"الخلود" من أشهر روايات الكاتب التشيكي " ميلان كونديرا" أحد عمالقة الكتّاب فى العصر الحديث (من مواليد 1929) بل إنّها من أهم الرّوايات التي كتبت فى القرن العشرين، التي ما زالت تترى وتتوالى ترجماتها إلى مختلف اللغات الحيّة ، وما فتئت الدّراسات الأدبية والرؤى والتحاليل النقدية تنشر حولها إلى يومنا هذا فى مختلف بلدان العالم . مناقشة إشكالية الأرض المحروقة إنّها رواية تناوش، وغنوص،وقلق، وإرتياب، وتفكيك الحياة بكل تعقيداتها وألغازها الأبدية، ثمّ محاولة رأبها بدون جدوى ، رحلة فى عمق الزّمن البروستي حاضرا وماضيا ومستقبلا ، إستهتار بهؤلاء الذين ينعتون بالخالدين أو يحلمون بالخلود الذين لا يمكث لهم منه سوى الأسماء . كلّ ما هو بسيط فى هذه الرّواية يغدو عظيما ، تتحوّل فيها الصّدف العابرة إلى أحداث هامّة ، إنّها رواية صادمة يصعب نسيانها بسهولة ويسر، رواية اللّهاث الحميم لإستذكار وإستحضار،وإستكشاف وتفجير دهشة "الأنا " حيال حقيقة الوجود، وهلوسة اللاّمعقول، ومداعبة العبث بالعبث، ومناغاة العدم بالعدم ، إنغماس فى فلسفة الحياة، و تحديق فى صيرورة إنصرام الزّمن وإنسيابه وتآكله وتحاتّه، تأمّل وإستقراء على طريقة الكاتب فى مواجهة التوابع والزوابع،وصدّ العواصف والأعاصير، والتطلّع نحو الأبقى، إنها رواية تخلد فى خلد قارئها فتغدو أحداثها وعباراتها خالدة في فكره وتفكيره، ساكنة فى أعماقه ووجدانه،لا ينقطع عن العيش فى كنفها لسنوات طوال ،إنّها تجعلك تضع "أناك" على كاهلك، وتحمل صخرة سيزيف على كتفيك منتشيا بوجودك، منغمسا فى كينونتك، مستمتعا بهنيهاتك كما أعطيت لك، وتمضي دون أن تلوي على شيئ. تنعت "الخلود" ب"رواية العصر" ، حيث أصبح العقوق القديم الذى أعلنه "كونديرا" ضدّ الشيوعية ينظر إليه بإعجاب كبير .لقد خرج الكاتب بهذه الرّواية من الشكّ إلى اليقين، ومن الحيرة إلى الثبات،.إنه قد هاجر قسرا 1975 من بلده إلى بلد آخر كان مجهولا بالنسبة له "فرنسا" وكأنّه قد إنتزع من وطنه الأصلي إنتزاعا ، أو قدّ من أرضه الأولى قدّا ، كانت أعماله بمثابة " أحجار كريمة " مرصّعة إنفرط عقدها في أرض بور. حصل كونديرا على الجنسيّة الفرنسية 1981 وهو محاط بهالة من الشّهرة والمجد كانت أخبار كتبه تنقل من فم إلى فم ، وتلوكها الألسن فى كل مكان . بين غوته وهمنغواي ليس من قبيل المصادفة أن يتخيّل كونديرا لقاء بين غوته وهمنغواى،وهما يناقشان إشكالية الأرض المحروقة حيث تدفن الأقلام كلّ ما تلمسه ،إنّها تعجن وتسمّم كلّ شىء .إنّه واع كلّ الوعي بهذا المسخ الفاوستي الشيطاني الذى كان يحدث في" جحيم براغ "، وهو يتخيّل ظلال الناس وهم يجوبون أزقّتها، ويتجوّلون في ساحاتها، تلك الظلال أوالأشباح الإنسية، مثلما هو عليه الشأن لدى خوان رولفو فى رائعته "بيدرو بارامو" ، كانت تعيش حياواتها المشّعة المؤقتة التى تتحوّل جسومها إلى هيادب تكتظّ بها الأحياء المظلمة ، والأزقّة المعتمة ، هذه الظلال الإنسية يختلط عليها الأمر لعدم وضوح الرؤية، ولشدّة ضبابية الحقيقة ، حقيقيتها بل وحقيقة العالم ، إنّها خيالات المآتة المصنوعة من خيال سديميّ آخر أكثرحلكة وضبابيّة، وأعمق قلقا وإضطرابا.إنّها تفلت من المارّ، أو المسافر،أو المهاجر، أوالفارّ من خياله إلى ظلال أشباحه العتيقة ، إلاّ أنّه يستحيل عليه أن يستنسخها أو يعيد إليها الحياة، وهي خائفة متوجّسة من الضّباب المعتم حتى وإن كانت هناك منارات ،وفنارات ، وقناديل إصطناعية مضيئة تحت لسعة البرد القارس، أو لفحة الهواء المكيّف. إنّ ضحايا وأبطال القصص التراجيدية للأزمنة الأخرى مثل هرمان بروش ، وموسيل، وهمنغواى سوف ينادى عليهم للفداء، وإلاّ فإنّ تلك الأشباح سوف تشفق على ضحاياها ، وتنزل من عليائها، لتستقرّ في الورق المطبوع ، إلاّ أنّنا لا نعرف إذا ما كانوا هم حقيقة أم مجرد أقنعة كانوا يرتدونها في أوقات وأماكن أخرى وهم واقعون تحت رحمة المؤلف الذى ينعي على شخوصه قصورهم، هذه الشخوص التى سبق أن فكّر فيها وإستنبطها إستنباطا. السيمفونية النّاقصة كونديرا يعرف كيف يرتّب ويركّب تلك المقطوعات المبعثرة للسمفونية التى لم تكتمل بعد. إلاّ أنّ العمل الإبداعي قد ضاع، ولم يبق منه سوى ومضات أو آثار ضوئية , هناك النوتة أو تجسيم النّغمات لعمل فكّر الكاتب في خلقه إلاّ أنّه يعجز عن التنفيذ. هذا المسافرالمتمرّس لا ينسى أبدا الأخاديد والشّعاب والمسالك التي يمكن أن يلتقي فيها أماديوس بموتزارت ، والفارس باري ليدون،وفرجيل لبروش،عندما يتخيّل كونديرا طريقا ضائعا ضرب له فيه موعدا مع أشباحه، حينئذ يهرول أو يركض سريعا لإنجاز المشروع الأدبي الذي يدور بخلده ، بالطريقة نفسها التي يكتب بها عادة مؤرّخو الأدب ( يحكى أن.ّ...) ويعود غوته وهمنغواى للظهور من جديد ليرتديا ثوب العزلة ، ليست عزلتهما بل عزلة الرّاوي، وتنثال كلماته متصبّبة بالعرق ،بعد أن كانت فى طيّ الكتمان أوالنسيان أو في غياهب المجهول ،ها هي ذي تعود ولها إهاب وهيدب جديدان ،إلاّ أنّ الخلود يكون قد ضاع فارّا في إتّجاه عكسي في سفرة بعيدة .هاربا من نظراتنا، إذ في تلك اللحظة تبتدئ الصّور والأخيلة تتراكم وتتسابق وتطفوعلى ثبج الذّاكرة، وتعلو فوق سطح الوعي، وتتحوّل في هنيهة إلى حركات سابحة، وإلى شذى أو أريج جسم بشرى ظهر ثم إختفى، إلى ذكرى ليلة حبّ تطاردنا وتجعلنا نتخيّل القصّة التي لم تنته أبدا. وهكذا تبتدئ الرحلة في إتّجاه أرض ومشاهد فيها أدميّون يمدّوننا بالدفء والدّعة والرقّة ، إلاّ أنّ الوطن اليتيم ,الوطن العتيق يعلو وجوه سكّانه الخوف والهلع والذّعر وهم يتلذّذون بمتعة حكايات الجدّات الخرافية الغريبة المتوارثة والمتواترة . كلّ ذلك قد زال وإختفى لا محالة بسبب الكوارث البيئية والتلوّث الصناعي ،إنّ مشهد المدن القديمة في وسط أوروبا وروائحها العبقة والفوّاحة لم يعد له وجود، وقد تمّ إستبدالها بأخرى توضع داخل أحقاق وقوارير محكمة يمكن إبتياعها في الأسواق التجارية الكبرى الممتدّة على ضفتي التّاريخ . إنّ الظّلال الماضية للأزمنة الغابرة قد بدّلت بدمى ولعب ومخلوقات تتلظّى وتتعذّب بوجودها المادّي الذي لا حياة فيه ، وتجعلنا بالتالي نعاني ونتأسّى و نتعذّب نحن كذلك معها. الزّمن الضائع العنصر المحيّر لدى هذا الكاتب هو مدى قدرته على التعامل مع اللغة وإحترامه للكلمة ،إنّه قد يبدو مملاّ عند بعض القرّاء، أو ثقيل الدم عند بعض النقّاد ،لأنّ كتاباته ليست يسيرة سهلة أو مستساغة الهضم ،بل إنّها مستعصية الفحوى والفهم ، إنّ من يقرأه كمن يواجه هبوب الرّياح العاتية ، إنّ التعليقات النقدية التي تسبق أعماله تخلق فينا حيرة وذهولا وشدوها وتساؤلات ، بل إنّها تحرمنا متعة إكتشاف ما بداخل هذه الأعمال التي يجمع الكلّ أنها أعمال جيّدة ، وذات مغزى أدبيّ وإنسانيّ عميق. إنّ تهافته بحثا عن الزّمن الضائع على الطريقة " البروستية " لأمر يبعث على التساؤل المحيّر ، ذلك أنّ هذه العملية هي في الواقع تجسيم أو تجسيد لحياته نفسها بسبب ظرفه الإنساني كمهاجر يرتمي فى أحضان الغربة ويعانقها ويتغنىّ بها . ولكن جذوره ضاربة أبدا في أعماق تربة بلده وثراها كالأدواح الشّاهقات .