محطة قطار معزولة. سكة حديدية صدئة. أسلاك كهربائية مهترئة. رصيف متآكل. مقاعد فقدت ملامحها الاسمنتية. رئيس المحطة وحيد مكتئب، ينقل النظر بين الساعة اليدوية والساعة الحائطية وامتداد ظلال الشمس في انتظار قطارات لا تأتي، أو تمر دون أن تتوقف أو تعير وجوده اهتماما. كلب هرم، بضع قطط. دراجة هوائية مركونة في الزاوية الخلفية من البناية الموحشة. تأتي قطارت من اللامكان، تعبُر، تتبخر في اللازمان. يرسل رئيس المحطة بصره بعيدا. خلاء، فراغ. هضبة صخرية ملساء، آفاق مبهمة غائمة. ينحسر بصره. يجيل نظره في المشهد المعهود. أشجار بدون ظلال، بدون ثمار. طيور تحلق بعيدا. تتعب. تسقط صريعة فوق الصخور النتئة. منحدر يحيط بالهضبة. يبتلع ما تبقى من أسباب للحياة. وادٍ بدون ماء. بدون طحالب أو أسماك. أشباح أشخاص تتراقص. تتلاشى في السراب. في دروب التيه والضياع. ينكمش قلب رئيس المحطة. يأوي إلى فراشه في عز النهار. يدخل في غيبوبة نوم طويلة. تصيب الكلب نوبة نباح هستيرية. يفتح الرئيس عينيه في استجابة آلية. يهب من مرقده مذعورا. يرخي السمع قليلا. تتبين الأصوات تدريجيا. تعلو. تقترب. وقع أقدام. أصوات طبول، زغاريد، أهازيج، جلبة وضوضاء. يطل برأس، حذر متربص، من النافذة الخلفية. يتراءى له المشهد في مجمله وتفاصيله. موكب بشري يتدحرج من أعلى الهضبة. نساء، أطفال، عجائز، شيوخ، شباب، رايات، رقصات. جوقة من العازفين الموسميين. في المقدمة السيد القايد. عن يمينه أفراد من القوات المساعدة. عن يساره أعوان السلطة بمختلف مراتبهم ودرجاتهم. خلفه العمدة والأعيان والأتباع، وأتباع الأتباع. يصل الموكب إلى المحطة. ينتظمون في صفوف تراتبية. يتحول السيد القايد إلى مايسترو. يسير الجوقة، يلهب الحماس. يستجيب الجميع في اندماج عجيب. يفغر رئيس المحطة فاه متسائلا. تتناسل الأجوبة على ألسنة القايد والعمدة والأتباع. يفهم الرئيس. يفرح. يأخذ موقعه داخل الجوقة. يشع الاطمئنان في العيون. يسود التلهف والترقب. أخيرا ستعرف المحطة الحدث السعيد. ستستعيد هويتها ووظيفتها الأساسية. القطار قادم. تفتح المحطة ذراعيها باشة منشرحة. يبصبص الكلب بذنبه مرحبا. يتغنى العمدة بالقطار القادم. يعدد مزاياه. يمجد راكبيه. يعد الجماهير المتعطشة ببداية عهد جديد. عهد الفرص الوفيرة، عهد الرفاه والنماء. يستبشر الناس خيرا. يهللون. يكبرون. تشرئب الأفئدة والأبصار. تنفجر الأماني. يحلمون. يصدقون. يتأخر القطار. تستريح الجوقة من العزف. تسترد الحناجر لعابها. تزداد اللهفة. ترتفع حدة الانتظار. تمر ساعة، ساعتان، يوم، يومان. أسبوع. شهر. شهران. يطل الشهر الثالث. تتوالى ثوانيه، دقائقه، ساعاته، أيامه. تستنفذ الجوقة كل مخزونها. تفقد الجماهير حماسها. يدب اليأس إلى النفوس. تتبخر الأحلام، تتبدد الأوهام. تهب الريح تحمل الغبار وأكوام الأشواك العادمة. ينسحب أفراد الجوقة الواحد تلو الآخر. تزداد الصخرة صلابة. يتشبت رئيس المحطة ببريق أمل. يهتز قلبه لكل نسمة قادمة من الشمال. يظل مشدودا إلى وجهة قدوم القطار. ينتظر. ينتظر. لا يعرف غير الانتظار. يهب الكلب الهرم متوثبا. تقفز القطط. تلتفت بقية الأجساد من أعلى الهضبة. ينشد الجميع إلى الصفير المتلاحق. يبدو القطار في الأفق. يتدحرج الجميع عائدين إلى المحطة. يلملم القايد بقايا جوقته الموسيقية. تنطلق الزغاريد، الأهازيج، الأصوات المبحوحة من جديد. يقترب القطار. يتهادى في منعرجات المنحدر. يصل أخيرا إلى المحطة. يتوقف. لا يكاد رئيس المحطة يصدق نفسه. يرفع رأسه إلى مقدمة القطار. يتهجى اسمه الغريب " قطار البي – جي – 8". يستعرض أيقونات اللوحة الزاهية: [ مطرقة، منجل، مصباح، سنبلة، حمامة ، رموز رياضية وهندسية..]. يستغرب الحاضرون من طول القطار. يحسبون عدد المقصورات المجرورة بإيقاع طفولي . مقصورة، اثنتان، ثلاث. عشر. عشرون. ثلاثون .. تسع وثلاثون مقصورة مصممة على شكل حقائب، متنوعة الأحجام والألوان. تصميم عجيب. يرتفع مكبر الصوت من داخل القاطرة الجرارة: " سيداتي. سادتي. صفقوا بحرارة. رحبوا بركاب القطار. إنهم ركاب مميزون. خيرة هذا الوطن.. استقبلوا عناصر حكومتكم الجديدة .. استعدوا للتصفيق.. واحد، اثنان، ثلاثة.. اخرجوا أيها الأبطال". تنطلق الموسيقى صاخبة. تنفتح الحقائب من أعلى. تتمدد الأجساد خارج الحقائب باقات بديعة.. يطل السادة الوزراء. تطل السيدات الوزيرات. السيدات والسادة عضوات وأعضاء الدواوين ومن يدور في فلكهم. تلمع البذل الرمادية الزرقاء. تشع ربطات العنق الحريرية. تطير في الأفق الروائح والعطور الباريسية النادرة. ترتسم الابتسامات عريضة بلهاء. تشعر الجماهير بالخيبة، تتبادل نظرات باردة. تكف الحناجر عن التهليل. تتحرك الأجساد عائدة إلى جحورها، إلى انشغالاتها اليومية. يقاوم القايد لاسترجاع جوقته وأعوانه. يظل العمدة مشدوها بين الولاء لقيادته والهرولة وراء قاعدته الانتخابية. يتفرق الناس بين الشعاب. يخطف رئيس الحكومة مكبر الصوت.. يستوقفهم: " ارجعوا. لا تنسحبوا دون أن تسمعوا وتفهموا. لا تولوا الأدبار. لقد جئتكم بفريق منسجم، متكامل وفعال. فريق من الخبراء والكفاءات والمخلصين للوطن والمتفانين من أجل المصلحة العليا.. فريق فوق الشبهات والانتقادات. امنحوه ثقتكم. امنحوه صبركم. ظروفكم عصيبة. نحن نتفهم. نحن نقدر. لقد جئناكم نحمل الأفكار والمشاريع والكثير من الطموح والأحلام".. يستمر في توسلاته. يتمادى السكان في التلاشي. يلقي بمكبر الصوت بعيدا. يقفز من أعلى الحقيبة. يهرول نحو الهضبة، يحمل مصباحه باحثا عن الأصوات الضائعة في أمواج السراب. يتبعه صاحب الحمامة المستنسرة. يقطع المسافات، يستشرف الآفاق. يتفق صاحبا السنبلة والمنجل على مواعيد الزرع والحصاد، إن كان هناك زرع أو حصاد. يظل التكنوقراط - أصحاب العناية الربانية، الحصانة العائلية، الثروات الطائلة، وسائل الضغط القوية - قابعين في حقائبهم الوتيرة، يستمتعون بنعومتها، غير مبالين بالمشهد العبثي، غير معنيين بالحضور والغياب، أو بدفع الحساب. يسمع صفير القطار. يتذكر صاحب المصباح المقعد الفارغ. يهرول نحو القاطرة دونما حاجة إلى مصباح. يصفر القطار إيذانا بالرحيل. تنتفخ الهضبة الصخرية، تتطاول تحديا. تؤدي المحطة وظيفتها، تعود إلى عزلتها. يهنئ رئيسها نفسه على النجاح في المهمة. يبسط الكلب ذراعية بالوصيد. ينطلق القطار نحو ..المجهول.