كل من يتابع القضية الفلسطينية ومجريات أحداثها سيلاحظ أن وسائل الإعلام الدولية وحتى العربية باتت تتجاهل التطرق للقضية الفلسطينية، وفي حالة تغطية بعض أحداثها يتم التركيز على الجانب السلبي من المشهد، سواء في البعد الصراعي مع الاحتلال كتوقف عملية السلام وزيادة وتيرة الاستيطان، أو التحولات في علاقة فلسطين بمحيطها العربي وزيادة وتيرة التطبيع، أو ما يتعلق بالوضع الداخلي الاقتصادي والمعيشي وخصوصا في قطاع غزة والخلافات المرتبطة بالانقسام وتعثر جهود المصالحة والانتخابات وحكومة الوحدة الوطنية... إلخ. لا شك في وجود تراجع للقضية الفلسطينية بشكل عام ولكن وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي تمارس الانتقائية في نقل الحدث الفلسطيني والتعليق عليه ولا تعكس أو تعبر عن كل ما يجري في الواقع، لأنه إعلام مرتبط بدرجة كبيرة بمن يملك ويتحكم بوسائل الإعلام المسموعة والمرئية ووسائط التواصل الاجتماعي، ومن المعروف أن أهم المحطات والمراكز الإعلامية ووسائط التواصل يمتلكها أو يتحكم بها شركات ومستثمرون أمريكيون وغربيون وكثير منهم من اليهود وهم منحازون لإسرائيل وروايتها أو غير ملمين بكل تفاصيل الصراع في فلسطين وعليها، أو تابعة لمؤسسات إعلامية عربية رسمية أو خاصة ربحية، وقد رأينا كيف تحجب بعض المنصات الإلكترونية مثل "فيسبوك" و"غوغل" و"أمازون" تعليقات وأخبار وإغلاق مواقع مؤيدة للفلسطينيين كما تتبنى في كثير من الأحيان الرواية الصهيونية والتوراتية. الخلل لا يقتصر على الإعلام الخارجي بل تتحمل وسائل الإعلام الفلسطينية، من فضائيات وإذاعات ووكالات أنباء والناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي بعض المسؤولية بسبب المناكفات السياسية. فحركة حماس وفي سياق معارضتها لحركة فتح والسلطة ومنظمة التحرير تعمل على تشويه كل ما قاموا ويقومون به حتى التاريخ الوطني، ولا ترى حركة حماس وقوى المعارضة ما هو إيجابي من منجزات راكمتها عبر التاريخ وما زالت متواصلة حتى اليوم حتى وإن كانت متواضعة، ما هو قريب من ذلك يحدث أحيانا بالنسبة لحركة فتح والسلطة حيث لا يرون في حركة حماس وفصائل المقاومة في غزة إلا حالة انقلابية وأعمال مقاومة عبثية، ولقطاع غزة حالة فقر وجوع وعبء على السلطة دون تلمس الوجه الإيجابي من وجود حالة مقاومة وتصدي للعدوان الصهيوني وحالة عدم الاعتراف بإسرائيل، وفي الحالتين تجري عملية تشويه للمشهد الوطني. كما تقع بعض المسؤولية على المثقفين وكتاب الرأي حيث نلاحظ انكفاء البعض عن القيام بواجبهم في الكتابة والتنظير في الشأن الوطني، إما بسبب حالة إحباط ويأس أو الانجرار إلى حالة الاستقطاب الحزبي أو لتموضع بعضهم كمراقب أو خبير أجنبي لا يكتب إلا لمشاريع ممولة ومقابل أجر وبما يرضي الممول. لا شك أن القضية الفلسطينية ليست بأفضل حال سواء على المستوى الشعبي أو الرسمي، ولكن هناك جهودا إسرائيلية محمومة لتسليط الضوء على الوجه السلبي من المشهد الفلسطيني من أخطاء وتجاوزات ومظاهر فساد وتضخيمها، وتكرر الحديث عنها وعرضها بكل وسائط الإعلام والتواصل الاجتماعي وتجنيد جيش من الإعلاميين و"فيسبوكيين" لتكرار الحديث عنها والتعليق عليها، ويتساوق بعض الأشخاص والمواقع العربية مع الإسرائيليين لشيطنة الفلسطينيين والإساءة لهم وإبراز كل ما هو سلبي وسيئ فيهم، وللأسف فإن بعض الأشخاص والمواقع والفضائيات العربية تتصرف مع الفلسطينيين وكأن بينها وبينهم ثأر وبالتالي تريد الانتقام منهم من خلال تشويه صورتهم. الإعلام يتجاهل وبشكل مقصود الوجه الآخر من المشهد أو الواقع الفلسطيني، وهو مشهد مشرق ومشَرِّف على الرغم مما يتخلله من آلام ومعاناة. فمقابل المناكفات السياسية الداخلية وما يروجه الإعلام الصهيوني والمعادي من أخبار غير صحيحة أو مبالغ فيها عن الفساد في السلطة وداخل الأحزاب بما فيها أحزاب المقاومة، أيضا في مقابل كل ما يترتب عن الفقر والجوع والحصار من سلوكيات فردية وحتى جماعية مشينة وخصوصا في قطاع غزة...، مقابل كل ذلك هناك وجه آخر من المشهد لا يوليه الإعلام كثير اهتمام إن لم يتجاهله كليا. إذا نظرنا لواقع القضية الفلسطينية نظرة موضوعية وشمولية سنكون أمام مشهد مغاير لما يحاول الإعلام المعادي ترويجه، مشهد يدعو للفخر والاعتزاز بشعب فلسطين. نعم، لا نقلل من خطورة ما يجري داخل النظام السياسي من تجاوزات وأخطاء ومن انزلاق متسارع نحو تكريس انفصال غزة والخلل الكبير في كيفية إدارة السلطة الوطنية للشأن العام، ولكن من الظلم إصدار أحكام قاطعة على الشعب الفلسطيني وعلى مستقبل القضية برمتها بناءً على هذه الأخطاء والتجاوزات والتي غالبا مردها الاحتلال والانقسام الذي صنعه الاحتلال، أو طبقة سياسية عاجزة وفاشلة حتى وإن صدقت نوايا بعض مكوناتها. من يريد أن يحكم على الشعب الفلسطيني وعلى مسار القضية بشكل عام عليه أن ينظر للمشهد بكليته، نضال الشعب الفلسطيني في مواجهة كيان كولونيالي عنصري إرهابي مدعوم من الولاياتالمتحدةالأمريكية ودول الغرب، هذا الشعب الفلسطيني الذي تُحتل أرضه ويعيش نصفه داخل فلسطين والنصف الآخر في الشتات، ولا يتحكم بموارده الطبيعية وليس له أية سيادة على أي شبر من أرضه وممنوع عليه ممارسة حقه بتقرير مصيره على أرضه أو حقه بمقاومة الاحتلال وإن قاوم يتم اتهامه بالإرهاب. هذا الشعب وبالرغم من الاختلال الكبير في موازين القوى مع الكيان الصهيوني فإنه يواصل طوال مائة عام النضال والمقاومة بكل أشكالها وسطر ملاحم من الصمود والصبر والبطولة والإبداع على كافة المجالات، وهي انجازات وملاحم لا يوليها الإعلام المعادي وحتى العربي اهتماماً بل ولا يتم استثمارها جيداً من الطبقة السياسية الفلسطينية. من خلال قراءة موضوعية للمشهد السياسي الفلسطيني وما له علاقة بالمسكوت عنه أو لا يتحدث عنه الإعلام إلا نادرا نسجل ما يلي: 1- الشعب الفلسطيني لم يتنازل عن حقوقه المشروعة وخصوصا حق العودة والدولة المستقلة حتى وهو يمد يده للسلام ويوقع اتفاقيات كان يراهَن عليها للتوصل لتسوية مع العدو، ولو تنازل الشعب والقيادة عن الحقوق الوطنية لتم طي ملف القضية الفلسطينية منذ زمن. 2- الشعب الفلسطيني لم يعترف بدولة الكيان اليهودية، حتى اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل عند توقيع اتفاقية أوسلو لم يكن محل إجماع فلسطيني كما كان مشروطا بنجاح عملية التسوية السياسية، وقد سمعنا الرئيس أبو مازن في خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة يهدد بسحب هذا الاعتراف والتخلي عن الاتفاقات الموقعة والرجوع إلى قرار التقسيم أو خيار الدولة الواحدة، إن لم تلتزم إسرائيل بعملية سلام جادة تؤدي لقيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس. 3- الشعب الفلسطيني ما زال يمارس حقه بالمقاومة بما هو ممكن ومُتاح، صحيح، إن وتيرة المقاومة تراجعت وأنها تُمارَس بدون استراتيجية وطنية ويتم توظيفها أحيانا لمصالح حزبية إلا أنها ما زالت متواصلة في الضفة الغربيةوالقدس من خلال عمليات الطعن والدهس والاشتباك مع الجيش والمستوطنين في نقاط التماس، بالإضافة إلى المقاومة المسلحة في قطاع غزة. 4- الشعب الفلسطيني ما زال وفياً لشهدائه وأسراه في سجون الاحتلال ولا يتنكر لهم، يخلد ذكرى الشهداء ويتبنى عائلاتهم كما يواصل تبنيه لقضية الأسرى ولا يتوقف عن الدفاع عن قضيتهم بفعاليات وأنشطة متعددة وفي المحافل الدولية وهو يعتبر الشهداء والأسرى فخرا وتاجا يكلل جبين كل فلسطيني. 5- يمارس الشعب حقه بالمقاومة والدفاع عن النفس بأشكال متعددة داخل الوطن وخارجه، من خلال العمل الدبلوماسي الرسمي مع الدول وفي المنظمات الدولية، والدبلوماسية الشعبية التي تمارسها الجاليات الفلسطينية في التصدي للدعاية والرواية الصهيونية، أيضا من خلال حملات دعم عدالة القضية مثل تنظيم المظاهرات والندوات في المدن والعواصم الأوروبية والأمريكية، وحملات المقاطعة المدعومة من أحرار العالم مثل مقاطعة البضائع الإسرائيلية والمقاطعة الأكاديمية ومقاطعة رياضيين وفعاليات رياضية إسرائيلية، والمطالبة بمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين... إلخ. 6- ما زال العالم يعترف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره السياسي وحقه في دولة مستقلة وهناك 135 دولة تعترف بدولة فلسطين، كما تتواجد أكثر من 100 سفارة وممثلية لفلسطين عبر العالم ومثل هذا العدد من الممثليات الأجنبية في أراضي السلطة الفلسطينية، وما زال الاعتراف بدولة فلسطين يتوالى. 7- أثبت الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده أنه شعب مُبدع وخلاق في كل المجالات العلمية والاقتصادية والخدماتية وتشهد له بذلك الدول والشعوب التي يوجد فيها. 8- على الرغم من الانقسام وقوة التدخلات الخارجية إلا أن الشعب الفلسطيني وأحزابه لم ينزلق لمستنقع الحرب الأهلية لا في قطاع غزة ولا في الضفة الغربية ولا في الشتات، باستثناء المواجهات المحدودة منتصف يونيو 2007 عندما انقلبت حماس على السلطة وسيطرت على قطاع غزة- وقد أثبت وحدته ورقي وعيه الوطني خلال انتفاضة أيار الماضي . 9- بالرغم من الاحتلال والحصار والاستيطان وكل أشكال التضييق في الضفة وغزة فالشعب ما زال متجذرا ومتمسكا بوجوده على أرضه وأفشل كل المحاولات لإجباره للهجرة الجماعية خارج وطنه، وهو اليوم داخل فلسطين يعادل عدد اليهود ومثل هذا العدد يعيش في الغربة معتزا بفلسطينيته وينتظر العودة لأرض الوطن. 10- تبجح قادة إسرائيل بالانتصار على الفلسطينيين ونهاية القضية الفلسطينية لدرجة تجاهل رئيس وزراء العدو الحديث عنها في خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة لا يعكس واقع الحال ولا يُقنع شعوب ودول العالم، فهذا التبجح والادعاء مبني على راهن موازين القوى وعلى حالة الانهيار العربي التي فتحت المجال لتطبيع بعض الدول العربية، ولكن هذه الأمور ليست أبدية بل قابلة للتغيير في أي وقت حيث العالم والإقليم يشهد تحولات متسارعة. كل ما سبق لا يندرج في سياق الخطاب الأيديولوجي أو العاطفي أو الزعم أن الأمور على ما يرام ولا يحتاج الفلسطينيون إلا انتظار النصر القريب وإحصاء المغانم وتقاسمها، بل مبني على إدراك عقلاني وواقعي لجوهر الصراع وحقائقه التي تحاول الدعاية الصهيونية تجاهلها أو تشويهها، كما ينبني على معرفة بالشعب الفلسطيني وتجربته النضالية، فالشعب الفلسطيني يصبر ويتحمل ويجامل أحيانا ولكنه في لحظة ما وعندما يطفح الكيل ينتفض ويصحح المسار، سواء في ما يتعلق بوضعه الداخلي والتعامل مع الطبقة السياسية الحاكمة في غزة والضفة أو في تعامله مع العدو الصهيوني.