: من أجل توافق وطني لإقرار حكامة ترابية جديدة تناول الخطاب الملكي أمام أعضاء البرلمان في نهاية الأسبوع الماضي، الأزمة العميقة التي تعاني منها مدينة الدارالبيضاء، والتي أضحت تحد من قدرتها على تلبية مطالب ساكنتها في مجالات حيوية، وتكبح أدوارها الوطنية والدولية، باعتبارها عاصمة المغرب الاقتصادية وقاطرة التنمية الوطنية. إن الإقرار والتنديد بهذا الوضع من طرف أعلى سلطة في البلاد، واختيار مناسبة افتتاح السنة التشريعية الجديدة للإعلان عنه، والنبرة الصريحة والحادة التي اعتمدت في التعبير عنه، هو دعوة صريحة للفاعلين السياسيين لتحمل مسؤولياتهم كاملة لتقديم الإجابة السياسية السريعة والمناسبة لإيقاف النزيف وإطلاق دينامية جديدة تعيد الاعتبار للمدينة وأدوارها المحلية والوطنية والدولية. إن أزمة الحكامة التي تعاني منها العاصمة الاقتصادية لا تستدعي فقط ردود أفعال سريعة ومبادرات من نوع ما لاحظناه من مجلس المدينة مباشرة بعد الخطاب الملكي، بل قراراً سياسياً وطنياً شجاعاً يفسح المجال لإقامة حكامة ترابية جديدة قادرة على تثمين مؤهلات المدينة، والرفع من قدراتها التنافسية واستيعاب الخصاص الذي تعاني منه في مجالات متعددة وتأهيلها لمواجهة التحديات المرتبطة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وبالنظر إلى تجارب عواصم عالمية عديدة، وإلى مستوى التردي الذي وصلت إليه الأوضاع العامة داخل المدينة، رغم كل المجهودات التي بذلت والمبادرات التي أطلقت، وبالنظر إلى التراجع المهول في مستوى وكفاءة النخب التي تدير شؤونها. لقد أضحى من المستعجل التفكير في نظام جديد لتدبيرالمدينة يكون موضوع توافق سياسي وطني. وفي تقديري، يجب إقرار وضع خاص special Statut لإدارة شؤون المدينة قائم على ثنائية سياسية وإدارية يسمح من جهة للمنتخبين السياسيين من تحديد التوجهات ورسم السياسات ومتابعة التنفيذ وتقييم النتائج. ويمكن من جهة ثانية، الكفاءات الادارية من تدبير مرافق المدينة وفق برنامج تعاقدي دقيق وواضح. وبمقتضى هذا النظام، تصبح الدارالبيضاء المقاولة الوطنية الأولى التي يديرها مجلس إداري سياسي ويسهر على تدبير شؤون إدارة كفؤة من مستوى عال، تشتغل وفق مبادىء وقواعد التدبير العصري الناجع والمنتج. والحديث هنا عن الكفاءات الادارية، لا يعني الاعتماد على ما هو موجود فقط، بل يتعين البحث عن كفاءات جديدة يتم التعاقد معها على شاكلة ما يتم العمل به بالنسبة لمؤسسات وطنية استراتيجية. ولنا في تجربة مدينة دبي ومدن عديدة عبر العالم ما يكفي من دروس ونجاحات للمدينة/ المقاولة. إن اعتماد هذا النظام لا يعني بأي شكل من الأشكال، التراجع عن اختيار اللامركزية وتهميش الفاعلين السياسيين في إدارة شؤون المدينة، بل هو تقسيم جديد للأدوار هدفه الأساسي هو تحديد المسؤوليات بوضوح والبحث عن الفعالية والنجاعة والمردودية. إن مدينة الدارالبيضاء بحكم ما تتوفر عليه من مؤهلات اقتصادية ومالية وموارد بشرية مشتتة في إدارات قطاعية عديدة، تملك عملياً عناصر إقلاع جديدة ونهضة اقتصادية واجتماعية وثقافية غير مسبوقة، شريطة أن تتوفر الشجاعة السياسية لدى الفاعلين، وأن تتغلب المصلحة العليا للمدينة وللوطن على المصالح الفئوية والشخصية التي أنهكت البلاد والعباد. وبطبيعة الحال، إن تبني حكامة ترابية جديدة للعاصمة الاقتصادية يجب أن يوازيه بناء مشروع حضري مندمج، يرسم الاختيارات الأساسية لتنمية المدينة، ويحدد الأولويات الكبرى، ويسهر على تحقيق الاندماج والانسجام الضروريين بين البرامج والسياسات القطاعية. إن الحديث اليوم عن الدارالبيضاء لا يجب أن يحجب عنا ما تعانيه المدن الكبرى من أعطاب في التسيير وهدر في تدبير الموارد وخصاص في مشروعية النخب التي تشرف عليها. لذلك، فالتفكير في وضع خاص للعاصمة الاقتصادية يمكن أن ينسحب على باقي العواصم الجهوية التي تشكل فضاءات للنمو وتحتضن مؤهلات كبيرة غير مستغلة بالشكل الأمثل. إن استعداد بلادنا للانخراط في تفعيل مشروع الجهوية المتقدمة، يفرض بقوة إصلاح أوضاع العواصم الجهوية بالنظر للدور المنوط بها في قيادة المشروع التنموي الجهوي. وبموازاة بناء التوافق الوطني لإقرار حكامة جديدة للعواصم، يتعين إنجاز جيل جديد من الاصلاحات السياسية التي تضع حدا لكل أشكال العبث الانتخابي التي لوثت الحياة السياسية، وضخمت من مستوى عزوف المواطنين عن المشاركة في الاستحقاقات وانتخب نخبة عاثت في الأرض فسادا. خلاصة القول، يشكل الخطاب الملكي حول الدارالبيضاء فرصة ومدخلا لتعبئة مختلف الفاعلين للانخراط في مشروع جماعي وطني لمعالجة أزمة الحكامة التي تعاني منها العاصمة الاقتصادية، ومن خلالها الانطلاق في إصلاح أوضاع المدن العواصم التي تعاني من أعطاب تحد من مردودية ونجاعة العديد من الاصلاحات والأوراش التي شهدتها المرحلة الأخيرة. ونظرا لأهمية هذا الاصلاح وحجم التعبئة التي يتطلبها، لابد من إجراء حوار وطني حول المدن الكبرى يهدف إلى وضع تشخيص تشاركي، وبلورة توافق وطني حول الاصلاح المرتقب. إن ما عبر عنه الخطاب الملكي من حسرة وأسى، وأيضا ما فتحه من أمل لتجاوز الأعطاب التي تعاني منها أم المدن المغربية هو، في اعتقادي، دعوة صريحة للقيام بمراجعة جذرية للمقاربة المتبعة في تدبير المدن الكبرى. لقد حان الوقت لإيقاف النزيف الذي ينخر هذه المدن والتراجع المخيف في أداء نخبها رغم تعدد الاستحقاقات الانتخابية وتناوب الأغلبيات السياسية. لقد أصبحنا نعيش مفارقة غريبة: أمام تزايد اهتمام الدولة بالمدينة وارتفاع حجم الاستثمارات العمومية والخاصة، والتحسن الملحوظ في المرافق العمومية الأساسية والتغيير الايجابي في الادارة الترابية، تعمقت أزمة إدارة المدن وتراجع أداء نخبها واستفحلت الصراعات بين مكوناتها السياسية، فأمام ضخامة التحديات التي تواجه بلادنا أصبحت مسألة إيقاف هذا المسار التراجعي، أولوية وطنية كبرى. إن عالم اليوم هو عالم المدن بامتياز، فلم يعد مقبولا الاستمرار في هدر الموارد والفرص والزمن. إن إقرار وضع خاص للعاصمة الاقتصادية للمملكة وإمكانية تعميمه على العواصم الجهوية الأخرى، هو اختيار وطني استراتيجي ينم عن إدارك حقيقي لحجم الرهانات ووعي جماعي بالمسؤوليات، وشجاعة سياسية لمواجهة المعضلات الكبرى وإيجاد الأجوبة الملائمة لها. يتعين إنجاز جيل جديد من الاصلاحات السياسية التي تضع حدا لكل أشكال العبث الانتخابي التي لوثت الحياة السياسية، وضخمت من مستوى عزوف المواطنين عن المشاركة في الاستحقاقات وانتخب نخبة عاثت في الأرض فسادا.