وصلتُ الى مونتريال، في عِزّ حملةٍ شديدةٍ للانتخابات النيابية الفدرالية تعُمُّ كندا كلَّها. "" وخِلتُني، حين علمتُ ذلك، سَأَجد صُوَرَ المرشَّحين تغطّي - كما عندنا - حيطانَ البيوت وعَرضَ الشوارع وأعمدةَ الكهرباء حتى لتحجب الصُوَرُ منظرَ المدينة. غير أنني لَم أجد ذلك. وجَدتُ صُوَراً للمرشحين على أَعمدة الكهرباء فقط، جميعُها في قياسٍ واحد فقط، وعلى علُوٍّ واحدٍ من العمود، هو عُلُوٌّ كافٍ لتظهر صورةُ المرشَّح من دون أن تَحجبَ رؤيةَ المدينة وبيوتَها وتقاطعَ الطرقات. أما المرشَّحون، فلا شعارات ولا عبارات ولا استفزازات، بل الاسم، وحده الاسم الى يسار الصورة، وجميع الصور في قياسٍ واحد، لا يُميّز مرشحاً عن آخر إلا لونُ اللوحة الإعلانية، فهو أحمر للّيبراليين، أزرق للمحافظين، أبيض للكيبيكيين، وأخضر للحزب الديمقراطي الجديد. جميعُها في القياس نفسه، والحجم نفسه، والتصميم الإعلاني نفسه، على أعمدة الطرقات وعلى لوحات إعلانية جانبية مُخصصة للإعلانات العامة، يشتريها المرشحون لفترة مُحددة. سألتُ صديقاً لبنانياً في مونتريال (يَحمل الجنسية الكندية) إن كانت هذه الحملة كافيةً للمرشحين، فقال إنها كافية، لأنّ الهدف ليس سوى الإعلام عن الحزب والإعلان عن مرشحه المعتمد. ثم سألته إن كان هذا الترشيحُ حديثَ الناس، فأجاب أنْ نادراً ما يَحدث ذلك، فالناس هنا لا يتداولون أبداً في السياسة و(الْمُرْشَحين) إلاّ يومَ الانتخاب فقط حين يتوجَّه كلُّ مواطن الى صندوقة الاقتراع ويقترع لِمرشَّحه بكل هدوء فلا شجارٌ ولا اقتتال ولا ضحايا ولا مهرجاناتُ تَهييص وتعييش واستفزازات واستفزازات متبادَلة، بل تَمنع الدولةُ تعليقَ اليافطات العريضة فوق الشوارع، وتَمنع (طرش) حيطان المدينة بالشعارات العريضة والاستفزازات المقرفة، وينظِّم رجال الشرطة مَحضرَ ضبطٍ قاسياً بكل من يرونه يكتب سطراً واحداً على حيط في المدينة. وصبيحة إعلان النتائج، يذهب الناس الى أعمالهم، يتبادلون التهانئ لنجاح مرشحهم أو الأسف على سقوط مرشحهم، ولا تَحلُّ ساعة الظهر حتى ينتهي حديثُ الانتخابات، وينسى الناس ما كان يوم أمس، فينصرفون الى أعمالهم، والناجحون الجدد الى مَجلس النواب يشرّعون ويقومون بواجباتِهم تِجاه من انتخبُوهم ومن لَم ينتخبوهم على حدٍّ سواء. ويوم كنتُ ضيفاً على إذاعة (راديو كندا الدولي) سمعتُ في نشرة الأخبار أن الرئيس الأميركي جورج بوش استقبل المرشَّحَين الجمهوريّ جون ماكين والديمقراطيّ باراك أوباما للتداول، معهما معاً، في شأن الكارثة المالية المستجدّة في البلاد. فيااااااااااا ما أبعدنا نَحن، في لبنان، عن التعامل الحضاري في الشأن الانتخابي، وما أتعس ما عندنا من مظاهر تَخلُّف وبدائية وجاهلية وبداوة وعنصرية وقبائلية وعشائرية وبربرية و(أدغالية)، من معظم المرشحين ومعظم الناس، مع مظاهر القرف الانتخابي في صُوَر المرشَّحين وطرش الحيطان بالشعارات والتسابُق إلى تضخيم اليافطات الاستفزازية، وتكبير الصُّوَر حتى علوّ البنايات، وتوسيخ المدينة بصُوَرٍ ولافتاتٍ ويافطاتٍ تَحجُبُ الرؤيةَ والمدينةَ، وتُبرِزُ الوقاحةَ والتخلُّف، ويا خجلَنا من مراسلين أجانب ينقلون صُوَر شوارعنا ويصفونَها للرأي العام العالمي صورةً عن شعبٍ ما زال في بدائية التعامل مع ديمقراطية الانتخابات. ... وأيَّارنا اللبناني الانتخابيّ المخجِل، سيأتي قريباً: شاهداً قاسياً على هذه البدائية.