لم يكن حدث الأسبوع قرار المحكمة الأوروبية حول اتفاقيتي الصيد البحري والتبادل الفلاحي المبرمتين بين المغرب والاتحاد الأوروبي، الذي ستتم مراجعته في المرحلة الاستئنافية، والذي لا أثر له بموجب نص القرار نفسه، أضف إلى ذلك أنه تم تجاوزه من طرف المغرب والاتحاد الأوروبي من خلال البلاغ المشترك الموقع بينهما، الذي أكد على أن الطرفين يعيان جيدا سياق إصدار هذا القرار السياسي.. بل كان الحدث تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون، التي أطلقها أثناء استقباله بقصر الإليزيه 18 شابا وشابة من أبناء "الحركيين"، في إطار تنفيذ التوصيات الصادرة عن تقرير بنجامين ستورا حول "ذاكرة الاستعمار والحرب الجزائرية"، الذي تم تقديمه للرئيس الفرنسي في يناير 2021، بمناسبة ما تمت تسميته ب"مصالحة الذاكرة الفرنسية- الجزائرية". وقد كان التصريح الذي أدلى به ماكرون في هذا السياق، وفي سياق النقاش الذي دار بينه وبين هؤلاء الشباب، سابقة في تاريخ العلاقة الفرنسية الجزائرية، ليس لأنه صدر عن الرئيس الفرنسي، بل لمضمونه القوي وغير المسبوق. الرئيس الفرنسي طرح قضايا سياسية مهمة تعكس الحالة التي تعيشها الجزائر في ظل نظام حوَّل الجميع إلى رهينة لديه، وجعلت الرئيس تبون عالقا في هذا النظام الجزائري الذي أضعفه الحراك، حسب تعبيره. إننا أمام تصريح تم فيه تشريح النظام الجزائري بعين فرنسية تعرف كل خبايا التاريخ الجزائري، الذي حسب ماكرون حان وقت إعادة كتابته، وهو ما جعله يتساءل: هل كانت هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟ هذا السؤال لم يكن اعتباطيا، لأنه يعرف جيدا أن الجزائر لم تكن يوما أمة ذات هوية واضحة، فهي أكثر الدول التي عاشت تحت الاستعمار والتغلغل الأجنبي، عاشت تواجدا عثمانيا، تلاه لأكثر من قرن الاستعمار الفرنسي، مما جعل مفهوم الأمة ببعديها التاريخي والهوياتي مفتقدا لدى الدولة الجزائرية. ماكرون وهو يتحدث عن وضعية تبون، باعتباره رئيسا عالقا في جبة العسكر الجزائري، إنما يصف الحالة السياسية القائمة، حيث أصبحت جميع المؤسسات، بما فيها رئاسة الدولة، رهينة لدى الجيش الجزائري، خاصة الجنرال شنقريحة، الذي بات المتحكم الأول في القرار السياسي بالجزائر وحوَّل تبون إلى مجرد دمية، ورئيس صوري للتغطية عليه باعتباره الحاكم الحقيقي للجزائر، والمتحكم الفعلي في السلطة وصانع القرار السياسي هناك. لقد بات الوضع في الجزائر اليوم يثير حفيظة المجتمع الدولي، ويطرح أسئلة حقيقية حول مستقبل هذا النظام، ومستقبل الجزائر ككل مادام عسكرها أصبح هو المسيطر، إلى حد أن الرئيس نفسه صار عالقا وسطه، لا هو قادر على الحركة ولا هو قادر على اتخاذ موقف سياسي بمعزل عن تحكم ووصاية العسكر، الذي بات هو المتحكم الفعلي في السلطة السياسية. إننا أمام حالة طالما تم انتقادها والتنبيه إليها نظرا لخطورتها على الشعب الجزائري، الذي يناضل منذ أكثر من ثلاث سنوات من أجل حريته وتقرير مصيره السياسي، والذي بفعل حراكه الطويل أصبح هذا النظام عاجزا، مشلولا ومنهكا، ليس له سوى محاولة التغطية عن عجزه هذا بافتعال الأزمات مع الجيران ومحاولة دفع ليبيا إلى إجهاض انتقالها السلمي، الذي انتهى بإقرار انتخابات نزيهة، مستقلة، ستسمح بإعادة بناء المؤسسات الليبية على أسس جديدة. ما قاله ماكرون ليس بالجديد، لكنه اليوم جاء على لسان الرئيس الفرنسي، الذي أعاد في التصريح ذاته مسألة كتابة تاريخ الجزائر التي لم تكن يوما أمة. ومسألة كتابة التاريخ هي إشارة قوية لما يحمله الأرشيف الفرنسي من وثائق تثبت زيف التاريخ الذي تمت كتابته من طرف العسكر الجزائري، خاصة أن ما حاول العسكر كتابته هو مجرد محاولة زائفة لتشكيل الوعي الجزائري لما بعد استقلال الدولة، وهو وعي مرتبط بتاريخ كتبه الجنرالات خدمة لبطولات غير حقيقية، وهو ما أكده التصريح ذاته لماكرون، الذي قدم إشارة واضحة إلى أن ما يتم تسويقه اليوم من معطيات جزائرية "تاريخية" يُقدم بمرجعية أيديولوجية مرتبطة بمرحلة الانقلاب على بنبلة لشيطنة فرنسا دون أن يطال التاريخ الجزائري الرسمي أي حديث عن فترة التواجد العثماني فيها!!! تصريحات ماكرون لا يمكن ربطها بسياق الانتخابات الفرنسية، بل مرتبطة أساسا بتشخيص فرنسي للوضع السياسي المريض بالجزائر، الذي بات اليوم قريبا من الانفجار الاجتماعي والسياسي بفعل الحراك الجزائري، وبسبب هيمنة العسكر على جل المؤسسات الجزائرية، بما فيها الرئيس الذي أصبح عالقا في هذا النظام، إن لم يكن عاجزا أمامه. ففي كل أنشطة تبون الرسمية لا يمكن أن يظهر إلا وشنقريحة يزاحمه في التقاط الصور في رسالة إلى الداخل والخارج بأنه هو الحاكم الفعلي للجزائر. ماكرون أعاد طرح نقاش حقيقي على دول شمال إفريقيا أن تفتحه، نقاش مستقبل المنطقة في ظل نظام سياسي عسكري، مستبد، عالة على المنطقة، أصبحت الكلمة فيه للجنرالات. طبيعة هذا النظام هي ما تجعلنا نفسر الأسباب وراء اشتعال كل الحدود التي تمتلكها الجزائر مع الدول المجاورة لها، وهي ما تفسر الأسباب الحقيقية التي تجعل هذا النظام يصعد في كل مرة مواقفه ضد المغرب. خلاصة القول أننا أمام نظام منخور من الداخل، يحمل في طياته كل عوامل الانفجار الداخلي، التي باتت تهدد الشعب الجزائري، وتهدد المنطقة. وتكفي الإشارة إلى ردود الفعل الكبيرة، التي خلفها صدور كتاب "ربيع الإرهاب في الجزائر" في فرنسا تزامنا مع هذه التصريحات الصادرة عن ماكرون، حيث يفضح الكتاب كيفية صناعة الإرهاب في الجزائر، ومسؤولية الجنرال توفيق مدين وشنقريحة وخالد نزار عن كل الجرائم التي حدثت بالجزائر ودفع البلد لتعيش عشرية سوداء جديدة... إنه وجه آخر من التاريخ الجزائري الذي تمت كتابته وتضمنه هذا الكتاب، وقد أشار إليه ماكرون في تصريحه بطرح سؤال حول التاريخ الجزائري الذي كتبه الجنرالات.