مع عصر الوسائط والميديا، لم يحظَ أي طفل في العالم بهذا الكم الهائل من الاهتمام والتعاطف والمتابعة لمأساته وعملية الإنقاذ. وحَّدَ قلوبَ ومشاعرَ الملايين على امتداد هذا الكوكب المتهرئ والمفتقِدِ إلى الشرط الإنساني La condition humaine أو المثير للشفقة بالفعل. أعطى درسا بليغا للبشرية في المحبّة والتضامن الإنساني، وعرّى أيضا عوْراتِ السياسة وتُجّار السلاح والمتنفعين من الفُرقة والضغينة والأحقاد ومآسي الشعوب. انهمرَتْ، وما تزال، لمحنته دموعُنا الغزيرة، وغادر النومُ عيونَنا التي استوطنَها الأرقُ والمتوجهةُ إلى السماء وحدَها، لعلّ الخالقَ وحدَه أيضا، بسماحته وعظمته وجلاله، يتجاوز بؤسَنا ويغفرَ لنا الكثير من الخطايا والجرائم التي اقترفناها على هذه الأرض؟ أقيمتْ من أجله الصلوات في الكنائس وأماكن العبادة ورُفِعتْ لنجاتِه التوسلاتُ وأكُفُّ الضراعة في البيوت ومساجد المعمور، لعلّ واهبَ الحياة يُعيد عِبْرَتَه ومعجزتَه ويُنَجّي "ريان" كما نَجّى نبيَّه الكريم "يوسف" من الجُبّ؟ هذه رسالة من الله ومن الطبيعة أيضا، على البشرية أن تستوعبَها وتقرأها بشكل جيد وتستنبط منها العِبَر، حين تقف الآلةُ والتكنولوجيا بكل طفَراتها وعَتادها المتقدم عاجزة أمام الطبيعة، وغير قادرة على انتشال طفل من جوف التراب في وقت قياسي أو محدود. ليبقى الرهان والأمل كذلك معقودا أو مرهونا فقط برحمة الخالق ولُطفِه، وبالقدرات الشخصية والمحدودة للبشر وطاقم الإنقاذ. ما يبقى في النهاية متاحا أمامنا، كبشر ضِعَاف ومثيرين للشفقة، هو هذا الحس الرفيع بضرورة تواجد الإنسان إلى جانب أخيه الإنسان، وبهذه المناورات والمحاولات الحثيثة والمشكورة لمغازلة التربة والجيولوجيا والتعامل معها برفق، عَلّها تشفق بدورها على بؤسنا وضعفنا وتعيد إلينا هذا الطفل سالما من كل أذى؟ يحبس العالَمُ أنفاسَه أمام هول المشهد، لندرك، في النهاية، بأنّ ذلك هو وضْعُنا البئيس اليوم أمام الطبيعة الأم، وهذا وجْهُنا الحقيقي، من دون مساحيق، تعكسه مأساة "ريان" من غير مكابرة أو مزايدة بالقوة على بعضنا البعض كبشر. وهذا هو الدرس العميق أو الموعظة الكبرى التي يوجهها الخالق والطبيعة إلينا وإلى العالَم من خلال طفل كان منذ خمسة أيام فقط لا يعرفه أحد، ويقبع الآن في جوف حفرة من دون حيلة، غير صبر المنقذين واعتماده على بقاء مؤشراته الحيوية مستقرة وشَغّالة تمنحه التنفس والأمل. هذا هو الدرس الذي يقدمه الطفل والبئر معا: كلنا في الحفرة، كلنا "ريان"، وكلنا في وضع "ريان"، ومعنا الملايين من الأطفال والبشر الذين يتنفسون الفقر والبؤس والتشرد في القرى والمدن ومناطق المجاعات والحروب البلهاء، عالقون في نفس الحفرة مثله ومثل الآخرين إلى أجل غير محدود. هكذا قادتِ الظروف أو المشيئة الإلهية الطفلَ "ريان" المغربي إلى حفرة تقبع بدوراها في منطقة مجهولة من العالم، ليبث رسالتَه ويقوم بوخزة منبهة وصادمة للضمير الإنساني. فهل يستفيق هذا الضمير الآن، وقبل فوات الأوان، من سُباته ويَصحى على كل بشاعاته، ليكون كل أطفال العالم سواسيةً، ويجعل أكُفّهَمْ تمتلئ بالفراشات، ويصبح هذا العالَم الرمادي والكئيب، في عيونهم، حديقةً ملونة؟