لعل من نافلة القول التذكير بأن المسيرة الخضراء تعد أكبر مسيرة في تاريخ إفريقيا، وما كان ذلك ليكون؛ لولا إيمان المغاربة القوي بأن حب الأوطان من الإيمان، وبأن النفوس مجبولة على الدفاع على أراضيها، وانغرس ذلك في داخلهم انغراسا كليا حتى كاد أن يكون طبيعة. وبتجدد هذه الذكرى الغالية يحق للمغاربة أن يتباهوا بها خصوصا مع مقارنتها مع طرق تدبير افتعال النزاعات في إفريقيا، لتستلهم منها طرق تنظيمها، والاستفادة من كيفية إدارتها، والتخطيط لها، فقد كان مدبرها الملك الراحل الحسن الثاني ذكيا، وعاقلا، ودقيقا وحكيما. كيف خطط الملك الراحل الحسن الثاني للمسيرة الخضراء ؟ بعد جهود مضنية مع كثير من القوى الدولية؛ جاء في إحدى خطاباته رحمه الله حول المسيرة الخضراء: "لقد أعطينا أوامرنا لعُمالنا في الأقاليم أن يفتحوا اعتبارا من الغد مكاتب للتطوع أمام الرجال والنساء، وسوف أكون من الأولين الذين سيضعون اسمهم في سجل المتطوعين وأفتخر بكوني أتوفر على ورقة ناخب سأفتخر بأن تكون عندي بطاقة مسجل للتطوع في مسيرة استرجاع الصحراء حتى يبقى لأبنائي وأحفادي التاج الحقيقي ألا وهو صبغة الوطنية ،وأقول أنها: (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة)". ثم عمم التسجيل في كل عمالات المملكة الشريفة، واندفع الناس لاسترجاع أراضي أجدادهم فتزاحموا وتراحموا، وما هو إلا كلمح البصر أو هو أقرب؛ حتى وصل عدد المسجلين في وقت قياسي إلى 350.000 . دلالات عدد المشاركين ورمزيته: حدد الملك الراحل الحسن الثاني عدد المتطوعين الذين سيشاركون في المسيرة الخضراء من عامة الناس في سقف 306,500. أما الباقون، البالغ عددهم 43,500، فهم من المسؤولين والأطباء، والموظفين الحكوميين وسائر طبقات الإداريين، وبمجموع هذين الرقمين يصير العدد الإجمالي 350 ألفا، ولم يأت هذا العدد عبثا أو اعتباطا كما قد يُظن؛ وإنما كان يمثل عدد المواليد سنويا في المغرب، ومن ثم تبين أن رمزية هذا العدد مستلهمة من تطور النمو الديمغرافي في بلدنا وينطوي على دلالات ورسائل أخرى خاصة، ويتوافق من جهة أخرى مع عموم الحديث الذي رواه معقل بن يسار رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فإني مكاثر بكم الأمم" المخرج في سنن أبي داود. المسيرة الخضراء نموذج للسلام العالمي بعد اجتماع تلكم الحشود الكثيرة أطلقوا هتافات تدل على حب الوطن والتعلق بأهذاب العرش العلوي حاملين المصاحف والرايات البيضاء والأعلام الوطنية مرددين شعارات السلام والأمن والتعايش السلمي، وتوطيد الأخوة الإسلامية، مصداقا لقوله تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا" فكانت شعاراتهم بعيدة عن نزوعات التطرف والانغلاق، فضلا عن الدخول في الحرب، وغير ذلك من صنوف الإرهاب الفكري. ولم يسجل التاريخ أي حرب بين إسبانيا والمغرب وقتها بل انسحبت إسبانيا بفضل المحادثات الديبلوماسية التي أشرف عليها جلالة الملك الحسن الثاني، واسترجع المغرب أقاليمه بطريقة عجيبة تدل على عبقرية ملكنا الراحل، فرحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جنانه، بعد أن وحد شعبه فجعله كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا. المجالس العلمية دعامة أساسية للدبلوماسية الموازية لقضيتنا الوطنية: تنخرط كافة مؤسسات الدولة ومختلف هيئات المجتمع المدني للتعريف بتاريخ المسيرة الخضراء وإبراز جهود الشهداء الذين دافعوا عن وطنهم باستماتة، وتعد المجالس العلمية من أهم هذه المؤسسات الدينية الرسمية التي تُسهم بحظ وافر في إبراز مجدها التاريخي وكفاحها السلمي مع القيام بحفريات تاريخية ضافية حولها. كما أن هذه المجالس تخصص ندوات علمية عامة، ومحاضرات خاصة حول التعريف بقضيتنا الأولى وتنظيم مسابقات موازية لها، وحث الوعاظ والخطباء والمرشدين على تخصيص دروس ومحاضرات عنها سواء داخل المساجد أو في المركبات الثقافية، ودُور الشباب قصد توطيد الرأي العام وحثهم على التماسك الاجتماعي، وترسيخ التلاحم الداخلي، لتوحيد الكلمة وجمع الصف، لأن اللحمة الداخلية مكون أساسي ومهم للدفاع عن قضيتنا في المؤسسات الدولية. خاتمة: تلكم إذن كانت نبذة موجزة ومختصرة عن تاريخ أرض صحرائنا، فقد كانت مغربية بحكم روابط البيعة الضاربة في جذور التاريخ بين الراعي والرعية، لأن سلاطين المغرب المتعاقبين على الحكم فيه؛ على تلكم الروابط محافظين، وعلى درب الصلات القديمة مستمرين، وعلى نهجهم سلك جلالة الملك محمد السادس أعزه الله وأدام نصره تدبير شؤونها، فشيد في سائر أقاليمنا الجنوبية البنيات التحتية، وعمم الأوراش التنموية المتنوعة سواء في ذلك الحواضر الكبرى أو باقي المدن الصغرى.