تمرّ بالحياة. تتنحى جانبا، وتشيح بوجهك عنها، وتمضي قدما. وعندما تبتعد تشعر بنظراتها الغاضبة، والمعاتبة، تخرق، وتحرق ظهرك، لكنك لا تجد في نفسك أي رغبة في أن تلتفت وراءك أبدا. فلست ترى وراءك غير العدم، وليس أمامك غير طريق غير مطروق. هل أنت غاضب منها؟ في الواقع، أنت لم تملك عن هذا السؤال جوابا في أي وقت، فلماذا تبحث اليوم عنه؟ تمرّ بك الحياة. جميلة في قبحها، وقبيحة في جمالها. هادئة وصاخبة في أصباحها كما في أماسيها. تعرف كل ذلك دون أن ترفع بصرك إليها. فهي نفسها على الدوام: "ماجا عارية" حينا و"ماجا لابسة" حينا آخر، إساءةٌ حينا ولينٌ حينا آخر. تتركها تواصل مشوارها، ولا تحاول مغازلتها، ولا دعوتها إلى فنجان قهوة على شرفة مقهى يطل على بحر يغير جلده في كل مرة. تشعر أن مثل هذه الدعوة ما حانت ولا حان حينها. تحاكم نفسك: أنت فظ، غليظ القلب، متبلّد المشاعر، وليس ثمة دون ريب غير دم جليدي في عروقك. كيف أمكنك أن تجرح أنوثتها؟ يمرّ بك الزمن. تشعر بخطواته خفيفة تارة وثقيلة تارة، سريعة تارة وبطيئة تارة. يصير مرئيا عبر آثار خطواته. اتخذ النحت حرفة، وهواية، ونمط وجود. تراه ينحت بجسدك على جسدك، وبروحك على روحك، ولا تملك إلا الانقياد له، والإذعان لمشيئته. تذمّر إن شئت، أو كن سعيدا إن شئت، فهو لا يبالي. هو يقوم بواجبه، وبشغف لا نظير له، وليس ثمة أي شيء شخصي في القضية. يوم عرفت ذلك صالحته وصالحك. عرفتَ أن من طبيعته منذ عصور غابرة أنه ينتهي، في الأخير، إلى استخدام سيفه المعقوف لقطف رؤوس أبناءه عندما تصير يانعة، ويلتهمهم دون رحمة. تمرّ بك أشياء. أشياء باهتة، وأخرى لامعة، وثالثة تلمع إلى حد تصير فيه باهتة. أشياء لا يستطيع جمودها إلا أن ينتفض، ولا يستطيع صمتها إلا أن يكون ثرثارا. تدافع بطرقها الخاصة عن حقها في الوجود، وفي أن تحوز اعترافا، وفي الكلام. هي مسالمة بنفس القدر الذي هي عدائية. عندما تقاومها تسارع إلى مقاومتك بكل بأس. أشياء تعيش معك، وبجوارك، ولها كذلك حياة مستقلة. أشياء تحملك أحيانا، وتتحمّلك أحيانا، وتضطر إلى أن تتحمّلها في أحيان أخرى. تمرّ بك وجوه. الوجوه ذاتها التي تمر كل يوم، وتلتقي بها في هذا الشارع أو ذاك، في هذه الحديقة أو تلك. التعابير ذاتها، والأفعال ذاتها، والكلمات ذاتها. نماذج جاهزة ملقاة على قارعة الطريق، ومعلقة على لوحات مختلفة مبثوثة في كل مكان. وجوه تفتح عينيك عليها ولا ترى أحدا، وربما تفتح هي عينيها عليك ولا ترى أحدا أيضا. من فرط تكرارها، وخوفك منها وخوفها الخفي_الظاهر منك، صرتَ توّلي وجهك عنها، وتتحاشاها مثلما تتحاشاك. تكاد لا تقتسم معها أي شيء عدا قسوة اللامبالاة. تمتلئ بنفسك، تكفيها وتكتفي بها، تجلس إليها وتجالسها. وأخيرا تمرّين أنتِ. مرورك نسيم تضوّع طيبا. يشبهك كل شيء ولا تشبهين أي شيء. تشتعل الحرائق وتتوالى. فالاقتراب منكِ يحتاج إلى طهارة لا تكون إلا بالنار. بفضلكِ أنتِ تغيرّت علاقتك أنتَ بكل شي، بالحياة والزمن والأشياء والآخرين. بصبر عنكبوت عنيدة أعدتَ نسج علاقات مع كل شيء، فوجدت الأشياء تهرع إليك مهلّلة، ومستبشرة، ومعانقة. كنتَ أنتَ الناسج والمنسج والمنسوج، وكانت يدكِ أنتِ، أمام الستار وخلفه، هي التي تحرك خيوط اللعبة بأكملها. وهكذا صار كل شيء فجأة غامضا وملغزا وأسطوريا، فانغمست في انتشاء روحي عميق. أصبح كل فعل تقوم به طقسا مقدسا. ليس بكَ أنت َإشراك لكن حتى توسّد حُجركِ أنتِ أضحى صلاة.