ينطرحُ اليوم سؤالُ اللغة بقوة في المجتمع المغربي؛ سؤالٌ يقدم نفسهُ غالباً في ثوب علميٍّ، فيما خلفياته صراعية إيديولوجية لا تستطيع التصريح دائما بأهدافها ولا البوح الواضح بمقاصدها. ليس هذا رجما بالغيب، وإنما هو استقراء للقرائن وتحليل للمواقف ومقارنة للشعارات بالأفعال. في حين يعلم كل حصيف بأن المسألة اللغوية هي من حسم واختيار المجتمع، فيما التقرير العلمي في أمر تنزيلها وتطويرها وتحيين وظائفها وتقييم أدوارها وتفعيل ديناميتها على مستويات البحث والبناء والأجرأة والتداول، هو من شأن أهل الاختصاص من اللسانيين وفقهاء اللغة بمختلف تشعبات البحث اللغوي. ومأساتنا في جم من مجالات النظر اليوم أن يصادر السياسيون أو الإيديولوجيون حق العلماء في النقاش العلمي والتقرير في قضايا هم أدرى بتفاصيلها و رهاناتها ومقتضيات الحكم فيها. مناسبة هذا الكلام ما صدر عن "ندوة دولية" نُظمت من لدن مؤسسة"زاكورة"، التي يرأسها نور الدين عيوش، من مذكرة رُفعت إلى دوائر صنع القرار، كان من أبرز توصياتها اتخاذُ الدارجة لغة للتعليم في المدرسة المغربية. وإن المرء ليُمَس من شدة الجرأة التي يستأسد بها البعضُ ليطلق أحكاما، ويطالب بمطالباتٍ باسم "العلم" (ندوة علمية)، والعلم منها براءٌ. لا أعرف ما هي الحجج التي استند إليها هؤلاء "المنتدون" لإطلاق مثل هذه "التوصيات" المُضمِرة لأحكام قيمة قديمة لا حجج علمية تقطع بها ، فضلا عن جرأة بل جسارة غير متبصرة في زحزحة ثوابت وطنية يشكل إجماع المغاربة عليها ضامنا رئيسا لوحدة بل لماهية الهوية المغربية اليوم، وهي الثوابت التي تم الانتهاء إلى الإجماع عليها بعد مسارات نقاش و صراع وتدافع وتطور ليست يسيرة ولا هينة. لقد وصلَ التدهور بنُخَبنا والفشل المتتالي لسياساتنا التربوية إلى نوع من العبث من خلال اقتراح حلول سريعة و مرتجلة لمعضلاتنا التربوية الغائرة. فإذا نظرنا مثلا إلى اقتراح مؤسسة زاكورة بجعل الدراجة "لغة" التعليم المدرسي؛ ألفيناه اقتراحا متسرعا ومُرتَجلا حتى لا نقول مُبيَّتاً، إذ لا يحتاج دحضُه إلى كبير جهد. فمن جهة نؤكد ما يذهب إليه كثير من المختصين أن "اللهجة" المغربية، على رونقها وجماليتها وغنى ذاكرتها، ليست لغةً، بمعنى أنها لا تستقل ببنيات نحوية وصرفية واشتقاقية وإملائية ذات قوة تقعيدية تسعفها على التجريد والتوليد والتقييد، وتجعلها "لغة" بالمفهوم اللساني الدقيق ل"اللغة"، ثم إن اللغة من جهة ثانية ليست مجرد أداة تواصل، كما يُستشف من الاقتراح، إنها ذاكرة معرفة وثقافة، وخزان عواطف و وجدان، كما أنها صلةٌ حضارية بكلِّ المُنتَجاتِ الفكرية والفلسفية والأدبية والتاريخية والفنية بهذه اللغة. إن اللغة تتصل بعضوية بالفكر الذي تحمله وتعبر عنه، لأن اللغة والفكر وجهان لعملة واحدة. وبعبارة فاللغة هوية وذاكرة وفكر و وجدان، وليست فقط وعاءً لحمل الأفكار ونقل المعطيات. وبهذا الاعتبار يصير التدريس بلغة من اللغات اختيارا استراتيجيا على المستوى الحضاري والأنطولوجي، له آثاره البعيدة على كيان و هوية المجتمع، فيما يُعَدُ استعمالُ لغة أو لغات الهوية عاملا من عوامل تطويرها و النهوض بمعجمها وتركيبها وتوسيع مجالات الإنتاج والإبداع بها وفيها، وهذا هو اختيار مختلف الأمم التي تحترم تاريخها وتعمل على تطوير وجودها وتثبيت كيانها الثقافي باعتباره السند الرئيس لشرعية وجودها السياسي الممثل في دولة ذات سيادة. من هنا فإن استبعاد اللغة العربية هو سعيٌ حثيث إلى قطع صلة الهوية المغربية بروافدها العربية والإسلامية معرفة واستلهاما و تواصلا؛ إذ معلوم أن استعمال هذه اللغة، مع التطوير المستمر لهذا الاستعمال، يُسعف في خلق تواصلين أفقي وعمودي؛ أفقي مع أكثر من أربعمائة مليون نسمة في العالم العربي وأكثر من مليار مسلم ممن تحتل هذه اللغة مكانة خاصة بينهم لموقعها في الدين والحضارة الإسلاميين؛ وتواصل عمودي مع إنتاج حضاري زاخر يمتد إلى أكثر من خمسة عشر قرنا في مختلف أصناف العلوم والمعارف والآداب والفنون. من هنا فإن ما تتيحه اللغة العربية من إمكانات التواصل وتطوير المعرفة والإسهام الحضاري في مختلف أبوابها لا يمكن إطلاقا أن توفره "الدارجة" المغربية، والتي ليست في نهاية التحليل اللساني سوى مستوى من مستويات اللغة العربية الفصيحة، مستوى تداولي له أهميته و وظائفيته التي لا يندرج التعليمُ أو البحث العلمي في سياقها. ثم إن هذا الطرح ذا النزوع الفرنكوفوني، حتى لا أقول الاستعماري، يحمل من المآزق ما يضيق عن رصده هذا المقال. على أننا نميز هنا بين الفرنكوفونية كمنزع هيمني يسعى إلى تسييد الفرنسية على ما سواها باعتبارها عنوان مصالح وامتيازات اجتماعية واقتصادية، وبين الثقافة الفرنسية كعنوان للفكر المنفتح و الإبداع الإنسي وقيم الحداثة وعصر الأنوار...إلخ، فهذا التمييز يجعلنا نفهم أن دفاعنا عن اللغة العربية لا يحمل أي ضغينة لسواها من اللغات، بل لا يمكن لأي لغة أن تتطور دون تلاقح مع غيرها من اللغات كما هو حاصل في تاريخ اللغة العربية عَيْنها، وكما تشهد على ذلك لغة القرآن الكريم نفسُها. ومعلوم اليوم أن الترجمة باب من أبواب هذا التثاقف، إذ الأمر لا يتعلق في الترجمة فقط بنقل المعارف إلى من لا يستطيع قراءتها في لغتها الأصلية، بل يتعلق أساسا بجعل اللغة المنقولِ إليها تستوعب تلك المعارف وتوسع من دوائر ومساحات التفكير بها وفيها، مما يؤهلها للإسهام في تطوير تلك المعارف مِن داخل نسقِها اللغوي الخاص. لذا نتفقُ مع مؤسسة زاكورة في إيلاء مكانة أساس للغة الإنجليزية، لكن دون أن تحل محل اللغة العربية في وظائفها التعليمية الأساس، أو تحول دون سعي حثيث إلى نقل العلوم والمعارف التقنية والعلمية الحديثة إلى اللغة العربية. إن ما يُؤسِف في السعي إلى نفي اللغة العربية وإقصائها سواء باعتماد التلهيج أو التلتين، هو الفهم السقيمُ لمآزق اللغة في التعليم، فإذا كانت نتائج مسار "التعريب" مخيبةً للآمال في المغرب، فتفسير ذلك يتعلق أولا بفشل في الاستراتيجية، مثلما يتعلق ثانيا بسوء تدبير هذا الملف لدى الحكومات المتعاقبة بعد الاستقلال، ثم يتعلق ثالثا بطغيان الإيديولوجي على العلمي في مسار التعريب. ولا يتعلق بتاتا بقصور ذاتي في اللغة العربية، لغة الدين والفكر والفلسفة والحضارة والإبداع والإعلام كما تشهد على ذلك مختلف مُنتجاتِها و أنماطُ استعمالها قديما وحديثا. ومن ثم فإن تحميل اللغة أخطاء سوء سعي وتدبير أهلها، أمر لا يقره عقل سليم، إذ معلوم بداهة أن مستوى اللغة من مستوى أهلها، وأن تطويرها يعتمد على مدى اجتهاد وبذل أهلها لتطويرها. ولا أدل على أن اللغة براءٌ من تُهم القصور التي يُلصقها بها بعض قاصري النظر والمعرفة بالعربية، هو نجاح تعريب جم من المواد الدراسية التي كانت تُدرس بالفرنسية في المغرب قبيل الاستقلال مثل الفلسفة أو التاريخ والجغرافية، فضلا عن نجاح تعريب مواد في العلوم الحقة كالطب في بعض الدول العربية، والتي للأسف لم نستفد من تجاربها لغلبة الإيديولوجي على المعرفي في التعامل مع هذا الملف كما سبقت الإشارة. لقد زهدت بعضُ الأوساط الفرنكوفونية في العربية بسبب الامتيازات التي تحظى بها حين تسَيِّدُ الحرفَ اللاتيني على الحرف العربي في الإعلانات ولوحات الإشهار وعناوين المحلات التجارية، أو حين تُعثِّرُ التعريب الكامل للإدارة أو تضايق حضور العربية في الإعلام..إلخ، وراحت تعلل ذلك تارة بكون اللغة الأم للمغاربة هي الدارجةُ المغربية في جهلٍ كامل بكون الدارجة مستوى من العربية الفصيحة كما أسلفنا، وتناسٍ فاضح لتنوع هذه الدارجة بين الجهات المغربية من جهة ثانية، وفي إلغاء مُضمَر للأمازيغية بتنوع تجلياتها اللسانية من جهة ثالثة؛ كما راحت تعلل ذلك الزهد تارة أخرى بقصور العربية عن استيعاب الحداثة في العلوم والتقنية والحياة اليومية المعيشة، في إنكار تام لحقيقة أن أهلية اللغة من صنيع واجتهاد أهلها؛ كما تُُستشفُّ من سلوك تلك الأوساطُ تعلةٌ أخرى لإقصاء العربية قوامُها محاصرةُ الأصوليةِ والتطرف باعتبار العربية وعاءَ الفكر الديني والسندِ اللغوي للمرجعية التقليدية المحافظة، و هي المرجعيةُ التي تقف سدا منيعا ضد محاولات العلمنة الجذرية التي يرومها البعضُ من تلك الأوساط. وهذا هو ما يفسر سعي الفرنكوفونيين إلى حشر اللغة العربية في المساجد، وتضييق وظيفتها لتصير لغة تعبدية شعائرية طقوسية لا غير. وهي مغالطةٌ فاضحة لكون أصحابها لا يعون أن أي تحديث سيظل معطوبا إذا لم ينطلق من داخل ثقافتنا وبلغتنا، وأن أحد أسباب التطرف المذكور هو إهمالُ تحديث المرجعية الثقافية التقليدية بلغتها وفكرها، مما خلق هوة بين النُّخبِ وتعطلا في التواصل بين المرجعية المعتبرة "حداثية" ولسانها أعجمي، وتلك المعتبرة "تقليدية" ولسانها عربي مبين. فيما ظلت النخبُ الوسيطة بينهما، والتي أسهمت في تحديث العربية و خلق حوار بين المرجعيتين بلغة عربية معاصرة؛ أضحت نادرةً أو غير مؤثرة لما تتعرض له من تضييق من لدن الجهتين الحداثية الفرنكوفونية والتقليدية العربية المنغلقة (راجع مقالنا " في الحاجة إلى المفكر الجسر" على موقع إسلام مغربي). وإجمالا، فإن ما تتعرضُ له اللغةُ العربيةُ من مضايقات عبر التلتين والتلهيج، أي عبر إحلال الحروف اللاتينية أو الدارجة محلَّها في مختلف الوظائف التي على العربية أن تضطلع بها في الفضاء العام للمجتمع كلغة رسمية يُلزم الدستورُ الدولةَ بحمايتها وتطويرها، هذه المضايقات المتفاقمة لا يمكن إلا أن تُسهِمَ في المس بهوية المجتمع وباستقراره الروحي والرمزي وبسِلمه الاجتماعي، لأنها مغامراتٌ لا يعي أصحابُها أبعادَها ولا آثارها القريبة والبعيدة، وهي أكبرُ دليل على قِصر نظرهم في الفهم والتحليل، بل ونزوعهم إلى فرض بعض التوجهات دون كبير دراسة ولا تحرٍّ مستوفٍ، ودون إشراك لكافة أطياف المجتمع في قضايا مصيرية مثل مسألة لغة التدريس في المدرسة المغربية، مع الإنصات أساسا لأهل الشأن من الخبراء والعلماء الوطنيين النزهاء. إن التمادي في إقصاء اللغة العربية هو تمادٍ في نهج مُعوَجٍّ قائمِ على التبعيةِ و المصلحةِ الفئويةِ والارتجال، مثلما هو إصرارٌ على السير في نفس الطريق المفضية إلى الفشل في الإصلاح والتحديث، والذي بتفاقُمه في التعليمِ سنُضيع مستقبلَ أجيالٍ أخرى على غرار من ننعي اليوم مستقبَلَهم، وهو ما قد يؤدي ثمنَه الباهظَ الوطنُ في لحظةٍ مريرة وغيرِ مرجوةٍ قد لا ينفع عندها الاعترافُ بالإخفاق في التقدير والتدبير.