صعب الحديث عن رواية أمين معلوف الأخيرة "إخوتنا الغرباء" دون الانطلاق من كتابه الفكري الذي سبق الرواية "غرق الحضارات". اغتيال حسن البنا، تسلم عبد الناصر سلطة مصر، العدوان الثلاثي، نكسة يونيو، هي أحداث أعادت تشكيل الشرق العربي بطريقة ما تزال تداعياتها السلبية ممتدة حتى الآن. ثم جاءت الثورة الإيرانية، وصعود مارجريت تاتشر إلى رئاسة حكومة بريطانيا ورونالد ريجان في الولاياتالمتحدة وتحالفهما معا في نشر أفكار السوق الحرة، ثم توريط الاتحاد السوفياتي في غزو أفغانستان، وبعد ذلك تمويل حركات المجاهدين العرب التي خرجت منها منظمة القاعدة، إلخ. أحداث أعادت تشكيل خريطة العالم وقذفت بالإنسانية إلى عالم متوحش غير مستقر تحكمه رؤوس الأموال وسياسات اليمين المتطرف. خلاصة الكتاب: لا أحد من الركاب على ظهر السفينة يمكنه الآن تجاهل حقيقة وجود جبال جليدية تعترض طريقنا وأنه يجب علينا تجنبها بأي طريقة. وتلك أيضا هي الفكرة المحورية في الرواية. يخاطب أمين معلوف في روايته "إخوتنا الغرباء" جمهورا شابا جديدا يريد منه أن يحمل مشعل إنقاذ البشرية، وهو لذلك اختار لروايته بناءً وحكاية غير ما اعتاد عليه في رواياته السابقة. هذه نقطة لم تنل رضى الكثير من المتابعين المخضرمين لكتابات أمين معلوف. في "إخوتنا الغرباء"، أو بالأحرى إخوتنا غير المتوقعين، قد لا نجد البصمة الروائية المعتادة لأمين معلوف، لكن بصمته الفكرية حاضرة لا شك. ربما نعرف جميعنا الخطر الذي يحدق بالعالم بسبب أسلحة الدمار الشامل الموجودة بين أيد غير مسؤولة لحكام شعوبيين ومتطرفين يصلون إلى الحكم استغلالا لخوف الشعوب من أعداء وهميين، لكن على الأرجح لا أحد منا فكر يوما في جدية تلك المخاطر، ولن يفعل، إلا لو صادف نصا يمسك به من تلابيبه ويدخله إلى عوالمه عنوة ليرى الخطر المحدق بنا، مثل هذه الرواية التي تبدأ بيوم تستيقظ فيه البشرية عن انقطاع التيار الكهرباء والاتصالات. لا أحد يعرف ما حدث، وهل السبب هو انطلاق الحرب النووية التي كانت الأيام السابقة تنذر بوقوعها أم ثمة سبب آخر. هو سبب آخر سنتعرف عليه تاليا بعد ظهور الإخوة غير المتوقعين، جنس بشري اختار مسارا مستقلا عن بقية البشرية منذ بدأ أفول نجم الحضارة اليونانية. جاء الإخوة في وقت بدا فيه أن حضارتنا، رغم تقدمها التكنولوجي الشكلي، قد أفلست. ما عادت تفعل هذه الحضارة إلا أن تقود عربتنا رأسا نحو الجدار. نحو الفناء. حضارة تقود السفينة البشرية رأسا نحو جبال الجليد المطلة من الأعماق. مجيء الإخوة، مع علومهم وقدراتهم، أدى بحضارتنا إلى أن تتقادم بين عشية وضحاها. وصار الإخوة الغرباء بمثابة مخلصين، بمثابة آلهة رحيمة لإنقاذ البشرية. جاء الإخوة غير المتوقعين طوق نجاة لنزع أسلحة الدمار الشامل وجاؤوا أملا للبشرية بعلومهم المتقدمة وطبهم الذي يتجاوز طبنا الحديث بمراحل كبيرة. لكن بقدر ما كان وجودهم أملا للكثيرين، كان مجيئهم إيذانا بانهيار حضارتنا وبتحولنا إلى شعوب بدائية لا حول لها ولا قوة أمام مستعمر قوي. كان مجيئهم أيضا شوكة في حلق أصحاب البذل العسكرية الذين لا مبرر لوجودهم إلا بالحروب المتواصلة، فشنت مجموعة منهم هجوما على الوافدين أدى بهم إلى الانسحاب. انتفضت الشعوب مطالبة بعودة "الأوصياء" الجدد، فجاءت رسالتهم أنهم يريدون العودة، أنهم ينتظرون العودة، لكن شرطهم الوحيد أن تتحد جميع الأمم والشعوب وتتخلى عن حروبها الطاحنة. جوهر طلبهم أن تتوحد شعوب الأرض ويصير عدوها الوحيد هو الموت. كان شرطهم الوحيد المضمر لعودتهم هو أن تنضج البشرية. وهو شرط مستحيل التحقق. تعرض الرواية في البداية، اعتمادا على قوة خارجية لجنس بشري في غاية التقدم، حلا إلهيا لمأزق البشرية التي تنحدر نحو الفناء، غير أن ذلك الحل في حد ذاته يحمل الفناء. فناء الضعيف في القوي. كان لا بد أن يرحل الأوصياء الأقوياء، وكان لا بد للرواية أن تقول بأن الحل هو أن تنضج البشرية. أن تتكاثف جهودها وتصير كل الأمم أمة واحدة مترابطة. صعب هذا وربما مستحيل. غير أن الأمل عند أمين معلوف في المستقبل، في الجيل الذي سيأتي. في الطفل القادم من تزاوج الساكنين الوحيدين في جزيرة صغيرة على الساحل الأطلسي: (لم يخطر في بالي يوما أنني قد أصبح أبا، في مثل سني، وبالنظر إلى أسلوب حياتي. وكان الأمر أقل ترجيحا بالنسبة إلى حبيبتي. ولكن ها قد بلغنا هذه المرحلة. لقد منحتنا "الأمة المتدخلة"، بهذا القدر أو ذاك، هدية على شكل طفل؛ ومنحتنا كذلك سنوات كثيرة نحتاج إليها لكي نراه يكبر ويترعرع). هذه رواية خفيفة من حيث البناء الروائي، تعتمد حبكات تقترب من أدب الخيال العلمي، مكتوبة بأسلوب بسيط يطبعه التشويق، غير أنها لا تخلو من عمق فكري، وتحليل للآثار الأخلاقية والنفسية والفلسفية لدى أبناء الحضارة الذين وجدوا أنفسهم، بل حضارتهم الغربية بالغة التقدم، حضارة متقادمة تكاد تشبه العصر الحجري، أمام القوة العلمية والأخلاقية لحضارة إخوتنا الغرباء. لكل ذلك، فإن هذه الرواية اختيار ممتاز للقارئ العادي الباحث عن المتعة كما القارئ الشغوف بالنصوص التي تثير الأسئلة وتدفعه للتأمل في العالم بنظرة مختلفة، ليكون فردا منتجا في مستقبل العالم لا مجرد مستهلك لما يفرض عليه. (*) روائي مغربي صدر له: "كافكا في طنجة"، "أحجية إدمون عمران المالح"، وقريبا رواية "ليل طنجة – الرواية الأخيرة"