بأعقاب العمليات الانتحارية, التي أقدم عليها فتية ملتحون وآخرون غير ملتحين, بماي العام 2003, بمدينة الدارالبيضاء بالمغرب, صادق البرلمان بمجموع وإجماع فرقه ونوابه, وبسرعة قياسية, على قانون لمكافحة الإرهاب, ما كان له لأن يمرر لولا ذات الأحداث, أطلق العنان بموجبه لسلطات المخابرات والأمن, لتزج بعشرات المئات من "المتهمين" المباشرين أو بالتحريض, وتشدد الرقابة والمراقبة على آخرين, افتراضيين, أو مشكوك فيهم بمنطوق السلطات إياها, أو بنبرات خطابهم, بالمساجد أو بالإعلام, بعض من التشدد أو التطرف, أو "الخروج عن القائم من الدين", هنا بأقصى الوطن العربي. "" بالتزامن مع ذلك, وفي سياقه أيضا, عمدت السلطات العمومية إلى إعمال حركة في "الإصلاح الديني جوهرية", إدراكا منها فيما يبدو, أن الأداة الخشنة لا يمكن أن تؤتي أكلها على المدى المتوسط والبعيد, إذا لم تتم مزاوجتها بأدوات ناعمة, تطاول منظومة الأفكار والتصورات, عبر تقنين الخطب بالمساجد, وتطويع الخطابات بالإعلام, و تشديد الرقابة على منابر الفضائيات ومواقع الإنترنيت وما سواها. ليس من الهين في شيء, معرفة المضمون الحقيقي والدقيق للعبارات الرائجة بهذا الخصوص, إذ الأمر متضارب للغاية, بين قائل بضرورة "هيكلة الحقل الديني" وتأطيره, وقول ثان يمتطي ناصية خطاب "تدبير الشأن الديني", وطرح ثالث مناد بسياسات عملية مباشرة, المفروض برأيه, أن تعمل بقوة على جبهة "تجديد الخطاب الديني", على مستوى الشكل والبنية, كما على مستوى الجوهر. هي كلها توصيفات عامة وطروحات في بعض منها هلامية, واسعة الإطار, شاسعة الأبعاد والآفاق, لكنها تنهل مجتمعة, على الأقل وفق ما يتم الترويج له, تنهل من معين واحد, يتغيأ بلوغ ثلاثة أهداف مرحلية أساس: + الأول ويتمثل في تطلع المشروع إلى إعادة هيكلة البنية المؤسساتية (البنية التحتية بتعبير المهندسين) ابتداء من القيمين الدينيين, قاعدة المنظومة على المستوى الترابي, وإلى حدود المجلس العلمي الأعلى, نقطة ما قبل قمة الهرم, مرورا بالمجالس العلمية الوسيطة, الفاعلة على المستويات الجهوية والمحلية, مستويات الأقاليم, بلغة التقطيعات الإدارية. إن مشروع "الإصلاح" لا يتطلع فقط, بهذه النقطة, إلى إعادة البناء المؤسساتي للوعاء الديني برمته, بل ويتطلع أيضا إلى سلك "سياسة في القرب", لم تكن السلطة المركزية بغيابها, تعلم بدقة ما يدور بالمساجد أو الزوايا أو المشيخات أو بالآلاف من الكتاتيب القرآنية المنتشرة هنا وهناك, والعاملة في العديد من الحالات, بغفلة تامة عن عيون السلطة إياها ذاتها. + أما الهدف الثاني, فيكمن في وعي الدولة, لدرجة تصريحها بذلك صراحة, بضرورة إيلاء أهمية خاصة للتأطير الديني, باعتباره أداة الإصلاح الأساس, ودعامة نجاحه ونجاعته في الزمن والمكان. إن التقصير الحاصل على هذا المستوى, بنظر المشروع, لا يتأتى فقط من ضعف ما يرصد للمجالس المحلية والإقليمية من ميزانيات, بل ويتأتى أيضا من هشاشة الوضعية المادية, للعديد من الأئمة والقيمين الدينيين ومؤذني الجوامع وما سواهم, مما يجعلهم إما غير قادرين على تأدية وظائفهم, أو مكمن ابتزاز, ثم استقطاب فيما بعد, من لدن بعض "المشوشين على الخط العام, الذي ارتضته الدولة المغربية في تدبيرها لشؤون الدين". إن إعادة الاعتبار للقيمين الدينيين مثلا, لا تبدو لواضعي المشروع, كونها عضد النجاح الآني للعملية وهي ببداياتها, بل وتبدو لهم أداة فعالة, لتحقيق المناعة بوجه التيارات "الدخيلة", الباثة للعنف, أو "المزعزعة للأمن الروحي", الذي لطالما تمتع به المغاربة, دون نكد من الداخل, أو مزايدة كبيرة من لدن الخارج. + الهدف الثالث: تجديد مضمون الخطاب الديني. التجديد المقصود هنا, لا يروم التأكيد على ثوابت المنظومة الدينية المغربية, المرتكزة على العقيدة الأشعرية ومذهب الإمام مالك, والتصوف السني, لا يروم ذلك فحسب, بل يروم التأكيد لدرجة التركيز, على أن إمارة المؤمنين هي قلب المنظومة إياها, على مستوى الفتوى, كما على مستوى الاحتكام النهائي والقطعي في أمور الدين. إن الغاية من هذا الهدف, وهو هدف استراتيجي بنظر واضعي المشروع, إنما التوكيد أن لا مجال يذكر للمزايدة على ما ارتضاه المغاربة لقرون عدة مضت, ولا مجال لتوظيف الدين لهذه الغاية السياسية أو تلك, ولا مجال للاجتهاد إن هو خرج عن ثوابت المنظومة, ولا تسامح فوق كل هذا وذاك, مع من تطاول أو تجاوز على مؤسسة الإمارة, إمارة المؤمنين "التي عملت دائما على حراسة الثوابت الدينية للأمة". هي محاور كبرى أنجز منها ما أنجز بالداخل على المستوى المؤسساتي, ويعمل من حينه على تفعيل روافد لها بالخارج, سيما رافد "المجلس العلمي الخاص بالمغاربة القاطنين بأوروبا", المطالب بترجمة عناصر المشروع وفلسفته, لدى المغاربة بالمهجر. قد تبدو المحاور إياها للناظر تحصيل حاصل, فلطالما منت السلطات نفسها بضرورة إعادة النظر في الشأن الديني, إما استحضارا من لدنها لتحولات المحيط الدولي, منذ أحداث الحادي عشر من شتنبر, ثم أحداث الدارالبيضاء, أو لاعتبارات ذاتية, أملتها حركية المجتمع وتطورات الثقافة. إلا أن قراءة عابرة في خلفيات المشروع ودوافعه الباطنة, تشي باعتقادنا, بأن الذي حكم المشروع إياه بالمصدر, لا يتوافق إلا نسبيا مع مخرجاته بالمصب: + فالمشروع محكوم في صلبه وشكله, بهاجس أمني صرف, الغاية منه ليس ضمان الأمن الروحي للمغاربة, بل محاولة تحصين المنظومة القائمة, بوجه التيارات الإسلامية بالداخل, كما بوجه الإيديولوجيات الدينية القادمة من الخارج, ومن الشرق العربي والإسلامي على وجه التحديد. إن ثقافة التشدد التي استنبتتها العديد من التيارات الدينية "الواردة" من بعض دول الخليج, لم تفرز فقط "دعاة في الدين" مغاربة, يؤولون النصوص وفق ما يرون, يفتون ثم يكفرون, بل أفرزت ثقافة في تبرير العنف, واستباحة دماء الآخرين, دونما موجب حق, أو بذريعة "فريضة الجهاد والقتال في سبيل الله", ضد كفار مفترضين أو واقعيين. إن الأمن المتطلع لاسترجاعه هنا, ليس أمنا روحيا, إنه الأمن المادي الذي إذا لم يدرك بعضه بالقوة الخشنة, فالرهان قائم على إدراكه كله, بأدوات القوة الناعمة الفاعلة في النفوس والأفئدة والبطون. الأمن المادي هنا هو بمثابة مدخل للأمن الروحي, وليس العكس, حتى وإن كان هذا العكس صحيحا في بعض الحالات. + والمشروع يشي, في بنائه المؤسساتي الصرف, بنهج في "اللامركزية الدينية" حقيقي, بجهة توسيع نطاق الفعل والمسؤولية, في حين أنه ينشد في مضمره, إعادة مركزة الشأن الديني, تصورا وإشرافا وتسييرا, فيما يشبه سياسة لإعادة احتكار ذات الشأن, لكن بأدوات توحي ب"الشورى", واعتبارا لمستويات القرار الدنيا. ليس المقصود هنا, تأميم الفضاءات الدينية "الخارجة عن الطوع", ومراقبة فعلها بالترغيب أو بالترهيب, أو بهما معا وفق الظروف والسياقات, بل وضع حد قاطع لفوضى الفتاوى, والتوظيفات التي تطاول الدين لهذه الغاية أو تلك, والتوكيد بالواضح الصريح بأن إمارة المؤمنين هي الجهة الوحيدة والمحورية, التي يختزل من بين ظهرانيها, مبدأ الجمع بين السياسة والدين. وعلى هذا الأساس, فإن الجاري اليوم من ترتيبات تحت مسمى "هيكلة الحقل الديني", أو "تأطير المجال الديني", أو "تأهيل وتجديد الخطاب الديني", أو ما سواها من توصيفات, لا تخرج بنظرنا عن مجرد ضبط تقني لذات المجال, والتحكم في مفاصله بالتالي, كي لا يخرج عن السيطرة والسطوة... سيطرة إمارة المؤمنين وسطوة "الدعاة الجدد" بالمغرب.