نتائج الانتخابات والمشروع التنموي للمغرب الرهانات التي تنتظر المغرب صعبة ومتعددة على المستويين الداخلي والخارجي. على المستوى الداخلي، يمكن تلخيصها في المشاكل السوسيو-اقتصادية التي تعصف بمختلف فئات وشرائح المجتمع، مما يستلزم الحل العاجل لها حتى يتمكن البلد من المحافظة على أمنه الاجتماعي والسياسي. على المستوى الخارجي، يمكن تلخيصها في مِلَفّ الصحراء، والإرهاب، والاتفاقات الاقتصادية الدولية المجحفة، خاصة مع بعض دول الاتحاد الأوروبي. ومما لا شك فيه، فلكل مرحلة إفرازاتها وتحدياتها السياسية وأولوياتها الاقتصادية والاجتماعية. أزمة كوفيد-19 وذكاء الدولة المغربية كان العالم ينتظره أزمة خانقة بعد أزمة 2008 نظرا للمنحى الخطير الذي تسير فيه التعاملات المالية العالمية، وتزايد احتكارات الشركات العالمية، وكذا قوة سيطرتها على توجهات السياسية الاقتصادية العالمية. لكن الأزمة الوبائية غير المتوقعة كانت سريعة وعنيفة، حيث شاء كوفيد-19 أن يسرع من الأزمة ويخلخل ولو مرحليا العديد من حسابات الدول العظمى، ويعيد طرح الأسئلة حول التحالفات القديمة، وهل من ضرورة لتغييرها واستبدالها بأخرى تتناسب مع الرهانات المستقبلية. مما لا شك فيه، أتت الأزمة الوبائية في ظروف اجتماعية واقتصادية صعبة (التفاوتات الاجتماعية، الفقر، الهشاشة، التمييز، الخ)؛ كان من المتوقع انفجارها في معظم بقاع العالم ولو بحدة مختلفة (فرنسا، شمال إفريقيا، وغيرها). لقد فرض كوفيد-19 على الدول التدخل العاجل لامتصاص أي زلزال اجتماعي أو اقتصادي. في هذا الصدد، لا بد من التنويه بالذكاء السياسي للدولة المغربية في تسيير وتدبير الأزمة، وكيف استطاعت أن تمر منها برشاقة اقتصادية وامتصاص لأي توتر أو اختناق اجتماعي أو سياسي. كان هذا في ظل حكومة تتسم بالهشاشة وفقدان للحنكة السياسية والانسجام؛ ففقدت البوصلة في ظرف يحتاج فيه المغاربة للسند والدعم. فكان بدل التراجع أو وقف مجموعة من السياسات إلى حين مرور الأزمة أو الالتفاف حولها لتمريرها بطرق مختلفة، التجأت الحكومة للمواجهة أو لتأدية دور المظلوم والمتآمر عليه، بدل استغلال الهامش المُتاح. فكانت النتيجة غير المتوقعة هي السقوط المدوي للحزب الأول في المغرب. قراءة مختلفة للانهيار نتائج الانتخابات كانت زلزالا ودرسا ليس فقط للحزب المعني داخل المغرب، لكن لمعظم التيارات خارج البلد التي تتبنى المرجعية نفسها. بعض الأطراف أو التيارات الإسلاموية اعتبرت أن تجاوز الخطوط الحمراء (التطبيع مع إسرائيل، فرنسة التعليم، تقنين القنب الهندي) من طرف الحزب، هو السبب الحقيقي لتخلف أتباعه عن التصويت، لأن الحصيلة الاجتماعية والاقتصادية والفضائح الأخلاقية لا تهمهم بقدر ما يهمهم مشروع "الخلافة الإسلامية". والبعض الآخر اعتبر أن التجربة المغربية (بالإضافة، خاصة، للتجربة التونسية والتجربة المصرية والتجربة الجزائرية) تعيد من جديد طرح السؤال حول نجاعة قرار المشاركة السياسية في الحكم إلى جانب التيارات الليبرالية أو الاشتراكية ما دام الحزب "الإسلامي" لا يستطيع تمرير مشاريعه وخططه الاستراتيجية. وهذا الطرح يقويه ما عرفته التجربة الأفغانية، حيث اعتبروها تجربة ناجحة، أي إن اختيار المواجهة (القوة والعنف المسلح) وفرض الإيديولوجية الإسلاموية بالقوة في الدستور، هو المنهج الصائب لإعادة الاعتبار للتيارات الإسلاموية بعد الهزائم التي تلقتها في تجاربها في الحكم أو في المشاركة في المسلسل الديمقراطي. أما التيارات اليسارية، فإنها، في اعتقادي، خارج التاريخ، ولم تستطع طرح مشروع مجتمعي وسياسي متكامل ومنسجم، فاعتبرت (دون الدخول في التفاصيل) أن انهيار الحزب الإسلاموي كان وعيا جمعيا، وهذا يُجانب المنطق العلمي في تحليل الأوضاع. هذا كتحليل أولي ومختصر... بيد أن الأمور تبدو أكثر تعقيدا. أظن، من جهة، أن التيارات الإسلاموية المعتدلة لا تشكل خطرا على الدولة لأنها تقبل المشاركة السياسية، وبذلك من الطبيعي أن تعرف النكسة بعد 10 سنوات من التسيير مع حصيلة اجتماعية كارثية وفضائح أخلاقية بالجُملة؛ وفي الوقت نفسه، كان هناك استعداد جيد للحزب الفائز دون دخول في مواجهة مباشرة مع الحزب القائد للحكومة السابقة، رغم حملة المقاطعة الاقتصادية التي تم شنها على رئيس الحكومة المُعين الحالي. كما أظن، من جهة أخرى، أن هذه الأحزاب المعتدلة ذات المرجعية الإسلاموية لا تختلف كثيرا في مشروعها الاقتصادي عن المنظومة الليبرالية ما دام الأساس هو المنافسة والاحتكار والفردانية، مع العلم أن الأول يؤمن بالتدخل في التسيير والتخطيط؛ وهذا مبدأ تجده كذلك حاضرا عند بعض التوجهات الليبرالية. لذا، لا تجدها محرجة من تنزيل المخططات الليبرالية في دولها كالحزب الخاسر في الاستحقاقات الأخيرة. في اعتقادي، الفرق الكبير بين التوجهين هو في الحريات وحقوق الأقليات والمساواة وفي فهم العدالة الاجتماعية ودولة الحق والقانون؛ دون أن نهمل النظرة الشمولية التي يحملها أصحاب بعض المرجعيات الدينية، خاصة التي تعتمد على الإسلام أو المسيحية أو اليهودية، مما يجعل أصحابها في مواجهة ورفض من طرف الآخر المؤمن بقيم العلمانية والديمقراطية وحقوق الإنسان. هزيمة متوقعة، ولكن إن نتائج الانتخابات الأخيرة بالمغرب هي امتداد للهزائم التي تتلقاها التيارات الإسلاموية على المستوى الإقليمي، وكذا الشرخ الذي يعرفه من داخله ومن عدم تلقيه للمساندة التي حظي بها في السابق، خاصة من طرف التيارات الأكثر راديكالية. هذه النقطة تدفعنا إلى طرح السؤال التالي، هل فعلا الحزب المنهزم في انتخابات 8 شتنبر كانت له شعبية كما كان يروج له؟ أي هل كان له امتداد جماهيري وإيمان بمشروعه السياسي والاجتماعي أم إن التيارات الأخرى التي يتقاسم معها "نفس" الطموح السياسي هي من جعلته القوة الأولى بالمغرب حتى يتمكن من تسهيل التغلغل الأيديولوجي في المجتمع، وكذا من أجل تقويد بنية الدولة وتمييع المؤسسات، وعرقلة الإصلاحات التي تهم مجالات الحرية الفردية وحقوق الإنسان التي أطلقها المغرب بعد الإنصاف والمصالحة؟ 10 سنوات هي مدة كافية لفهم توجهات وأهداف الحزب المنهار، وكيف عجز عن تحقيق الوعود الاجتماعية، بل كيف أنه تسارع في تنزيل عدة ملفات كانت شائكة وصعبة. لكن، النتائج المحصل عليها يَجِبُ ألاّ تحجب بعض الإيجابيات لمشاركته، وأهمها أن الدولة اختبرته، كما استفاد الطرفان من هذه المشاركة؛ وكذا كانت مناسبة لتستعيد بعض الأحزاب "القديمة" بعضا من قوتها ومكانتها، وتصعد أخرى جديدة. مما يجعل المجال مفتوحا لاحتمالات متكافئة في المستقبل ما دام أن الحزب المنهزم فقد بريقه وأصبح حزبا كباقي الأحزاب "الليبرالية" (تصنيف من وجهة نظر اقتصادية). لذا، أظن أن القول بأن الحزب انتهى نهائيا من المشهد السياسي للمغرب هو قول فيه كثير من المغالطة وسوء التحليل. آفاق أمام المغرب تحدٍّ مهمٌّ، وهو ضرورة الخروج من الأزمة الاجتماعية، وذلك بتطبيق ما سيشكل تعاقدا وطنيا بين الجميع. لذا، أظن أن الظرفية لا تلائم إلا شخصا خبر تسيير الشؤون الاقتصادية، وله دراية كافية في التخطيط وتنزيل الاستراتيجيات، خصوصا وأن البلد في منعطف مهم من أجل فرض سيادته. فالمرحلة المقبلة مهمة لا تسمح بالأخطاء، مما يلزم معها الكفاءات والقدرات لذلك، وهذا لم يكن للأسف متوفرا في الحزب المنهزم، خاصة في ولايته الأخيرة. لكن، هل تهتم الحكومة المقبلة بحقوق الإنسان أم إنها ستكتفي بالجانب الاجتماعي والاقتصادي؟ التحدي المطروح على الحكومة المقبلة هو في كيفية تحقيق طموح المغرب في التقدم التكنولوجي، والتنمية، والريادة الإفريقية، لأن المجال العالمي أصبح جد معقد نظرا للتصعيد الأمريكي والتدخل العنيف لفرنسا في عدة دول إفريقية. هذه التحديات ستكون لها انعكاسات سلبية أو إيجابية حسب القوة الداخلية للمغرب. والدليل على ذلك الخروج السريع لأمريكا من أفغانستان وتحول اهتماماتها إلى المحيط الهادئ. لا أظن أن التطرف سيشكل خطرا كبيرا في السنوات المقبلة، فالخطر الحقيقي يكمن في الهشاشة والتفاوتات الاجتماعية والتمييز، وغيرها. هذا ما أظن قد استوعبته أمريكا وأوروبا، مما دفعها إلى وضع عدة برامج اجتماعية وإعادة دعم اقتصادها المحلي. فالحصانة الحقيقية من التطرف تكمن في تحقيق العدالة الاجتماعية ودولة الحق والقانون، وليس في شن حروب متفرقة... لذا، فتنزيل المشروع التنموي المغربي، على الرغم من بعض نواقصه، يعد الحصن المنيع ضد أي خطر داخلي أو خارجي، فهل ستكون الحكومة المقبلة في مستوى تطلعات المغاربة وتستفيد من أخطاء السابقين؟ (*) أستاذة جامعية