حتى لا نوجه كلاما يلفه غموض إلى القراء، لا بد من تحليل المفاهيم الواردة في مقالنا هذا، ذي أبعاد دينية وفكرية وسياسية، فما الذي نعنيه – حسب السياق الذي وقع عليه اختيارنا – أولا ب"المواجهة"؟ وما الذي نعنيه ثانيا ب"الفكر الظلامي"؟ وما الذي نعنيه ثالثا ب"مستلزمات"؟ وما الذي نعنيه رابعا ب"العصرنة"؟ ثم ما الذي نعنيه خامسا وأخيرا ب"الحداثة"؟ إن المواجهة تعني المقابلة وجها لوجه. وتعني التصدي والمقاومة والمجابهة على المستوى المادي والمعنوي. فيكون من الضروري أن يتسلح طرفاها على المستوى الثاني بمعطيات منطقية معقولة، ما دام كل منهما يدعي أن الحق معه. ولبيان الحق الذي معه لا بد له من تقديم براهين دينية، وعقلية وتجريبية. مع خضوع كل مواجهة مفترضة إلى شرطين علميين أخلاقيين: الموضوعية، ونعني بها الابتعاد عن الذاتية على قدر المستطاع. ثم النزاهة التي نعني بها الأمانة والصدق والتخلي عن الشبهات والدماغوجية او الغوغائية المتعمدة! أما الفكر الظلامي فمرجعه إلى ثلاثة أقسام رئيسية: فكر ظلامي ديني. وفكر ظلامي عقلي. وفكر ظلامي تجريبي. وعن هذه الأقسام تتفرع فروع كثيرة من ضمنها: فكر ظلامي طرقي. وفكر ظلامي قبوري. وفكر ظلامي سلطوي. وفكر ظلامي حزبي. وفكر ظلامي سياسي. وفكر ظلامي اقتصادي. وفكر ظلامي أخلاقي. وحتى يتعرف القراء إلى حقيقة الفكر الظلامي، أي إلى مفهومه أو معناه. نخبرهم بكل وضوح، كيف أنه هو كل فكر يتناقض مع منطق الدين، ومع منطق العقل، ومع منطق الواقع أو منطق التجربة. فإن صح أن منطق الدين والعقل والتجربة لا يقبل بالثالث المرفوع، لأن تصوره مستحيل أو غير ممكن. صح التقاء أنواع المنطق هذه كلها في نقطة بعينها وهي ما ذكر،، وحينها يصح التقاؤها كلها في نقط أخرى غير هذه. ونقصد بالثالث المرفوع وجود الشيء وعدم وجوده في الآن ذاته، وذلك لأن هوية واحدة لا يمكن أن تكون هي ولا هي في ذات الوقت،، فالباب إما مفتوح وإما مغلق. أما أن يكون مغلقا ومفتوحا في آن واحد،، فهذا هو الثالث المرفوع،، وإن ادعى أحدهم بوجود شخص يتحدث إلى جمع من الناس هنا بالرباط،، ووجوده في الآن عينه بمراكش حيث يقضي بعض أغراضه. فإن الدين الحق يستنكر ما قيل! والعقل يشجبه! والتجربة تنفيه وترفضه! لكن الفكر الظلامي الديني لا يرى مانعا من وجود شخص واحد في مكانين! فالمتصوفة يتحدثون عن الأبدال الذين يسافرون بأشخاصهم الحقيقيين، ويبقون حيث هم بصور طبق الأصل لصورهم الحقيقية! كما يتحدثون عن إمكان تحولهم إلى حيوانات أو إلى أفاعي. أو إلى طيور! فقد شاع في القطر السوسي أن دفين مدينة تارودانت، والمدعو سيدي أو سيدي قتله فلاح حينما ظهر في صورة ثعبان. وفور مقتله اجتمع الأولياء الأحياء والأموات بحثا عن الفتوى المناسبة لمواجهة المشكل الطارئ. فكان استقرار رأيهم على أن من تمثل في غير صورته ثم جرى قتله فدمه هدر؟؟؟ قد يتساءل القارئ عن نماذج ملموسة من الفكر الظلامي السلطوي والحزبي والسياسي فأقدم له على الفور حقائق لا علاقة لها بالفكر المجرد أو بما وراء الطبيعة. وإنما أقدم له قضايا ملموسة لها صلة وثيقة بالسياسة والاقتصاد والمال والاجتماع. يقول الدكتاتور التونسي الراحل: حبيب بورقيبة – وهو يفخر بما حققه من انجازات لفائدة بلده في ظل الاستقلال: "إن الأمر الهام الآخر الذي عالجناه يتعلق بالمرأة عموما. الساكنة منها في الريف أو في المدينة. وعملنا هذا من أجل المرأة لأننا نعتقد أن المرأة كائن بشري (ومن قال له إنها حيوان أوجماد؟). إنكم تعلمون كيف كانت معتبرة من قبل في عهد الانحطاط. كما أن وضعيتها التي تجعل منها كائنا منحطا كانت تعززها الاعتبارات الدينية! إن الدين والقرآن قد وضعا المرأة في منزلة سفلى, وفي مستوى أدنى. فهي أقل ذكاء وحقها في الإرث أقل من حق الرجل. ووظيفتها الوحيدة هي إنجاب الأولاد! ولقد أقدمت على هذا الإصلاح من بداية الاستقلال، ويرجع تاريخ القانون الذي يغير حالة المرأة، والزواج، والذي يحرم تعدد الزوجات إلى يوم 13 أوت 1956م، أي أربعة أشهر بعد الاستقلال. واعتمدت في هذا على السمعة التي تم الحصول عليها أثناء الكفاح ضد السيطرة الأجنبية. وأردت أن أعمل كل هذا من بين الأعمال التي شرعنا في تحقيقها آنذاك. وليس من السهل القيام بشيء يخالف ويتعارض مع القرآن. وإني متيقن بأن عددا كبيرا من البلدان الإسلامية متفقة معنا، غير أنها لا تجرؤ على الإعلان بذلك"!!! إن الرجل من خلال النص أعلن إلحاده. وأعلن في الوقت نفسه أن حاكم تونس منذ حصولها على الاستقلال ملحد لا يخفي قيمة الشريعة عنده ولا مكانة القرآن في قلبه! كما أعلن بوضوح تام أن جل الحكام في البلاد الإسلامية، لهم نفس الموقف ونفس القناعات من الاحتكام إلى شرع الله، إلا أنهم لا يملكون الجرأة الكافية على إعلان ما هم به مقتنعون! فإن كان هو قد اقتنع بعدم صلاحية الدين لإدارة شؤون الدولة العصرية، فهو هنا سيد الآخرين من الحكام الذين التجأوا إلى النفاق وتظاهروا بأنهم مع الدين وأنهم من حماته الغيورين عليه! لكن واقع أنظمتهم القائمة يشي بأنهم كذابون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون. فجاء فكرهم ظلاميا بامتياز! بما هم عليه عاكفون،، وإلى جوارهم أحزاب مساندة وأخرى معارضة،، أو إلى جوارهم حزب واحد مؤيد مساند (حال تونس ودول اشتراكية بائدة)! إذ أن مساندة النظام تحمل بين طياتها تأييدا للنفاق الذي يمارسه، فضلا عن كون الواقع ذاته يفضح مزاعم ادعاء الحكام بتوفرالحرية والكرامة والاستناد إلى الحق والقانون. فتأكد لنا كيف أن ما تجري ممارسته مجرد فكر ظلامي سياسي سلطوي، لأنه يتناقض – كما قلنا - مع منطق الدين، ومنطق العقل، ومنطق التجربة! فالدين لا يؤيد الظلم كتابا وسنة، لكنه يؤيد العدل والإنصاف، مثله مثل العقل وما يستدعيه الواقع. وحتى إذا ما انتفض شعب ما بعد معاناته من نير الدكتاتورية والاستبداد، فلأن الحكام مارسوا عليه الفكر الظلامي إلى أقصى الحدود، مؤيدين بحزب علماني وحيد، أو بأحزاب علمانية وشبه علمانية عدة. فقد ورد ذكر الظلم ومشتقاته في القرآن أزيد من مائتي مرة، منها قوله عز وجل: "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار". وبما أن الركون هو الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء والرضا به. فإن معنى الآية هو أن لا تحبوا ولا تطيعوا الظالمين. وقال ابن جريج: لا تميلوا إليهم. وقال أبو العالية: لا ترضوا أعمالهم. وكيف لنا بمحبتهم والاستناد إليهم وهم يمارسون علينا - كشعوب - نوعين من الاعتداء والإساءة: فظلمهم بحرمانهم إيانا من حقنا في الحرية والكرامة، يضاف إليه تحقيرهم لديننا، مما يحتم علينا مواجهتهم كظلاميين، علاقتهم بالإنسانية ذاتها مضطربة مشكوك فيها. وهذا ما أبانت عنه الأوضاع الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية في العالمين العربي والإسلامي. حيث يستهين الحكام بالدين كقادة لحملة مشعل الاشتراكية المغرية! أولحملة مشعل الليبرالية الفاجرة! فصح أن تنتفض شعوبهم في وجوههم تنفيذا لأوامر الدين من جهة أولى، كما اوضحت الآية. ولأوامر الضمير الأخلاقي الذي يستهجن تصرفاتهم من جهة ثانية، ولأوامر النظام العادل المطلوب من جهة ثالثة. وما ورد في الذكر الحكيم من آيات تستنكر الظلم وتندد بممارسيه من طغاة الحكام.. يوضحه أكثر من حديث نبوي شريف. فقد خاطب الرسول البشرية جمعاء، لا المسلمين وحدهم فقال: "أيها الناس! إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة". وذلك حتى يتضح للمخاطبين بحديثه ص، كيف أن الظالم لن ينجو من العقاب ولو طال الزمن! قد يتعرض للعقاب الدنيوي وللعقاب الأخروي معا كحال طاغية ليبيا: معمرالقذافي الذي كان يصف المطالبين بالاحتكام إلى شرع الله بالزنادقة.. بينما هو زنديق ماكر متجبر. ثم قال نبي الهدى والرحمة: "انصر أخاك ظاما أو مظلوما. قلت: يا رسول الله! نصرته مظلوما، فكيف أنصره ظالما؟ قال: تكفه عن الظلم. فذاك نصرك إياه"! فيكون نصر الظالم في مواجهته حتى يكف عن ظلمه لشعبه. ومواجهته إنما تتم باستنكار معلن صريح لظلمه،، والاستنكار له وسائل عدة. من أبرزها مخاطبة الناس مباشرة لشرح ما عليه العمل عندنا في شتى المجالات.. ومخاطبتهم مجالها المساجد، والمدارس، والمعاهد، والكليات، والندوات، والمحاضرات.. وكل المناسبات المتاحة التي يلتقي فيها ثلاثة أفراد أو أكثر. كانت اجتماعية أو كانت أسرية. فضلا عن الكتابة التي تصبح كوثائق يجري نشرها عبر المناضلين أو المجاهدين ممن يحملون نفس الهم، هم استهجان الظلم ووجوب مواجهة أهله من حكام ومن غير حكام. إن الفكر الظلامي إذن فكر رجعي متخلف.. يقف في وجه العصرنة والحداثة،، ويعرقل سيادة الحرية والكرامة والديمقراطية في الأوساط الشعبية. كان هذا الفكر منسوبا إلى الدين الحق الذي هو بريء منه. أو كان منسوبا إلى غيره من القناعات التي يرى أصحابها أنها ضامنة لحصول الشعوب على مختلف حقوقها المادية والمعنوية. والفكر الظلامي سهل علينا ضبطه وحاملوه يطبقون العمل به على أرض الواقع. فأن يخبرنا أحدهم بكون الكتانيين يقومون ويتجهون صوب باب الزاوية في فترة من فترات اشتغالهم بالذكر لاستقبال الرسول الذي تعود الحضور إليهم في تلك المناسبة، فذاك فكر ظلامي مرفوض عقلا ودينا وتجربة كما هو بين. وأن يدعي أحد الحكام بأن شعبه يتمتع أكثر من غيره بالحرية والكرامة والديمقراطية. ثم نجد صفوفا من العاطلين أمام مختلف مؤسسات الدولة عاكفين على المطالبة بحقوقهم في العمل! ونجد آلافا مؤلفة من ذوي الحاجة أو الفاقة يعتمدون ما أمكن لهم من وسائل للحصول على لقمة العيش. أو على ما يسدون به الرمق! كما نجد حرمان جماعات أو طوائف من حقوقها السياسية. كلها وغيرها من مجسدات الظلم تستدعي الاستنكار وتوضح بجلاء، كيف أن الحكام يمارسون الفكر الظلامي السياسي بامتياز، لأنهم متمردون بحكم موقعهم السلطوي على ممارسة الفكر النوراني أو التنويري الذي يتماشى ويتطابق مع منطق الدين الحق. ومع منطق العقل الناقد المتبصر. ومع منطق الواقع التجريبي المحسوس. ولتكن خاتمة مقالنا هذا بقراءة ظلامية للنصوص الدينية، وهي قراءة علمانية كقراءة عصيد التي لم نكن نحن على الأقل متفاجئين بشأنها ما دمنا نعرف مسبقا روادها من خصوم الدين المعروفين تاريخيا وهم اليهود والنصارى وأصحاب الأهواء والملل والنحل. تضاف إليهم عناصر معروفة مع مطلع النهضة العربية. هذه العناصر التي لم تأت بجديد سوى كونها تحمل سلاح العلمانيين الغربيين المعاصرين لهدم الدين ولوصفه بفكر ظلامي متجاوز. ومن ضمن بيادق أعداء الدين الأوربيين بالتحديد. نجد الدكتاتور الراحل الزنديق: حبيب بورقيبة كإمام للعلمانيين العرب والمسلمين حتى الآن. إذ علاوة على ما قدمناه له نضيف إليه قوله: "إن المسلمين وصلوا إلى تأليه محمد. فهم دائما يكررون محمد ص. الله يصلي على محمد. وهذا تأليه لمحمد. والفطر في نهار رمضان عمدا وبدون عذر شرعي مقبول. إذا كان في الفطر مصلحة الدولة (!) والرسول محمد أقر العرب على الشرك! إضافة إلى قوله: الرسول محمد (هكذا) كان إنسانا بسيطا يسافر كثيرا عبر الصحراء العربية، ويستمع إلى الخرافات البسيطة السائدة في ذلك الوقت. وقد نقل تلك الخرافات إلى القرآن!!! دون أن نثبت كل ما نقل عنه من قراءة ظلامية مغرضة ساخرة لكتاب الله العزيز ولسنة رسوله الكريم. الموقع الإلكتروني : www.islamthinking.blog.com العنوان الإلكتروني : [email protected]