يثار الجدل كثيراً حول عبارة "الإسلام المغربيّ"، إذ يرى منتقدو هذه العبارة أنّها تُجزئ الإسلام وتقسمه إلى إسلامات حسب المناطق الجغرافيّة، بل وتعدده، فلا يبقى لدينا إسلام واحد، بل إسلامات متعددة، إذ على نفس المنوال يمكن أن نتحدث عن "الإسلام السّعوديّ" أو عن "الإسلام المصريّ"... وهكذا يختفي الدّين الواحد وتتشكل "إسلامات" متعددة. انتبه إلى هذا بعضُ الباحثين فكتبوا تحت إشراف الدكتور عبد المجيد الشرفي مجموعة من الكتيبات المهمّة اندرجت ضمن سلسلة عنوانها: " الإسلام واحداً ومتعدداً"؛ إلا أن هذه السلسلة لم تتناول إسلام الدول أو الثقافات إن صحّ التعبير بشكل رئيسي، إلا في بعضها؛ ككتاب الإسلام الأسيوي وكتاب الإسلام العربيّ، لأن تركيز الباحثين انصب حول التفكير في المنظومات الفكريّة الّتي تؤطر فهم الإسلام، فقسموا الإسلام إلى إسلام صوفيّ، وفقهيّ، وكلاميّ، وسياسيّ ..إلخ. والحقّ أن هذه السلسلة مهمّة وتساعد على فهم البنيّة الفكريّة لكلّ توجه ديني من تلك التوجهات: الفقهيّة، الفلسفيّة، الكلاميّة... غير أن الحديث عن "الإسلام المغربي"، موضوع هذا المقال، أو "الإسلام الّذي يتأسس على ثقافة بلد معين هو حديث يشوبه الكثير من الغموض، الّذي سنحاول توضيحه في هذه المقالة، من خلال تبسيط القول فيه، وذلك بمدارسة أربع نقاط رئيسيّة: الأولى؛ حول مقومات الإسلام المغربيّ، والثانية؛ عن الفرق بين الدّين والتّدين، والثالثة؛ عن سبب الحديث عن الإسلام المغربيّ، ثم سننهي مقالنا بالحديث عن ضرورة النّقد والتّسامح وقبول التعدديّة في هذه المسألة. مقومات الإسلام المغربيّ إن الملاحظ أن الإسلام المغربيّ يقوم على التّصوّف، ويستحضر تعاليم الجنيد السالك (830م – 910م) وغيره من أهل الطريقة والحقيقة، وبالتّالي؛ فإنّه مختلف، على سبيل المثال، عن الإسلام الّذي ينهل أفكاره من دعوة محمد بن عبد الوهاب (1792م -1703م). بيد أن هذا الاختلاف لا يمكن أن يجعلنا نتحدث عن إسلام مغربيّ في مقابل إسلام وهابي، وإنّما الأصح هو أن نتحدث عن إسلام صوفيّ في مقابل إسلام سلفيّ. لكن رب معترض يقول: إن الإسلام الصوفيّ المغربيّ يختلف عن الإسلام الصوفيّ المصريّ أو الشيشاني ... وهذا الاعتراض في نظرنا يحمل الكثير من الوجاهة، لأن التّصوّف أيضاً ليس واحداً، فهناك التّصوّف الّذي ينهل أفكاره من الخرافة، وهناك التّصوّف الفلسفيّ، وهناك التصوّف السنيّ، وهناك التّصوّف الشيعيّ ... وبالتّالي؛ فإن للتصوّف المغربيّ خصوصيته، لأنّه تصوّف ينهل من التّراث السّنيّ في فهمه لمعنى الإحسان وللأحاديث القدسيّة وللعقيدة الصحيحة. لكن، يبقى أن هذا التّصوّف ليس حكراً على المغاربة فقط، بل هو تصوّف يمتد في عموم البلاد السنيّة. من جهة أخرى، يقوم "الإسلام المغربيّ"، كما يؤكد البعض، على العقيدة الأشعريّة، لكن هل العقيدة الأشعريّة عقيدة المغاربة فقط؟ إن الأشاعرة هم أهل السّنّة والجماعة، كما يعرفون أنفسهم، وبالتّالي؛ فعقيدتهم، بهذا المعنّى، هي عقيدة جميع المسلمين، وإن كان هناك اختلاف بين الأشاعرة أنفسهم في مناقشة بعض النّظريات الكلاميّة. أمّا الحديث عن المذهب المالكي في الفقه، باعتباره مذهباً يميز المغاربة وإسلامهم، فهو أيضاً حديث يُعترض عليه بدعوى أن مالك إمام المسلمين جميعاً، وليس حكراً على المغاربة فقط، وما قلناه عن التّصوّف والعقيدة الأشعريّة يمكن أن نقوله عن الفقه المالكي، باعتباره فقهاً سنيّاً ينهل منه جميع المسلمين. هكذا يظهر لنا أن الحديث عن "الإسلام المغربيّ" ليس بالحديث السهل، لأن جميع المقومات الّتي يتأسس عليها يمكن الاعتراض عليها بحجج قوّيّة تؤكد على أن الإسلام واحد، وما نعده خصوصيّة مغربيّة، ليس إلا إسلاماً سنيّاً يوجد في المغرب وفي المشرق. وعليه؛ فالحديث عن "الإسلام المغربيّ" لا معنى له، لأنّه على ما يظهر مجرّد بدعة فكريّة ينبغي الوقوف في وجهها والتصدي لها. الإسلام المغربيّ بين الدّين والتّدين إن الخطأ الّذي نقع فيه، حسب اعتقادنا، حين نتحدث عن "الإسلام المغربيّ" هو خطأ الخلط بين الدّين والتّدين، وعدم تفرقتنا بين الأمرين، وهذا الخلط هو الّذي يؤدي إلى سوء فهم عبارة "الإسلام المغربيّ" وما تعنيه من حمولة تراثية وثقافيّة. إن الحديث عن الإسلام المغربيّ هو حديث عن نوع من التّدين وليس عن الدّين، والتّدين هو طريقة ممارسة الدّين، فالدين واحد، لكن طريقة ممارسته تختلف من ثقافة إلى أخرى، لهذا كانت مظاهر التدين كثيرة، ويمكن أن نلاحظها في كلّ مجتمع نحل فيه، ونجد داخل كل الدّيانات الكبرى خصوصيات تدينيّة تختلف من منطقة لأخرى. وتتجلّى مظاهر التدين المغربيّ في القراءة المغربيّة للقرآن، في صوت المقرئ عبد الرحمن بنموسى، وفي الأمداح الشعبيّة، في القصيدة الفياشيّة، وفي حديث " من لغى فلا جمعة له"، وفي القراءة الجماعية للمصحف، وفي طقوس زيارة الموتى في القبر والترحم عليهم ... فهذه الأمور، وغيرها كثير، لا يمكن أن تعتبر ديناً، ولكنها مظهر من مظاهر التّدين. لماذا الحديث عن الإسلام المغربيّ؟ إن ما جعل النّقاش يدور بشكل كبير عن "الإسلام المغربيّ" في السّنوات الأخيرة، هو الصراع الذوقيّ والجماليّ حول الدّين. فمعلوم أن المغاربة ورثوا الكثير من عادات الأندلسيين؛ وممّا ورثوه نمط التدين المتسامح الّذي يميل إلى البحث عن جماليات الدّين عوض التشدد فيه والتعصب له. فالله جميل يحبّ الجمال، حديث صحيح. ومعلومٌ أيضاً أنه في العقود الأخيرة انتشرت الدعوة الوهابيّة وسط المجتمع المغربيّ، فأصبحنا نلاحظ مجموعة من مظاهر التدين الوهابي ينتشر في المجتمع. وهكذا، صار طبيعياً، على سبيل المثال، أن تمر الجنائز، في صمت مطبق، بعدما كانت تمر مصحوبة بأمداح دينيّة وصوفيّة. كما صار الاعتراض على طريقة الدفن وقراءة سورة ياسين عادياً وسط المقابر.. فضلاً عن الاعتراض على قراءة القرآن جماعة بعد صلاة المغرب ... في ضرورة النّقد والتّسامح وقبول التعدديّة في الختام، ما نريد تأكيده في هذا المقال هو التّالي: إن من يدعو إلى "الإسلام المغربيّ"، في الحقيقة، لا يدعو إلى دين مغربيّ، وإنّما هو يدعو إلى نمط تديني يستمد جذوره من الثقافة والتّراث ومن عمل الفقهاء الذين ورثوا ميلاً فطرياً إلى التماس الجمال من الدّين عبر الفسيفساء والشعر واللّون والمدح والموسيقى. وعليه؛ فعبارة "الإسلام المغربيّ" ينبغي أن تُفهم بهذا المعنى، أي كتدين له مرجعياته التّاريخيّة، وله خصوصيّة تجعله مختلفاً عن نمط التّدين المشرقيّ. إلا أن الحديث عن التّدين المغربيّ لا يمكن أن يجعلنا نفضله على غيره من أنماط التّدين، فلكلّ مجتمع؛ كما ذكرنا، تدينه الّذي يحمل إيجابيات وسلبيات منبثقة منه. ولهذا، فالجانب الإيجابي من تركيزنا على مفهوم "الإسلام المغربيّ" هو ربط التّدين بالمجتمع وليس بالدّين فقط، وهذا ما يجعل الدّين كمثال يحتفظ بقدسيته. فالإسلام كدين سماوي، وكخاتم الرسالات الإبراهيميّة لا يمكن نقده، لأنه يظلّ ككلّ المفاهيم الكليّة مفارقاً لنا، لكن مظاهر التّدين المختلطة بالتّاريخ، وبالثقافة الشعبيّة، وبالذوق العام والأخلاق العامّة لكلّ مجتمع، لا يمكن أن تكون مقدّسة، ولا ينبغي التّعصب لها. إن أغلب ضحايا العنف الّذي يمارس باسم الإسلام هم المسلمون أنفسهم، وذلك راجع للتعصب الأعمى للطائفة أو لنمط تدين محدد، له سماته البارزة في العقيدة وفي الفقه، فيصبح التّدين كسرير بروكرست Procrustes ، بمعنى أن إيماننا وإسلامنا ينبغي أن يتناسب مع تدين المتعصبين، وإلا فإنّه يجب فرض ذلك التّناسب بالقوّة أو بالإرهاب، فتغدو النّزعة البروكرستيّة Procrustean تتحكم في عقول المتعصبين محدودي الأفق والثقافة، وفي هذا التحكم معاداة للإيمان الحرّ، وللإنسان ولمظاهر تدينه المتنوع بتنوع ثقافته. وفي اعتقادنا أن الإيمان بتعالي الدين، أي الإسلام، ونسبية التدين، أي مظاهر التدين، سيجعلنا نتفهم الآخر الذي يشاركنا في الدّين ويختلف معنا في التدين؛ فلا يبقى أمامنا مبرر لتكفيره أو طرده من ملّة الإسلام مادام الإسلامُ متعالياً لا يمكن أن تدعي طائفة أو جماعة فهمه حقّ الفهم. (*) باحث في الفلسفة والفكر الإسلامي