في اليوم التالي، أبرقت السماء وأرعدت، ثم انهمرت أمطارا غزيرة على غير عادتها وكأنه نذير شؤم. ساعة الحائط تشير إلى التاسعة، الكل غارق في نومه، نهضت من فراشي في تثاقل، دلفت إلى المطبخ أمشي على رؤوس أصابع قدمي، تجرعت قهوة رديئة ثم غادرت البيت دون رجعة. أطل الصباح حاملا معه غيوما قاتمة تغشى السماء، الطقس كئيب وحزين يلوح لي بمستقبل معتم، مستقبل يلفه الغموض وغير آمن. انصرفت نحو المقهى أجر حقيبتي، وكأني أعاود كرة التسكع والتشرد من جديد، حاصرني للحظات شعور بالتيه والضياع. وصلت مقهى كازابلانكا، وجدته هادئا شبه خال من الرواد، كان مصطفى جالسا بمفرده وقد انتحى إلى زاوية يرتشف قهوته، اقتعدت كرسيا بجانبه بعد أن ألقيت التحية، فيما صوت إلتون جون يصدح من المذياع مبعثرا صمت المكان بلا رحمة. تأملت في الجدار المقابل وقد خطفت بصري صورة ضخمة بالأبيض والأسود، صورة جميلة تجسد الباب المقوس لحي القبيبات. سألت مصطفى عن مصدرها فقال إن صديق عمره المصور إدريس بالعرائش أهداه إياها، ثم بادرني بسؤاله: – هل تعرفه؟ – ومن لا يعرف إدريس؟ فهو فوتوغرافي محترف أضحى أحد رموز المدينة، أضف إلى ذلك أنه كان يدرس عند والدي في مدرسة الميناء. هز رأسه نحوي محدجا بعينيه الواسعتين وأردف: – كلما شدني الحنين إلى مدينتي علقت بصري بهذه الصورة. في رحاب حي القبيبات نشأت وكبرت حتى اشتد عودي، موطن طفولتي وذكرياتي. ولم يلبث طويلا حتى سألني: – لماذا أتيت هذا الصباح حاملا معك حقيبتك؟ أجبته بتذمر وسيماء الخيبة يطفح على وجهي: – لقد تخليت عن العمل في سوق الخضار وغادرت بيت حسن، لم أطق تحمل عذاب أسواق لندن، والآن كما ترى عدت للمربع الأول، حيث لا مأوى ولا شغل. – وإلى أين أنت ذاهب الآن؟ – إلى "غرين بارك" أبحث عن صديقي خالد، يشتغل في مطعم فرنسي يدعى "بستينغو". سلمته حقيبتي في حسرة وقلت له: – هذه أمانتي بين يديك، احفظها لي، وسأعود لاحقا. طالعني بنظرات حزن وإشفاق مطلقا زفرة عميقة ورد علي: – ستجدني هنا بانتظارك حين تعود، وفقك الله يا تعيس الحظ. أكاد أجزم أنه كلما ضاقت بي الدنيا وتثاقلت علي الهموم ألجأ إلى صديقي خالد. فهو شاب تعرفت عليه في العرائش منذ كنا شابين مراهقين. لازلت أذكر تلك اللحظات الجميلة التي جمعتني به ونحن نتسامر في مقهى أطلس. كنا نرتاده كل مساء ونستغرق في أحاديث مطولة إلى ما بعد منتصف الليل. كان مقهى أطلس فسحتنا الوحيدة للهروب من روتين الحياة ورتابتها. صاحب المقهى رابح بدوره كان يأخذ مكانه في طاولة بجانبنا، غالب الأحيان كان يجالس الحاج ديوري واللاعب السابق عمرية. لم يكن حديثهم يشبه حديثنا في شيء. كان يشدهم الحنين إلى زمنهم الجميل، فيقلبون في أرشيف الماضي وذكريات العرائش في عهد الإسبان. عمرية لا يفتأ يتباهى بمساره الكروي العتيد زمن الاستعمار. بينما أنا وصديقي كنا منهمكين في رسم خطة هجرتنا إلى بريطانيا. تناهت إلى مسامعنا قهقهات رابح المدوية، التفت إلى خالد وقلت له لعلها نكتة أو حكاية طريفة أطلقها الحاج ديوري إرضاء لصديقه صاحب المقهى دغدغة لمزاجه واستمالة لقلبه. كان رابح رجلا بدينا صارما مهاب الجانب يتزلف إليه الناس. قد تحسبه منشغلا في الحديث مع جلسائه، لكن عينيه المتقدتين ترقبان كل شيء يتحرك داخل فضاء المقهى. أحيانا كان يزمجر ويصرخ بقوة في وجه نادليه، ويلبث جالسا على كرسيه طيلة المساء يصدر أوامره لمستخدميه دون إعياء أو كلل. لم يسبق لي أن جالسته ولا حدثته في شيء، لكنه كان يدردش أحيانا مع خالد ويسأله عن والده المقيم بجبل طارق. بلغت "غرين بارك"، طرقت باب المطعم الفرنسي أسأل عن خالد، فإذا به يخرج طالع المحيا وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة عريضة. كان مرتديا بذلة طاه محترف واضعا قبعة عالية بيضاء على رأسه وكأنه الشاف "ألان دوكاس" لحظتها برقت في ذهني أبيات الشاعر البارودي: ليس الصديق الذي تعلو مناسبه // بل الصديق الذي تزكو شمائله إن رابك الدهر لم تفشل عزائمه // أو نابك الهم لم تفتر وسائله حكيت لخالد في عجالة وضعيتي الصعبة، فرد علي فورا: – أنا مقيم حاليا عند عمي "مبارك"، غدا سيغادر إلى المغرب في إجازة صيفية، ويمكنك الإقامة معي ابتداء من يوم الغد. ضرب لي موعدا للقائه عند بوابة محطة مترو "كامدن تاون" في الساعة العاشرة صباحا. انصرفت في سبيلي فرحا منتشيا، والسؤال الأكبر يطرق رأسي: إلى أين أنا ذاهب؟! كيف سأقضي ليلتي هاته إلى غاية الصباح؟! هل سأعود مرة أخرى لأطرق باب عبد السلام؟! فكرت في الموضوع مليا، فآثرت أن أظل متسكعا طوال الليل في شوارع لندن وساحاتها بدل إحراج عبد السلام من جديد. سألجأ إلى باصات الليل لأنها ملاذي الآمن، سأنام فيها متناسيا كربتي، سوف أطوف لندن في الباصات من أقصاها إلى أقصاها. شعرت بحظي يداعبني، لقائي بخالد أعاد لي ثقتي بنفسي حتى صار بمثابة سندي ومظلتي، يقيني من حر الشمس وبلل المطر، الصداقة ملح الحياة كما يقال. مشيت وحيدا تجاه ساحة بيكاديلي. الشوارع مزدحمة بالمارة، يقذفني شارع ويتلقفني شارع. لندن لا تعرف الدعة والسكون، ليلها كنهارها. أصبح الجو دافئا معتدلا عما كان عليه في الصباح، والساعة تشير إلى الثامنة مساء، هذا ما تشي به ساعة دائرية منتصبة وسط الميدان. عندما أنظر من حولي أرى حشدا بشريا ضخما يتدفق من كل حدب وصوب، أغلب الناس يبدون سعداء، وأنا بدوري تغمرني السعادة رغم ظرفي البئيس. قررت ألا أستسلم للفشل، لن أترك اليأس يتسرب إلى نفسي، لم يكن يفصلني عن ميدان "ليستر سكوير" الشهير سوى بضع خطوات، وجدته غاصا بحركة الزوار والسياح. وقعت عيناي على شابة شقراء بعينين زرقاوين، كانت ترتدي ملابس بوهيمية، وتعزف موسيقى هادئة على قيثارتها اللامعة، في حين كلبها القصير المصوف واقف أمامها بشورت أحمر يستر عورته، ينصت ويستمتع بمعزوفات سيدته مثلنا، يحدق في وجوهنا دون أن ترمش عيناه. يبدو أنه مشهد مألوف لديه، طفقت تعزف الشقراء موسيقى سايمون/غارفونكل العذبة، أخذني هيام مقطع "أوف سايلنس" المرهف إلى عالم السكون والجمال حتى أنساني غمتي وتشردي، مما بعث في قلبي رجاء قويا، جعلني أفكر أنه يمكن للحياة أن تستمر وتسير نحو الأفضل. مضيت في طريقي حتى وجدتني أمام عازفين يحملان ملامح أمريكية لاتينية مرتدين ملابس الهنود الحمر، يعزفان موسيقى ساحرة تطرب الروح على ناي الخزيران، حتى يخيل إليك أنك تمشي بين أدغال الأمازون. استشعرت بعض التعب يسري في أوصالي، فاستطبت الجلوس قرب مسرح "هيبودروم" العريق أرتشف فنجان قهوة، وما هي إلا وهلة قصيرة حتى نهضت ومضيت في تباطؤ نحو ميدان الطرف الأغر. استويت وجلست القرفصاء أتأمل تمثال الأميرال نلسون المنتصب وسط الميدان، ينتشر الحمام في كل أطراف الساحة، ينثر السياح لهم حبوب القمح ويداعبونهم في مرح، فيما الحمام يقفز في اطمئنان على أيديهم وفوق رؤوسهم. جلت ببصري يمينا وإذا بي ألمح كهلا إنجليزيا يحمل أسمالا رثة، كان يدس وجهه بين صفحات كتاب سميك يقرأه بشراهة فائقة، واضح من هيأته أنه بلا مأوى ويعيش حياة التشرد منذ سنين عديدة، بادرته بسؤالي: – من يكن صاحب التمثال البرونزي نلسون؟ فانطلق يحدثني ويلقنني درسا في التاريخ، لمست من كلامه أنه شخص مثقف يذكرني بمتسكع مثقف آخر في العرائش يدعى إدريس. أجابني المتشرد قائلا: – في عام 1805 نشبت معركة بحرية في مياه المحيط الأطلسي بين الأسطول الإنجليزي ضد الأسطولين المتحالفين الإسباني والفرنسي قرب رأس طرف الأغر بقادس جنوب إسبانيا. وهذا الميدان سمي باسم تلك المعركة التي انتصرت فيها البحرية البريطانية انتصارا ساحقا وهذا التمثال يخلد للأميرال نلسون بطل المعركة. على يسار التمثال كان يجلس شاب بسحنة عربية غير بعيد عني، اقتربت منه لأستفسره عن باصات الليل وكأني أستعد للذهاب للنوم. كشف لي الشاب عن نفسه بلطف قائلا: اسمي موح وأتحدر من الجزائر، عرفته بنفسي وانغمسنا في دردشة عابرة، حكيت له ظروفي وتفاصيل قصتي التي قادتني إلى هذا الميدان. استلطف موح حديثي معه مبديا أسفا على معاناتي قائلا: – إن المئات من المشردين والمتسكعين يتوسدون الأرض بلا مأوى ويلتحفون السماء في مدينة الضباب. قلت له: – وأنت ماذا تفعل هنا في لندن؟! صعقت من كلمات موح التي لم أكن أتوقعها حين قال: – أنا نشال أنتشل الحقائب اليدوية في الشوارع والميادين، وغالبا ما أستهدف السواح الأجانب ! تسمرت مكاني من الصدمة وأنا أفكر في كلمات مناسبة كي أرد عليه: وهل في نظرك هذه مهنة؟!- – نعم.. امتهنتها منذ كنت مقيما بمدريد..! ثم سألته في استغراب: ألا تشعر بالخجل وتأنيب الضمير من هذا الفعل؟!- – لا لا، أنا لا أنتشل المسلمين ! إذن أنت تنتشل حقائب النصارى وتعتبر هذا جائزا؟!- – نعم، أليس هؤلاء النصارى الأوغاد من قتلوا أجدادنا ونهبوا بلادنا لعقود من الزمن ! ترددت قليلا قبل أن أعلق على كلامه المستفز: تريد أن تقول لي إنك هنا لتسترد ما نهبوه وسرقوه من بلادنا؟!- ! – أكيد، أكيد أجبته على الفور: – اسمح لي صديقي موح، فأنا أخالفك الرأي وأعتبر هذا فقها منحرفا. – هذا رأيك، أما أنا فأستأنس بفتوى أخذتها عن بعض الشيوخ. صمت قليلا ثم استرسل في حكاية غريبة: – عندما كنت أقطن في مدريد، انتشلت حقيبة فطومة المغربية في ساحة "بويرطا ديل صول".. فدعت علي باسم الولي الصالح "الهادي بنعيسى"، بعدها شلت قدمي اليسرى واعوج فمي لردح من الزمن. تماثلت للشفاء واسترجعت عافيتي بعد ذلك. منذ ذلك الحين وأنا أتجنب سرقة المسلمين والمغاربة خاصة. – قلت له في دهشة: !- ولماذا المغاربة خاصة؟ – لأن المغاربة لديهم أولياء صالحون أقوياء يبطلون العين والسحر، وإذا دعوا عليك أصابتك مصيبة وكأن صاروخا أصابك في مقتل. أطلقت ضحكة قوية من هذا الوصف المدهش حتى ظننته يمزح معي، إلا أنني صدمت لما علمت أنه يعتقد فيما ذهب إليه اعتقادا راسخا. هو فعلا يخشى المغاربة ويتجنب طريقهم.. مضيفا: – منذ بضعة أسابيع، هاجمت امرأة أنيقة بميدان "ليستر سكوير"، كانت تمشي على مهل مرتدية نظارات شمسية من نوع "غوشي"، شعرها أشقر مصفف حتى ظننتها سائحة إيطالية، بمجرد ما انتشلت حقيبتها الفاخرة بسرعة البرق أخذت تصيح وتصرخ بملء فيها: (صاكي، صاكي، اعطيني صاكي)، فعرفت أنها سائحة مغربية، قفز ذهني لحظتها إلى مدريد، وتذكرت فطومة و"الهادي بنعيسى". سرعان ما عدلت عن قراري وقد تملكني رعب شديد، رجعت إليها فورا فأعدت لها حقيبتها وأنا في حالة ارتعاش. قلت لها معتذرا: سامحيني، سامحيني سيدتي! أنا لا أسرق المسلمين، ثم انصرفت متخفيا في لمحة بصر وسط جمع غفير من الناس. انتابني ضحك شديد من حكاية موح المجنونة حتى دمعت عيناي، حكاية حبست أنفاسي. قلت له مازحا: – "لا يثنيك عن عملك وجرمك هذا سوى الولي الصالح "الشيخ الكامل" فرد علي في ارتباك مفضوح: – ومن هو الشيخ الكامل؟ فأجبته هازئا: – هو الولي الصالح "الهادي بنعيسى" نفسه دفين مكناس...