوا أنفسهم أعداء للدين من أي منطلق كان. ولا نصبوا أنفسهم شركاء للتستر على سيادة الفكر الظلامي الديني والسلطوي والحزبي. إنهم عندنا رساليون حريصون على توضيح رسالة الله إلى البشرية بعيدا عن أي تحريف قدر الإمكان. وبعيدا عن أي تشويه أو تدليس. أما الإسلاماويون فهم الذين لم يترددوا في المشاركة الفعالة قصد الترويج للفكر الظلامي الديني كمساهمين مباشرين في تنشيطه، دون أن يملكوا ولو بصيصا من الشجاعة لفضحه والتشهير بخطره على الشعب المغربي برمته! كما أنهم لم يترددوا في المشاركة لغاية تعزيز وضع الفكر الظلامي السلطوي والحزبي. ومن خفي عليهم هؤلاء فليبحث عنهم في صفوف من يشكلون عندنا اليوم مسمى حكومة الملتحين!!! 5- لنكرر ما قلناه في عدة مقالات لنا وفي أكثر من كتاب: إن الفكر الظلامي هو كل فكر يتناقض مع منطق الدين. ومنطق العقل. ومنطق التجربة. فكوننا نبني أضرحة، ونرفع عليها قبابا، ونذبح عند عتباتها، ونستغيث بالمدفون فيها، فكر ظلامي ديني لا لبس فيه ولا غموض معه! وكوننا ندعي الارتباط بالليبرالية أو بالاشتراكية، لكننا نمارس التمويه والتضليل والديماغوجية ونتعرض للفضائح بوقوفنا في وجه المطالبين بالحرية والكرامة، تكون تصرفاتنا هذه فكرا ظلاميا بامتياز! وكوننا نتحدث عن تحسن الأوضاع المالية والاقتصادية والاجتماعية، ثم نكتشف كملاحظين ما يبطل ادعاءاتنا هذه، نكون كمن وضع على جبهته لافتة مكتوب عليها: نحن حماة الفكر الظلامي السلطوي والسياسي والحزبي بامتياز!!! وهو نفسه المكتوب على جبهة السيسي قائد الانقلاب العسكري ضد الشرعية التي وقع عليها اختيار شعب مصر الرازح تحت وطأة الظلاميات العلماجية منذ عام 1952م. أي على مدى ستة عقود من المعاناة والقهر والتضليل تحت الراية السوداء للاستبداد الغاشم!!! الموقع الإلكتروني: www.islamtinking.blog.com العنوان الإلكتروني: [email protected]