بين حمامات الدم في سوريا و كفوف الأيادي في رابعة و قبلات التضامن وولادة وزارات جديدة، توقفت حركة قلمي و أصبح يرقب قطار الأحداث يطير بلا جناحين و يمرق أمامه مروق السهم. فغر فاه مثل أبله وسط جوقة عرس، و ظلت عيناه تجيء و تروح بين هذا الخبر و ذاك كمن يتابع مباراة في التنس. زخم من الأحداث الوطنية والدولية في أيام قلائل سالت فيها دماء و مدادات أقلام و بحت فيها حناجر و استفاقت أحزاب من سباتها الأبدي. أصبح قلمي كذاك التلميذ الذي تتراكم عليه الدروس فيجد نفسه أمام كومة من الدفاتر ليلة الامتحان لا يدري بأيها يبدأ و على ماذا يركز اهتمامه. لجأ إلي و علامات الحيرة بادية على محياه و نظرات اللوم تملأ عينيه. حدثني عن مشكلته و عزا الحالة التي وصل إليها إلى غيابي و انشغالي عنه خلال الفترة الماضية بهمومي و مشاكلي دونا عن مشاكل الشرق و الغرب و العرب و العجم و الاقتصاد و السياسة. كأي عربي بارع بإيجاد شماعات يعلق عليها أخطاءه، ألقى علي بمسؤولية ما حدث، لكنني و كأي عربي بارع برد الكرات إلى مرسلها ذكرته بأنه وصل إلى سن و مستوى من النضج يتعين عليه فيه البحث عن مصادر المعلومات دون انتظار أن أعرض عليه خدماتي. كان عليه أن يطرق بابي ملحا و يصر على طلب دعمي بدلا من الرقاد في انتظار انتهائي من مشاغل لا تنتهي. بعد أخد و رد، و بعد جلسة من التلاوم و التعاتب كما بين حبيبين، حسمت الموقف (باعتباري صاحبة السلطة عليه) بأن عرضت عليه أن نراجع سويا ما فاته كي يتمكن من اجتياز الامتحان الذي أمتحنه إياه آخر كل دورة. كنت وأنا الأستاذة الممتحنة أكتشف مع الكثير من الدروس لأول مرة (لم أخبره بهذا بالطبع لكي لا أقتل في عينيه صورة المعلم القدوة المطلع). علمته كيف يمر عموديا على المقالات و يستشف المهم منها دون الحاجة إلى تهجي الكلمات كلمة كلمة، و عملنا على تلخيص كل مقال قرأناه في جملة تشرح فكرته العامة. كانت مفاجأتنا كبيرة حين انتهينا من تدوين كل الأفكار المستقاة على دفيتر، حين رأينا الألوان القاتمة اكتسحت بياض أوراقه (نسيت أن أخبركم أن قلمي يملك خاصية سحرية تتمثل في تلوين ما يكتب بألوان تتدرج قتامتها حسب الحالة المزاجية التي تدل عليها الكتابات، فكلما كانت العبارات مفرحة كلما كانت الألوان فاتحة مشرقة، و كلما زادت نسبة الحزن في التعابير غمقت الألوان). اعترت قلمي الرقيق المشاعر موجة كاسحة من الحزن و ذرفت عيناه دموعا صامتة خجولة مني. لم يدر ساعتها أني كنت أعيش نفس الإحساس لكنني كنت أتمالك نفسي و أظهر ملامح متصلبة كي لا أظهر أمامه ضعفي. تأملت في الأوراق السوداء و قلت لنفسي: فيم سأمتحن القلم المسكين؟ أأطلب منه إعادة صياغة أحداث محبطة؟ أأسأله إعادة رواية وقائع أصبح طعمها حامضا من كثر الألسنة التي لاكتها؟ ماذا يفيد القراء تذكيرهم كل آن و حال بما يقلب مواجعهم ويجرهم جرا إلى الواقع بإحباطاته، بآلامه و مآسيه؟ و ما هي القيمة المضافة التي سيقدمها قلمي في هذه الحالة؟ لنفرض حتى أنه برع في أسلوب حكيه و صياغة كلماته؟ كل ما سيذكره الناس هو أنه تحدث في مواضيع باتوا يعانون من حساسية تجاهها. جلست أفكر مليا في صيغة أبني عليها طريقة امتحاني المقبل لتلميذي القلم حتى يظهر قدراته في السرد و الوصف مع ترك بصمة خاصة عند التحليل غير مطبوعة بطعم الغصة المرة التي يتركها عرض الواقع دون مساحيق تجميل و لا إكسسوارات، لكن دون تزوير أو تزييف في الحقائق. مرت مدة ليست ياليسيرة وإذا بي أصيح كما أرخميدس في مغطسه: وجدتها. الامتحان المقبل سيكون كالتالي: سأطلب منه أن لا يتوقف عند عرض المواضيع، حيث تضيق الصدور و تكتئب القلوب. بل يواصل طرحه بالتحليل و التفسير موجها تركيز القارئ نحو بصيص ضوء يظهر من بعيد في عتمة الواقع، نحو شعاع نور يومض خاطفا في ظلمة الحياة، نحو النصف المليء من كأس نصف فارغ. علامة نجاحه في الامتحان لن تكون لون الورقة بل تدرج ألوانها من الغامق إلى الفاتح و مدى إشراقة الكلمة الأخيرة من كل موضوع يكتبه.