تكمن أهمية منطقة الكركرات في موقعها الجيو الاستراتيجي باعتباره يشكل معبرا حدوديا مع الجارة موريتانيا وباعتباره كذلك موقعا على مشارف المحيط الأطلسي في أبعد نقطة للأقاليم الصحراوية من الجهة الغربية. ولأنه يحتل هذه المكانة التي تشكل صلة وصل بين المغرب وعمقه الإفريقي في كل أبعاده السياسية والاقتصادية والروحية ، فإن النظام الجزائري كان وما زال يخطط ويتربص لكي يشوش على المغرب ويحول دون إبقاء هذه المنطقة تابعة لسيادته. 1 ليست هي المرة الأولى التي ينازع فيها النظام الجزائري وجود المغرب في هذا المعبر وفي هذا الموقع بالذات، بل سجلت تحركات مناوئة قادها مرتزقة البوليساريو بايعاز من جنرالات الجزائر وكان ذلك في شهر غشت من عام 2016 حينما دخلت عناصر من البوليساريو إلى المنطقة في خرق سافر لوقف إطلاق النار الذي أشرقت عليه الأممالمتحدة. وكان هذا التسلل قبل ذلك قد أخذ طابعا تجاريا في تلك المنطقة التي سميت "بقندهار" في إشارة إلى تجارة التهريب بكل الممنوعات التي كان ينشط فيها كذلك عناصر من البوليساريو بالزي المدني. وقد نبه المغرب في حينه إلى كل هذه التجاوزات والخروقات وإلى ما يمكن أن تأخذه هذه التحركات المريبة من مخاطر أمنية وعسكرية في المنطقة. وبالفعل حدث ما كان المغرب قد نبه إليه الأممالمتحدة وتبين أن اقتحام المنطقة لم يكن فقط بغرض تجارة الممنوعات بل كان يستهدف إغلاق معبر الكركرات والحيلولة دون عبور القوافل التجارية المغربية إلى غرب إفريقيا. وفي هذا الصدد، لاحظت قوات المينورسو، وفق وثيقة رفعتها إلى الأمين العام للأمم المتحدة وجود 32 عسكريا مسلحا من الجبهه الانفصالية بمنطقة الكركرات كانوا يعترضون سبيل الشاحنات المغربية ويهددون سائقيها. وبعد تدخل قوات المينورسو التي أجبرت ميليشيلت البوليساريو على الانسحاب وعدم اعتراض الشاحنات، استحسنت الخارجية المغربية ذلك لكنها في نفس الوقت حذرت من عدم تكرار ما حدث من خروقات، مشددة على ضرورة عدم خرق اتفاق وقف إطلاق النار مرة أخرى. 2 نفس السيناريو قد عاد ليهدد المنطقة في شهر أكتوبر من عام 2020 وهذه المرة بشكل أخطر بعد أن تم وضع مدنيين من مرتزقة البوليساريو في الواجهة تمهيدا للسيطرة على منطقة الكركرات واحتلالها لتقديمها على طبقة من فضة لجنرالات الجزائر المهووسون بالوصول إلى مياه المحيط. وطوال ثلاثة أسابيع من ضبط النفس الذي أظهره المغرب حيال الاستفزازات والإهانات من سب وشتم التي تعرضت لها قواته، تمكنت الدبلوماسية المغربية من إشهاد العالم على الاعتداءات التي شنها المرتزقة على الشاحنات المغربية وتخريب الطرقات التجارية المؤدية إلى المعبر الحدودي مع موريتانيا. وحينما عجزت قوات المينورسو عن القيام بمسؤولياتها من نزع فتيل حرب وشيكة الوقوع بالرغم من قرار مجلس الأمن رقم 2548 الذي اتهم فيه البوليساريو بانتهاك الاتفاقيات العسكرية في الصحراء، أجبرت القوات الملكية المغربية على أن تتولى المسؤولية بنفسها وبكل باحترافية أذهلت الجميع وصدمت جنرالات الجزائر بعد أن تم إجلاء المرتزقة يوم 13 نونبر 2020 الذين أسلموا سيقانهم للريح تاركين نعالهم لتكون شاهد عليهم وعلى جبنهم. كل ذلك حدث من دون إطلاق رصاصة واحدة ولا سقوط ضحايا. كان ذلك اليوم بمثابة نكسة للاستخبارات العسكرية والدبلوماسية الجزائرية لأن الطابع السلمي الذي حسم في ذلك المأزق، على عكس ما كان يراهن عليه النظام الجزائري، قد لقي استحسانا من المنتظم الدولي وإشادة باحترافية القوات المسلحة الملكية. في حين أن جنرالات الجزائر خاب أملهم بعد أن امتنع المنتظم الدولي عن أي تنديد بالتدخل المغربي. بل العكس هو الذي حدث من خلال رسائل الدعم والتضامن مع المغرب، وصدور بيانات من القوى العظمى التي دعت إلى عدم المساس بالحركة التجارية بمعبر الكركرات. 3 لا شك أن إحكام المغرب اليوم قبضته على منطقة الكركرات قد فرضه كيان غير موثوق به وليست له صفة الدولة لكي يحترم الالتزامات التي تفرضها المواثيق والمعاهدات الأممية. كيان مارق خارج نطاق الشرعية الدولية وبالتالي لا يجوز أن تطبق فيه عقوبات ميثاق الأممالمتحدة في حال الإخلال بالالتزامات. ولذلك، لا يجوز أن يبقى المغرب مرهونا بقيود والتزامات بينما الطرف الآخر هو في حل منها بدليل أنه لم يحترم الاتفاقات العسكرية ولا بتلك التعهدات التي أعطاها في الأزمة الأولى التي عرفتها منطقة الكركرات عام 2016. واليوم يريد النظام الجزائري أن يعيد لنا لعبة الكر والفر في سناريو ثالث وهو يطالب بتسليم منطقة الكركرات إلى المجهول ليعبث فيها من جديد قطاع الطرق المنتمون إلى عصابة البوليسايو. وقد لوحظ أن جنرالات الجزائر سارعوا مباشرة بعد تعيين المبعوث الجديد للأمين العام الإيطالي المخضرم "ستيفان دي ميستورا" إلى دعوة المغرب إلى سحب قواته التي أعاد نشرها في نهاية عام 2020. لكن ماذا تخفي هذه الدعوة من مضامين: أولهاإ، إن النظام الجزائري الذي يدعي دائما أنه ليس طرفا رئيسيا في هذا النزاع كيف يسمح لنفسه، وهو يقول بأنه فقط ملاحظ، أن يتخذ "مبادرة" لا يحق سوى للأطراف الرئيسية أن تسارع إليها. إذن من خلال هذا الموقف يتضح أن الجزائر هي المعنية مباشرة بهذا الملف وهي التي وراء كل صغيرة وكبيرة. أما البوليساريو لا يعدو أن يكون سوى دمية يحركها جنرالات الجزائر. ثانيا، فشل النظام الجزائري في تحقيق مخططه من الأزمة الثانية للكركرات ، خلف لديه انتكاسة كبيرة ومدوية أجبرته على أن يتموقع في مقدمة الحدث وان يعيد مرتزقته إلى الصف الخلفي لأنهم أثبتوا بالفعل على أنهم غير قادرين على مواجهة القوة الضاربة للمغرب لا عسكريا ولا دبلوماسيا. ثالثا، هذه الخرجة الجزائرية لها قبعتان: الأولى يرتديها النظام الجزائري حينما يريد مواجهة المغرب في المحافل الدولية عبر خرجات إعلامية ودبلوماسية. والثانية يرتديها ليلزم نفسه في حدود الملاحظ للتهرب من الموائد المستديرة التي آظهرته في السابق على أنه طرف رئيسي.، وأن حصته الزمنية في التدخل أو التعقيب كانت هي نفسها التي تعطى لبقية الأطراف المشاركة في تلك الموائد. ولذلك، فإن شطحات النظام الجزائري اليوم لم تعد تجدي نفعا. المغرب لن يلدغ من الجحر مرات متعددة . وقد كان رده على هذه الخرجة الجزائرية ردا صارما غير قابل للمساومة. واتضح ذلك جليا من الرسالة التي وجهها جلالة الملك الى أمين عام الأممالمتحدة السيد غوتريس التي أكد فيها أن قرار المغرب من منطقة الكركرات " لا رجعة فيه" بعد أن استعاد المغرب بفضله حرية الحركة المدنية والتجارية. لكن السؤال المطروح على القيادة الجزائرية وهو لماذا اختارت أن تساوم المغرب في الكركرات وتدعوه إلى الانسحاب بذريعة أنه قد عمد إلى تغيير الوضع القانوني للمنطقة العازلة. غير أنه في مقابل ذلك قد نسي النظام الجزائري أو تناسى العديد من الأماكن المشمولة باتفاق وقف إطلاق النار التي يتموقع فيها المرتزقة ويسمونها بالمناطق المحررة بينما هي في واقع الأمر هي مناطق عازلة بحسب الاتفاقيات العسكرية المبرمة تحت إشراف الأممالمتحدة. بل الأخطر من ذلك أن النظام الجزائري يدعي أن هذه المنطقة الواقعة خارج المنطقة العازلة ليست مشمولة باتفاق وقف إطلاق النار ويمكن وصففها "بالمناطق المحررة. لكن هذا الأمر غير صحيح . فبالعودة إلى مقتضيات اتفاق وقف إطلاق النار فهي واضحة تمام الوضوح ولا تقبل أي تأويل آخر. فالمغرب حينما انسحب من المناطق الواقعة شرق الجدار الأمني فذلك لا يعني أنه قد فرط في أراضيه وهو ما يظهر جليا في الفقرة 54 والفقرة 56 من خطة التسوية. الفقرة الأولى تعني أن المغرب أراد أن يخفض قواته بشكل تدريجي ومدروس خلال الفترة الانتقالية فقط لتسهيل مامورية الأممالمتحدة إلى حين تحقيق تسوية سياسية مقبولة. أما الفقرة الثانية وهي 56 فتنص على "أن القوات المغربية المتبقية في الإقليم ستتألف فقط من القوات المنتشرة في مواقع ثابتة أو مواقع دفاعية على طول الجدار الرملي الذي شيده المغرب بالقرب من الحدود الشرقية والجنوبية للإقليم". في حين أن المادة 57 من التسوية فتتناول مقتضيات خاصة لتنص على ما يلي:" ستقتصر قوات جبهة البوليساريو على المواقع التي يتم تعيينها من قبل الممثل الخاص ، وستراقب الوحدة العسكرية التابعة للمينورسو أنشطة تلك القوات عن كثب". وبذلك يتضح جليا أن لا وجود لما يسمى بالمناطق المحررة في المنطقة كلها. فكل ما هنالك أن النظام الجزائري تعمد تسمية هذه المناطق ليتستر على الخروقات والتجاوزات التي طالت جغرافية المنطقة، ولا يخجل من نفسه مطالبة المغرب بالانسحاب من منطقة الكركرات. وتبقى ادعاءات النظام الجزائري ومرتزقته بخصوص هذه المناطق ادعاءات باطلة بموجب الاتفاقات العسكرية الموقعة بين بعثة المينورسو والبوليسايو من جهة والمغرب من جهة ثانية على التوالي في شهر دجنبر 1997 وفي شهر يناير 1998. وتقسم هذه الاتفاقية التي يطلق عليها الاتفاقية العسكرية رقم 1 المنطقة التي تشرف عليها قوات المينورسو الى خمس مناطق : المنطقة العازلة على مسافة 5كلم مربعة شرق وجنوب الجدار الأمني منطقتان مقيدتان بعمق 30كلم شرق وغرب الجدارالمغربي منطقتان ذات قيود محددة وهما عبارة عن الامتدادان المتبقيان للأرض في الصحراء على كلا الجانبين على التوالي. ويوغل النظام الجزائري ومرتزقته في التفسير حيث يدعيان أن منطقتي "تيفاريتي" و "بير لحلو" تقعان على بعد 90 كلم من الجدار الأمني وهو ما يعني في نظرهما أنهما خارج المنطقة العازلة والمنطقتين المقيدتان وبالتالي فهما "مناطق محررة". وهذا الادعاء فيه تسويف وتزوير بحجة أن الاتفاقية العسكرية رقم 1 تخص المنطقتين السالفتي الذكر بتدابر خاصة حيث "تحظر بشكل واضح في منطقتي تفاريتي وبير لحلو زرع حقول الألغام، وتحظر كذلك إنشاء مقرات جديدة أو مرافق تخزين الذخائر والثكنات". وتجسيدا لذلك، فإن قوات المينورسو كانت تقوم بدوريات من حين لآخر في تلك المنطقة وقد اعترضت عناصر البوليساريو سبيلها وهددتها إن هي عادت إلى تلك الدوريات.، مما دفع لاحقا المينورسو إلى رفع تقرير حول هذا الحادث. اعتبارا لما تقدم ولكل هذه الحيثيات، يبدو أن من ينبغي مساءلته على الخروقات الرامية إلى تغيير الوضعية القانونية التي ارتأتها الأممالمتحدة للمنطقة خلال المرحلة الانتقالية، هو النظام الجزائري الذي لا يتوقف عن العبث والتلاعب بمصير المنطقة تحت مسميات كثيرة مرة من قبيل الانسحاب ومرة أخرى تحت طائلة تقرير المصير. وهنا نستحضر السؤال الكبير لماذا لا ينطبق كل ذلك على إقليم القبايل باعتبار أن شعبه من أقدم شعوب المنطقة وهو أحق من غيره بأن يتمتع باستقلاله. فعوض مطالبة المغرب بالانسحاب من الكركرات عليكم يا رجال الثكنات أن تدركوا أن شعب القبايل يرفض احتلالكم له وقد قالها لكل العالم في الانتخابات الأخيرة من خلال مقاطعته للانتخابات حيث وصلت نسبة المشاركة بالتزوير إلى أقل من 1 بالمائة. ولذلك فإن المغرب اليوم لا يلتفت إلى سياستكم الالتفافية. فهو أقوى من أي وقت مضى بما فيه الكفاية ليتصدى إلى كل المناورات التي تحاك ضد وحدته. قوته في التصدي ترتكز على الإيمان بقدراته وعلى تلاحم مكوناته وعلى نظامه الديمقراطي الذي يتعزز بمشاركة واسعة في الاستحقاقات الانتخابية التي سجلت مؤخرا أعلى نسبة للمشاركة في أقاليمه الصحراوية . كما أن قوة المغرب مسنودة بدعم دولي وهو الدعم الذي تزكيه الممثليات الدبلوماسية والقنصلية في الأقاليم الصحراوية الآخذة في التزايد مما يعني الاعتراف بمغربية الصحراء، إضافة إلى حجم الاستثمارات الأجنبية التي تتقاطر على المشاريع الواعدة في الصحراء المغربية. كل هذا يحصل غصبا على الأعداء الذين مازالوا متخلفين عن الركب ولم يستوعبوا بعد تحت وطأة الصدمة أن ما يحصل قد تجاوز الخطاب التقليدي الداعي إلى الانسحاب في الوقت الذي قطعت فيه الدبلوماسية المغربية أشواطا رسخت من قاعدة الشرعية لمبادرة الحكم الذاتي التي أخذت تحظى بتزكية دولية على أنها الحل الملائم والأنسب لذلك النزاع المفتعل. فخطاب النظام الجزائري أصبح بعد كل ذلك مكشوفا ومتجاوزا، ولا يدري عن نفسه أن كل المؤامرات التي يحيكها ضد المغرب تتم خارج السياق الإقليمي والدولي وتلعب في ما تبقى من وقت ميت.