نعم لاختيار الشعارات. لكن لا لوجود تناقضات فاضحة صارخة، بين ما نقول وبين ما نفعل! خاصة متى تزعم دعاة الاستناد إلى الدين إلقاء الكلام على عواهنه! والحال أن الدين الحق هو العمل قبل كل شيء وبعده. والعمل يغطي كافة جوانب الحياة في المجتمعات البشرية، بدون ما استثناء يذكر. وفي هذا السياق التاريخي الإنساني الواقعي – سياق التكامل بين النظري والتطبيقي – أذكر أنني لم أكن غريبا - والخطاب الإسلامي يجري إعداده مع مطلع السبعينيات من القرن الماضي بين ظهراني العلماجيين المعادين للدين - بل إنني كنت حاضرا في حومة صياغة جل من عناصر ذلك الخطاب الفاعل في المسار السياسي لبلدنا حتى الآن. فقد ربطتني علاقة جيدة بالراحل عبد الكريم الخطيب، وبالراحل عبد السلام ياسين، وبعبد الإله بكيران. هذا الأخير الذي طالما زارني وزرته، وناقش معي وناقشت معه بحضور صديقه عبد الله باها، أوضاع الحركات الدينية داخل المغرب وخارجه. وكانت حينها جماعة الإصلاح والتجديد تبحث عن الذات، مثلها في ذلك مثل بقية التكتلات المعادية للعلماجيين عامة، ولليساريين منهم خاصة. إنها إذن أطراف تدور حول الدين، وتتحدث عن الدين، وتخوض في الدين، وتستثمر الدين وفي الدين! وتسخر من الدين ومن كل داعية إلى تفعيله! والدين عندها يفهم من زوايا عدة. فالدكتور الخطيب كوجه من وجوه الحركة الشعبية التي ساهم القصر في صنعها لصد اليسار المغربي المتنامي داخل حزب الاستقلال، كان قد اختبر عن قرب كل ما يجري على المسرح السياسي، خاصة بعد عام 1979م – عام الإطاحة بالطاغية شاه شاه محمد رضا بهلوي في إيران - وهو مدعم في اختباره ذاك بمعلومات أمنية مؤكدة. فانتهى إلى ضرورة استثمار المد الإسلامي لدعم الحكام العلماجيين بلقاح هو في نظره سوف يقويهم بدون ما شك. فعقد العزم تلقاء نفسه على تأسييس حزب إسلامي، لكنه – كما أخبرنا مرة في بيته – طلب من الحسن الثاني السماح له بذلك التأسيس، فكان أن أجابه بقوله: لو طلبت الإذن مني بتأسيس زاوية، لأذنت لك ولساعدتك! ففهم من كلام الملك ميله الراسخ إلى التناغم مع الطرقية والقبورية لما لهما من دور فعال في خدمة الأنظمة المغربية الحاكمة عبر التاريخ منذ عهد بني مرين على وجه الخصوص. حتى ولو أن هناك زوايا تثور في وجهها من حين إلى آخر. لكن إرغامها على الدخول في الطاعة والاستسلام تم بالتدريج على يد العلويين بدءا بغزو الملك الرشيد لزاوية أهل الدلاء ضحوة يوم الخميس الثاني عشر من ذي القعدة سنة ثمان وسبعين وألف هجرية، وكان أن هجر أهلها وشتت شملهم وأجلاهم عن الزاوية كما يصف الحسن اليوسي في "محاضراته". ثم تلا ذلك إخضاع الشيخ أحمد الناصري للإقامة الجبرية بمكناس على يد الملك إسماعيل العلوي، وهو في طريقه لأداء فريضة الحج! وهو للتذكير، وارث المشيخة عن والده محمد بن ناصر الدرعي مؤسس الزاوية الناصرية، التي يغلب عليها الطابع السني، على عكس غيرها من بقية الزوايا الموغلة في الابتداع والضلال المبين! وإشارة منا فورية تقضي بأن الحكام وجدوا ويجدون حتى هذه اللحظات مبتغاهم في نشر فضائلهم على يد القبوريين والطرقيين الذين يحظون بالتكريمين: التكريم المادي والتكريم المعنوي!!! وعود على بدء نجد الدكتور الخطيب، واصل بإصرار شديد عزمه على الخروج بحزب إسلامي (معولج) إلى الوجود! وكان من قدري أن أساهم في تقوية ذلك الإصرار عنده أثناء لقاءات مستمرة في منزله. إلى حد أننا خرجنا بورقة مذهبية في غاية الاختصار، مؤداها أن استقرار الأوضاع التي يتطلبها الازدهار الاقتصادي والمالي، مرتبط بتفعيل الإسلام في كافة المجالات. وكان من ضمن ما ورد في تلك الورقة: "الحاكمية لله، والمال مال الله"! لكن الورقة – للأسف الشديد – ضاعت في زحمة من الأحداث التي تلت عام 1983م. فقد التحقت بموريتانيا في إطار البعثة الثقافية المغربية، وحين عودتي إلى المغرب عام 1988م واصلت اتصالاتي مع الدكتور الخطيب ورجاله، كما واصلت اتصالاتي مع بنكيران ورفاقه في درب البحث عن مشروعية الحضور في المشهد السياسي، بينما انقطعت صلتي بجماعة العدل والإحسان لنفس السبب الذي دفع بأخي وصديقي الراحل محمد البشيري إلى الابتعاد عنها. فقد تم النقاش بيننا بخصوص أيديولوجية الجماعة، فأنكرنا على شيخها هويته الصوفية الموغلة في الابتداع. وهو ما عبرت عنه بكامل الوضوح في كتابي: "خريج المدرسة البودشيشية المشبوهة: عبد السلام ياسين". غير أننا لم ننكر على الرجل موقفه السياسي الذي وجد تأييدا مطلقا له في الكتاب والسنة. فأصبحت – بناء على ما أوجزت الكلام عنه وفيه – أمام من يريد توظيف الدين لحماية النظام الذي لا يرى أن غيره صالح للمغاربة! وأمام من يريد الدخول إلى بيت الولاء والطاعة بدون شروط كبقية الأحزاب العلماجية، وفي مقدمتها الحزب الشيوعي الذي تحول اسمه - قبيل إعلان طاعته – إلى حزب التقدم والاشتراكية. ثم أمام من يرفض الدخول إلى بيت الولاء والطاعة إلا بشروط نعتبرها تعجيزية على المستويين النظري والتطبيقي! بصرف النظر عن أطراف أخرى لا ترى الحل إلا في إعلان مسمى الجهاد على الحكام المستبدين! مهما تكن النتائج. ومهما تكن الأضرار والخسائر الناجمة عنه بمختلف الوسائل. وأذكر هنا للتاريخ – خلافا لكل ما يمكن أن يقال عما كتبته وأكتبه – كيف أنني قدمت نموذجا لقائد مسلم متسنن بمقدوره العودة بالأمة المغربية تحديدا إلى الأصول والمنابع. ونموذجي كان هو سحنون القيرواني الذي جعلت منه موضوعا لنيل دبلوم الدراسات العليا بدار الحديث الحسنية عام 1989م. والرجل – للتذكير – هو صاحب "المدونة الكبرى" في الفقه المالكي. هذه التي كانت تحفظها في الصحراء المغربية وحدها ألف امرأة، كما ورد عند أستاذنا البحاثة عبد العزيز بنعبد الله في معجم من معاجمه. ثم كان أن كتبت حينها مقالة في إحدى الصحف المستقلة عنوانها: بين عبد السلام سحنون، وعبد السلام ياسين، وهو يومئذ خاضع للإقامة الجبرية، كما خضع لها سحنون على عهد الأغالبة بتونس. إلا أن مقارنتي بين الرجلين لا تستهدف غير إبراز الجانب السياسي عندهما. أما الجانب الديني ففرق شاسع بين الرجلين! فالعالم المتمكن المحيط بمذهب مالك، غير شيخ صوفي تربى في حضن مبتدع لا نصيب له يذكر في العلوم الشعرية العملية!!! ثم إني – كرفض مني لواقع الاستغلال السياسي الرسمي للدين – جعلت التصوف الطرقي بالمغرب الحديث والمعاصر عنوانا لرسالة الدكتوراه. هذه التي عانيت من تهيئتها للمناقشة ما عانيته. تكفي الإشارة بإيجاز إلى كونها لم تناقش إلا بعد مخاض عسير. فقد أرغمت على تغيير بعض المباحث منها، وعلى حذف بعضها الآخر. فأزلت منها مضطرا - على سبيل المثال لا الحصر - مبحثا عنوانه: "وليان كذابان جاهلان بالدين". أقصد كلا من أبي شعيب الدكالي، وأبي يعزى تلميذه أو مريده! ثم أثبت نفس العنوان في مؤلفي لعام 2008م "عرقلة الفكر الظلامي الديني للنهضة المغربية". ودون الدخول في التفاصيل التي طلبت مني الدخول فيها جهات عدة، أشير إلى أن صديقي رئيس الوزراء الحالي: عبد الإله بنكيران. رجاني – بعد انفضاض تجمع خطابي لفائدة الأفغانيين في مسرح محمد الخامس بالرباط عام 1992م – أن أتوسط له لدى الراحل عبد الكريم الخطيب، قصد التحاق جماعته بالحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية، بعد أن أغلقت أمامه أبواب كافة الأحزاب، وفي مقدمتها حزب الاستقلال. وكان ذلك بحضور الكاتب الخاص للراحل الذي يحترمني أعز ما يكون الاحترام. أقصد أخي وصديقي: بوشعيب الشراطي. هذا الذي حضر مراحل متقدمة من اهتمامات الخطيب بتأسيس حزب إسلامي، يكون بإمكانه الوقوف في وجه العلماجيين اليساريين خدمة لقناعاته التي يتقدمها الدفاع المستميت عن واقع الحكم المغربي القائم. دون أن يكون السيد الشراطي هو وحده الذي كان يمدني بمعلومات إضافية عن نوايا الخطيب، فقد كان أستاذي المصري الراحل: رشدي فكار من ضمن المصادر التي كنت أعتمدها في متابعة تحركات الخطيب الدينية والسياسية. وبعد يوم واحد من تقدم بنكيران إلي بطلب مقابلة الخطيب، عساه يفتح الباب أمام تلبية رغباته، دخلت في حوار مع الرجل لمدة تجاوزت عشرة أيام. والشاهد الذي كان يجدني تقريبا طوال تلك المدة في مكتب الخطيب الموجود بالعيادة المعروفة ب" باروك بير". أدلى بشهادته أمام ما يقرب من ثلاثين فردا ممن ساهموا في تأسيس "حزب النهضة والفضيلة". مما يعني أنني واحد من مؤسسي هذا الحزب الذي أعرف مؤسسه منذ أواسط السبعينيات من القرن الماضي. لقد خاطب الحضور – ونحن داخل بيته في مركز الشبيبة والرياضة بغابة معمورة – فقال: السيد وراضي هو الذي ساهم في القضاء على الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية، حينما فاوض الدكتور الخطيب، بخصوص التحاق بنكيران ورفاقه بالحزب. فكان أن قدر لي مرة أخرى أن أساهم في ولادة حزب هو بدوره قائم – كما يدعي مؤسسه محمد خالدي – على أساس المرجعية الإسلامية. بل وتوثقت علاقتي بالأستاذ المقتدر المحامي الكاتب الصحفي محمد شريف الذي تولى إعداد الورقة المذهبية هذه التي ناقشناها سويا مرة في بيته ومرة في بيتي. وقد انتهى إلى علمي أن بعض السلفيين وقعوا في حضن حزب أعرف الكثير من مداخله ومن مخارجه التي يختصرها: القبول بلا شروط! هذا القبول الذي رفضته شخصيا إلا برفع الحزب المولود لشعار المطالبة بإلغاء العمل بالفكر الظلامي الديني كسند غير شرعي وغير قانوني وغير أخلاقي لحكامنا الحاليين! فإن كانت رسالتي الجامعية عن الإمام سحنون تظهر في شخصه صفات من يستحق قيادة حزب ذي مرجعية إسلامية محضة. وكانت رسالتي الجامعية الثانية، فضحا مقصودا لدور الطرقية والقبورية السيئتين في تقوية أوداج وعضلات الحكام، وكان وقوع الموصوفين بكونهم شيوخ السلفية في مصيدة حزب هو بالأساس امتداد لحزب علماجي أسسه القصر في أواسط الخمسينيات من القرن الماضي. وكان حزب آخر يشترط تفعيل الأحكام الشرعية العملية، أو حتى الوعد بتفعيلها كي ينضم لقافلة الأحزاب الذيلية المجرورة، لكنه على مستوى العلم بالدين متشبث بموروث من وابل البدع والضلالات كما عبر عنها زعيمه المرشد البودشيشي الأسبق عبد السلام ياسين! فيجب التساؤل عما إذا كانت هذه الأطراف جميعها مؤهلة لحمل المصباح؟ وعما إذا كان طرف واحد من بينها هو المؤهل لحمله؟ إن المصباح رمز للنور وللضياء وللتنوير والتنور. والله عز وجل في النطم الكريم "نور السماوات والأرض" والنور في اللغة له معنيان: معنى حسي مادي، ومعنى معنوي مجرد. وهاذان المعنيان يهماننا إلى حد عنده نرغب في أن نشاهد على الأرض سريان مفعولهما، وحكومة الملتحين كما يقال، جادة في تغيير الأوضاع المزمنة الفاسدة داخل حدود مغرب، عهده بالانتفاضة الشعبية الصاخبة العارمة المشروعة غير بعيد! لكن طاقم رئيس الوزراء، أهان بتصرفاته الهوجاء انتفاضة الجماهير التي كانت تحن ولا تزال تحن إلى الحرية والديمقراطية والكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية والقانونية، ووضع حد للديماغوجية الدينية والخلقية والسياسية. فلا ركن من أركان الإسلام وهو الزكاة تم تفعيله؟ ولا الأوقاف تؤدي الوظيفة التي وضعت لها منذ عهد الرسول ص حتى الآن! ولا تم توقيف مهزلة الاحتفاء بالأمن الروحي للدولة وللأمة. وهو احتفاء تساهم فيه الأوقاف بنصيب من المال، جنبا إلى جنب مع بعض السفارات وبعض الجهات الأجنبية! ولا المواخير جرى إغلاقها كمآوي للقادمين إلى بلدنا طلبا للذائذ الجنسية المتوفرة في كافة المدن المغربية؟ ولا آلاف المجازين وجدوا سبيلهم إلى توظيف مداركهم العلمية والمعرفية للنهوض بالمغرب المستقل! حتى نهب الحركة الشعبية المطالبة بالعدل وحده دون الإحسان، دخل عند أصحاب المصباح في خانة الإصلاح الذي تبجحوا كثيرا بالحديث عن إنجازه؟ بل حتى الدستور الممنوح مرة أخرى لم يعرف رأس حركة أصحاب المصباح كيف يحترمه؟ وكل ذلك منه ومن رفاقه في الدرب إدانة للأمة واستصغار لشأنها مقابل الخضوع للإرادة الخاصة! بينما الديمقراطية تتجسد في الخضوع للإرادة العامة! إنها مني مقولات موجزة وراءها الكثير مما تركت الإفصاح عنه إلى مناسبات أخرى غير الحديث عن المصباح وعن أهله أو عن أصحابه. لكن عندي كلمتان أختم بهما ما لدي من شهود على وقوعه. لا على تخيله أو فبركته. 1- أخبرت بنكيران بشروط الخطيب كي يلتحق هو ورفاقه بصفوف الحركة الشعبية. فقد بعثت إليه خطابا حمله إليه كبير أنجالي، ونسخته لا تزال حتى الآن بين يدي. فكان أن فتح الحوار المباشر بينه وبين الخطيب. وهو الحوار الذي سجله الدكتور رداد العقباني في مؤلفه "حزب العدالة والتنمية. بداية ونهاية". 2- قال لي الدكتور الخطيب في آخر يوم من أيام تفاوضي معه لفائدة بنكيران وأصحابه – و كأنه يتنفس الصعداء –: "أخيرا قبل صاحب الجلالة بانضمام جماعة بنكيران إلى حزبنا"!!! وبقية المعنى في رؤوسكم أيها المغاربة الأحرار!!! الموقع الإلكتروني : www.islamthinking.blog.com العنوان الإلكتروني : [email protected]