"الحزبان الاشتراكي والقومي (مهما يكون اسمه بحسب البلدان) جديران ببعضهما؛ فالغيرة والكسل ما يحركهما: يحلم الأول بحد أدنى من العمل، والثاني بعقل شبه معطل، ما ينمي لديهما كراهية شديدة تجاه الأفضل الذي ينتج الثروات، وهذا بالضبط ما يجعل حياة تابعيهما شاقة ومؤلمة". نيتشه 1 الحق والمنفعة الاشتراكي والإسلاموي خطان متعارضان؛ لكن ليسا متوازيين، إذ لا مناص لهما من أن يلتقيا عند ما يسميه نيتشه بالطبع الدهماوي، حيث الرغبة الجامحة في التأثير على الجماهير، وتحويل المبادئ إلى حماقات كبيرة. قال فولتير: حينما يتعاطى الدهماء التفكير فإن كل شيء إلى ضياع؛ لذلك، لا تزهر الديمقراطيات إلا في مجتمع تحصن ضد الإيديولوجيات التي صارت من الماضي. استعمال مفرط للمال، ضرب حرية التجمع، العنف، عدم تسليم المحاضر.. أحكام جاهزة تمس العارض لا الجوهر. أعظم حدث سجله تاريخ 8 شتنبر، والذي شكل منعطفا نحو تقاليد جديدة، هو الإطاحة بطوباويات (اشتراكية/ قومجية/ إسلاموية..) ظلت تراهن منذ الاستقلال على الحق (وفق أدلوجتها) كمحرك للناخب لا المنفعة. الحق لا يفضي إلى المنفعة؛ لأنه خيال لن يتحقق. أما المنفعة فهي الأداة الواقعية لإقرار الحق في شكله النسبي، لأن الحق المطلق وهم كبير ينتهي دوما بصدمة. أشار عبد الله العروي إلى أن المنفعة التي تحرك الناخب المغربي لا تعني بالضرورة الانتهازية، واصطلح عليها منار السليمي "دمقرطة الزبونية"، حيث الفرق يبدو واضحا بين بيع الصوت، وبين مقايضته بمصلحة جماعية. والدرس هو أننا في الديمقراطيات لا نقترع على ملائكة أو أصحاب ألواح، وإنما على من نراه جديرا بتحقيق مصالحنا، لا مصلحته هو أو مصلحة جماعته فقط. 2 السياسي والكوميدي كثيرا ما أطنب التقدميون في وصف أنفسهم بحزب الجماهير والامتداد التاريخي للشعب، وهو ما لم يتجسد عبر صناديق الاقتراع المباشر؛ فالمقعدان اللذان فاز بها اليسار بشقيه المنشقين كانا نتاج قاسم انتخابي اعتبرته الأستاذة نبيلة منيب طيلة حملتها الانتخابية ضربا في الصميم للديمقراطية، ويا لسخرية القدر.. هو من سيضمن ولوج زعيمة اليسار إلى البرلمان. هل كانت تجهل هذه الحقيقة؟.. لا، وإلا فمن أجل ماذا ضحت بوحدة حزب اعتبره الكثيرون واعدا؟.. لنقل هو لؤم التقدميين الذين يتقنون استخدام الشعارات بغية تنفيذ المخططات، لكن الديمقراطية كالريح التي تطوح بزيف الشعارات. وبدوره، لم يكن الحزب الإسلاموي الذي سقط سقطة الموت بمنأى عن هذا العقاب اللاذع للاقتراع الذي ينقلب على من يريد توظيفها لحساب إيديولوجيته. ففي النهاية، ليست الديمقراطية سوى ربط الحبل بالحلقة، لشنق الإيديولوجيا إلى الأبد. هل من برهان على استحالة خداع الديمقراطية بعقليات تحمل لواء التغيير وهي الخائفة من التحولات الاجتماعية لليبرالية؟ إليكم، إذن، خطبة الوداع لعبد الإله بنكيران قبيل الاقتراع؛ كشفت عن فرط إيديولوجي معاد للتناوب، حيث الديمقراطية هي أن أقود أنا أو حزبي الحكومة؛ وإلا فانتظروا الفوضى. خاطب المغاربة بلغة القطيع لأنه يحتقر ذكاءهم ويبخسه، ميز فيهم بين إسلاميين وغير إسلاميين؛ وهذا امتداد لفكر حسن البنا الذي جوهره اصطناع نظام الأسرة الإسلامية الذي يحقق القطيعة، ويعزز الدولة داخل الدولة والمجتمع الموازي للمجتمع: لن نسلمكم أخانا.. كلنا نذكر العبارة التي فاه بها يوم وجه إلى القضاء تهمة المساهمة في القتل لأحد أعضاء تنظيمه، والذي هو في النهاية مواطن مغربي لا أخ في جماعة، يخضع لسلطة وحماية الدولة الفعلية لا الدولة الموازية. أطلق السهام على الجميع، ويا لمكر الديمقراطية، صار هو هدفا لكل السهام. هل أساء بخطابه إلينا كمغاربة؟.. الأخطر هو أنه أساء إلى مؤسسة رئاسة الحكومة التي لم يسبق لوزير أول قبله أن هوى بها إلى هذا المستوى الهزيل. دق أيضا المسمار الأخير في نعش الحراكات، كيف لا، وهو الذي جاء إلى رئاسة الحكومة محمولا على عربتها. أسمع البعض محتجا بأنه لم يكن مشاركا فيها؟ بشكل مكشوف، نعم، ولكنه وحده من قطف ثمارها، ثم ظل يهدد بعودتها في حالة الإبعاد. لقد جعلنا خطابه نختبر جيدا – خصوصا بعد تجارب إخوانه في مصر وتونس- طينة السياسيين المحمولين على ظهر الحراكات؛ شعبويون لا يختلفون عن اليوتوبرز في شيء. عندما يفكر الدهماء يضيع كل شيء؛ وعشر سنوات عجاف أثثها الكوميديون لا رجال الدولة كانت أكبر دليل على حكمة فولتير؛ فليس أخطر على الديمقراطية من الكوميدي بالفطرة الذي يحاكي أفعال الساسة الحقيقيين؛ ينطلي خداعه على الناس، لكن لأمد محدود جدا. فهم في النهاية كوميديون لا ساسة، مخاتلون لا رجال دولة. الإسلامويون من شكل جذع الربيع العربي. أما العصفور الذي زقزق على الغصن فتألف من بقايا الثوار الحمر؛ في حين أن الشباب الليبرالي الحالم بالحريات الفردية والديمقراطية والذي قدح زناد الحدث سرعان ما تم تغييبه بعد الركوب عليه؛ ثم هبت 8 شتنبر لتطيح بالجذع والأغصان؛ فتهاوى الجميع: إسلامويون إلى غير رجعة، وما تبقى من اشتراكيين صاروا أضحوكة. طوى التاريخ صفحته، ولو أعيد فتحها من جديد، فسيكون تكرار الحدث كما قال ماركس إما أشد مأساوية أو أكثر ملهاوية. 3 هل نحن في حاجة إلى أحزاب يسارية وإسلامية؟ لا، إذا كانت استمرارا للارتباط بنهج الاشتراكية العلمية البائد أو بمرجعية إخوانية تربط الدين بالدولة؛ كلاهما لا ينتهي إلا بالاستبداد؛ ولكن نعم، ديمقراطيتنا في حاجة إلى يسار، وربما إلى أحزاب ذات مرجعية دينية، بشرط أن تؤمن بالاختلاف والتعدد. على اليسار أن يقطع مع الاشتراكية بأن يتبنى اقتصاد السوق دون تهيب، وعلى الحزب ذي المرجعية الدينية أن يتخلى عن الدفاع المتعصب عن العقيدة واستخدام الشعارات الدينية، بإعلان الفصل التام للدين عن الدولة والمواطنة عن العقيدة، وهذا يعني التخلي عن حلم الخلافة الذي تأسست من أجله كل الحركات الإسلاموية طيلة قرن مضى. في سنة 1979، سيتبنى الحزب الاشتراكي الإسباني مبادئ اقتصاد السوق، متخليا عن إرثه الماركسي، بما في ذلك مراجعات إدوارد برنشتاين الشهيرة بالديمقراطية الاشتراكية (التي تمثل أدلوجة يسارنا)؛ في مقابل ما أسماه الحزب بالليبرالية الاجتماعية (ما يرفضه يسارنا ويقاومه)؛ ومثله سيعترف الحزب العمالي البريطاني بأخطاء الماضي التي ورثها من تكوينه الهجين (من الجمعيات الاشتراكية والاتحاد الماركسي للعمال)، بعدما وُصف برنامجه الانتخابي ذو النزعة الاشتراكية بأطول رسالة انتحار في التاريخ؛ فكان الفشل الذريع نصيبه في كل الاستحقاقات. حتى جاء طوني بلير ليرسم صورة مغايرة للحزب اليساري الذي تضع نهاية للانقسام بين اشتراكيين وليبراليين؛ وكانت النتيجة فوزا كاسحا حمله إلى رئاسة الوزارة. وبدورها، لم تكن الأحزاب المسيحية الأوروبية حركات ديمقراطية عند تأسيسها في القرن التاسع عشر؛ بل جماعات دينية متعصبة تدافع عن الكاثوليكية في مقابل الحداثة والليبرالية.. ولما فشلت تحالفت مع التيارات الاشتراكية في منتصف القرن الماضي؛ لكن الفشل ظل حليفها حتى انتهت إلى الإقرار بضرورة التخلي عن فكرة المملكة المسيحية الموحدة، وكفت عن التدخل في التعليم والأسرة والحياة الشخصية للمواطن. الدولة المغربية اليوم قبل المواطن في أمس الحاجة إلى يسار، لكن بنزعة ليبرالية اجتماعية، وهو الدور الذي اضطرت أحزاب اليمين للقيام به بعدما عجزت حياتنا الحزبية عن إنجاب مثل هذا اليسار. والمواطن المغربي قبل الدولة قد يجد في نفسه الحاجة إلى اللاهوت؛ ولكن عبر أحزاب تستمد قيمها من الدين، من دون ذهنية التحريم وتوظيف الشعارات الدينية بغية فرض حكم مستبد أو نظام اجتماعي ملزم باسم العقيدة؛ وهذا يعني فصل السياسي عن الدعوي. أحزابنا اليسارية في حاجة إلى تجديد. أما الدينية فإلى إصلاح شامل، وليس التواري وراء الشق الدعوي لترميم ما لا يمكن ترميمه؛ ولو حدث ذلك فستكون النهاية التي ما بعدها بداية. 4 هل من أفق؟ يقول آلان كيربي: تغير العالم، ولا بد للنظرية أن تتغير. بالتأكيد، ستعرف بلادنا طريقها نحو غد أفضل؛ لكن بشكل مخالف تماما لما يروج له التقدميون والإسلامويون المتحمسون لكل ما مضى وانتهت صلاحيته. نحن منذورون إلى الانرماء في صيرورة العصر، حيث يزداد توحد منظومة القيم الكونية يوما بعد يوم، وتغدو الليبرالية واقتصاد السوق بما يترتب عنهما من حريات فردية، وتعددية ثقافية ولغوية، مسألة وجود وبقاء لا مجرد فضول فكري. ولنرددها من جديد مع نيتشه: الآراء السائدة- خمول فردي