مع مرور السنين يتبيّن استحالة وجود مصدر طاقة آخر يعوّض معجزة "الذهب الأسود": النفط؛ هذا السائل المُحرّك، الذي يقوم عليه اقتصاد العالم، ظهر سنة 1857 أثناء محاولة ارتجالية لحفر بئر في رومانيا، ثمّ بعدها بعامين وُلدت صناعة تكرير البترول مع الحفر المتعمد أو ما يسمى بالتنقيب، في "تيتوسفيل" ببنسيلفانيا الأمريكية. كان الطلب المتزايد بعد اكتشاف مصدر الطاقة المعجزة هذا، في وقت مبكر، على "الكيروزين" خاصة، وزيت "المصابيح"؛ ثم بعدها بسنوات، في عام 1901، ولدت أول تجربة قادرة على إنتاج كميات هائلة من البترول تمّ حفرها في موقع يُعرف باسم "سپيندلتوپ" في جنوب شرق "تكساس"، وأُنتج من خلال هذا الموقع أكثر من 10 آلاف برميل نفط يوميا، أي أكثر من إنتاج مجموع آبار النفط في الولاياتالمتحدةالأمريكية كلها. وخلال فترة قصيرة استطاع النفط أن يحلّ محلّ الفحم كمصدر أساسي للوقود في العالم، وهي السلعة، أي الوقود، التي تتعلق أسعارها بأسعار براميل النفط المتغيرة اليوم، وتتعلق بها جيوب المواطنين في العالم. فكيف تتحدّد هذه الأسعار؟ ولماذا تتقلب، في صعود وهبوط مستمرّين؟ العَرْض والطلب مفهوم العرض والطلب واضح إلى حد كبير، ومعادلته بسيطة، وهي أنه كلما ارتفع الطلب مع نقص في الإنتاج ارتفعت الأسعار، وكلما انخفض الطلب مع زيادة الإنتاج تنخفض الأسعار، لكن الكثير من المنتجات لا تخضع لهذه المعادلة، وتظل أسعارها ثابتة كيفما كان العرض والإنتاج، إذن فلماذا النفط بالتحديد؟ السياسة وأسعار النفط معلوم أن الدول المنتجة للنفط بالترتيب هي: روسيا السعودية الولاياتالمتحدةالأمريكيةإيرانالصينكنداالعراقالإمارات ڤنزويلا .. إلخ، وهي نفسها الدول المستهلكة لكن بترتيب مختلف: الولاياتالمتحدةالأمريكية الاتحاد الأوروبي الصيناليابانالهند السعودية ألمانياكنداروسيا.. إلخ. وبنظرة واحدة على هذه القائمة للدول الأكثر إنتاجا واستهلاكا للنفط في العالم، يلاحظ أنها دول متنافسة سياسيا إلى حد كبير، تنافُس إمپريالي على التوسّع لغرض كسْب احتياطي النفط في أماكن أخرى، وتنافس أيديولوجي لغرض كسب حلفاء، بنفس الفكر ونفس المذهب، حلفاء، تجبرهم بشكل ما تلك الحماية تحت لواء الدولة الأكثر قوة، على أن يصبحوا شركاء اقتصاديين، يشكلون سوقا حُرّة للاستثمار، وتشكل شعوبهم أسواقا استهلاكية، مقابل قروض البنك الدولي. هذا التشاحن السياسي خلق أزمات كثيرة، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، ومناطق شرق آسيا بسبب تسابق تلك الدول الإمپريالية على مصادر النفط هناك، بين العراق وليبيا، وأفغانستان، والسودان، وسوريا اليوم. كما تأثرت أسعار النفط بما جاء به الربيع العربي من أزمات في ليبيا وسوريا ومصر، ليكون ارتفاع الأسعار نتيجة للاحتقان المتتالي للبلدان المنتجة والمستهلكة. فقد أدّت الاعتقالات المدنية التي مارسها الجيش المصري، في مصر على المحتجين في غشت الماضي، كما جاء حرفيا على موقع "أوپي" في مقال نشر يوم 16 غشت 2013 بعنوان: "السياسة والطبيعية يؤثران على أسعار النفط"، إضافة إلى الاحتجاجات التي عرفتها ليبيا في الشهر نفسه، إلى ارتفاع أسعار البرميل الواحد إلى: 108 دولارات أمريكية؛ وأدى أيضا إلى ارتفاع الأسعار الفيضانات التي عرفتها المكسيك خلال الصيف المنصرم، ولا تستثني هذه الحوادث الطبيعية والبشرية أسعار الغاز الطبيعي من الارتفاع. تضخم الدولار الأمريكي يؤثر أيضا في سعر البرميل، بما أن السعر دائما يعبَّر عنه بالدولار الأمريكي، وبالتالي فصعود أو نزول قيمة الدولار ينقص أو يزيد من سعر البرميل حتى وإن لم تتغير باقي العملات، وبهذا يكون ل"وولستريت" وحالة الاقتصاد الأمريكي دخْل في أسعار الوقود العالمية، قد تستغلها أحيانا لخنق بعض الدول المنتجة والمصدرة مثل إيران، حتى ترضخ لطلباتها، أو لشد حبل الاتحاد الأوروبي في بعض القرارات السياسية، ويمثل بذلك الدولار مع سعر النفط أداةَ مساومة سياسة قوية للولايات المتحدةالأمريكية. إضافة إلى كل هذا، يدخل احتياطي البترول لدى الدول ضمن العوامل المؤثرة في سعره الحالي، وهو ما يسمى (السوق المستقبلي)، أي مدى إمكانية الإنتاج النفطي في السنوات القادمة وحجم هذا الإنتاج؛ فكلما ظهر أن الاحتياطي ينقص، قللت الدولة المنتجة من الإنتاج وعلّت السعر. ويخول هذا أيضا عقودا تسمى ب"العقود المستقبلية"، أو "العقود الآجلة"، وهو اتفاق مُلزِم يعطي لأحد الحق في شراء برميل نفط بسعر محدد مسبقا في موعد سابق، ويلتزم البائع والمشتري بالسعر المحدد على العقد الآجل حتى وإن ارتفع سعر البرميل عالميا أو انخفض. ويعتمد على هذه العقود كثير من شركات الطيران التي تلتزم مع شركات منتجة للفيول بأسعار محددة لسنوات طويلة، ويتم الاتفاق على السعر حسب "إحساس" بعض المتوقعين الدارسين للسوق في الأعوام القادمة، تسمى "معنويات السوق". نظام المُقايسة المقايسة ببساطة تعني أن الدولة ستتوقف عن دعم سعر المحروقات، وهذا الدعم كان يتمثل في أداء مبالغ تساعد بها الدولة المواطن على شراء الوقود دون أن يحس بزيادة أسعاره العالمية، المرتبطة مباشرة بأسعار برميل النفط بالدولار الأمريكي. وتعد الحكومة اليوم أن المواطن سيستفيد من انخفاض سعر الوقود حين انخفاض الأسعار العالمية، بينما سيضطر لتأدية فارق سعر الارتفاع إن ارتفعت الأسعار العالمية.. لكن إلى حد معين، وهو 120 دولارا للبرميل، وذلك عبر تأمين أخذته الحكومة، وستُؤدّيه من الميزانية العامة. وقد شهد المواطن المغربي في أول يوم من تطبيق نظام المقايسة ارتفاع سعر "الدييزيل" ب 8.4 في المائة، ليصل سعر اللتر إلى 8.81 درهم، في حين بلغ سعر اللتر من البنزين 12.75 درهما. تخلي الحكومة عن دعم المحروقات بسبب الأسعار الملتهبة التي وصلت إليها براميل النفط، سيجعل المواطن المغربي في مواجهة مباشرة مع هذا السوق الشرس، وفي احتدام مع ارتفاع الأسعار في غياب الاستقرار في المنطقة، وفي غياب أي توقعات تقول إن الأسعار يمكن أن تنخفض في مستقبل قريب. وقد تستمد الكثير من الجهات هذه المبادرة التي تراها الحكومة إصلاحية ويراها الشعب مُرهقة، شرعيتها لتتمة خرجاتها في مسلسل "الربيع العربي".