حملت نتائج الانتخابات التشريعية والجهوية والجماعية ليوم 8 شتنبر 2021 رسائل قوية ومتنوعة من الشعب المغربي، موجهة إلى جميع الأطراف في الداخل والخارج. ورغم النجاح الكبير الذي حققته هذه المحطة، إلا أنها سجلت أيضا العديد من الممارسات السلبية. وبدا واضحا منذ البداية أن الانتخابات العامة الأخيرة ستحمل عدة مستجدات ومتغيرات جديدة، كونها نظمت في سياق تطبعه تحديات جائحة كورونا، وانعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية السلبية على الحياة اليومية للمواطنين. ونستحضر أيضا السياق الدولي الذي تجرى فيه الانتخابات، ومراقبة الجيران والشركاء عن كثب ما ستؤول إليه نتائج الانتخابات المغربية، كدولة ذات مكانة متصاعدة بشمال إفريقيا، وفي طريقها إلى تعزيز موقعها كقوة إقليمية فاعلة ومؤثرة وذات سيادة وطنية. إذن ما هي أقوى الرسائل التي ترجمتها النتائج المسجلة؟ وكيف ستؤثر على شكل الخريطة السياسية المستقبلية للحكومة والمعارضة؟ وما هو مصير أغلبية الأحزاب التي عجزت حتى عن تحقيق مقعد برلماني واحد؟ وأخيرا هل ستقتنص الأحزاب المتصدرة أول فرصة تاريخية تتاح لتشكيل حكومة قوية ومنسجمة مكونة من حزبين أو ثلاثة على أقصى تقدير؟ وكيف يمكن تفسير عدم مشاركة حوالي نصف الناخبين ضمن هذا الاستحقاق الانتخابي الوطني؟. نسبة مشاركة تعزز الوحدة الوطنية وتحصن الوحدة الترابية المغربية سهل تنظيم الانتخابات العامة (التشريعية والجهوية والجماعية) في يوم واحد تأمين نسبة مشاركة أفضل من المناسبات السابقة، بالإضافة إلى ارتفاع منسوب الوعي المجتمعي السياسي لدى المغاربة. ووظفت الأحزاب السياسية بقوة في حملاتها إمكانيات العالم الافتراضي والرقمي ووسائل الإعلام المختلفة في الترافع والإقناع والتشجيع على المشاركة، كما أدرجت أسماء أبناء الأحياء والدروب والدواوير ومشاهير الفن ضمن لوائح الانتخاب. وشكل تصويت نحو 9 ملايين مغربي، رغم التحديات التي فرضها انتشار الوباء، رسالة قوية للداخل والخارج على حد سواء، وانتصارا على بعض دعوات وخطابات المقاطعة والعزوف ونشر اليأس من العملية السياسية ككل، قادتها تيارات معينة. وبهذا عاكست نسبة المشاركة بتجاوزها عتبة 50 % العديد من التخمينات التي توقعت تراجعها، وهي توقعات مبنية على استشعار ملامح خيبة الأمل لدى فئات سكانية عريضة، جراء قرارات وقوانين وصفها فاعلون سياسيون ومدنيون ب"غير الاجتماعية وغير الشعبية"، وواجهت وقفات ومظاهرات وتوترات في أكثر من مناسبة ونقطة. والنتيجة أن المغرب الذي يقع تحت الأنظار الدقيقة للقوى الدولية (الولاياتالمتحدةالأمريكية، الاتحاد الأوروبي...)، والمنافسين الإقليميين (إسبانيا، الجزائر...)، زيادة على تصاعد التنافس الاقتصادي والدبلوماسي، وندية الخطاب الرسمي المغربي الذي يقوده ملك البلاد محمد السادس، المنتصر لمصالحه العليا والمتصدي للعقلية الاستعمارية المتجاوزة. وكشف بلاغ السيد وزير الداخلية ليوم الخميس 09 شتنبر 2021 أن العملية الانتخابية مرت في ظروف عادية، باستثناء بعض الأحداث المعزولة التي لم تؤثر على سيرها. وتابع المحطة الانتخابية أزيد من 5000 ملاحظ من داخل المغرب، و129 ملاحظا أجنبيا، حرصا على نزاهة عمليات الفرز والإحصاء بحضور ممثلي لوائح الترشيح. وحصدت الانتخابات المغربية إشادة دولية، معززة مكانة النموذج المغربي ضمن سياق إقليمي وقاري متوتر تحكمه الإضرابات السياسية والاجتماعية (ليبيا، تونس، مصر....) والانقلابات (موريتانيا، غينيا، النيجر، بوركينافاسو، تشاد، مالي...). وقدمت ساكنة الأقاليم الجنوبية المغربية بدورها رسالة قوية موجهة إلى الأطراف الدولية، ووجهت ضربة قاسمة وموجعة إلى خصوم الوحدة الترابية، تمثلت في تسجيلها نسب مشاركة قياسية، بلغت 66.94 % بجهة العيون الساقية الحمراء، و63.76 % بجهة كلميم واد نون، و58.30 بجهة الداخلة وادي الذهب. وستعزز هذه النتائج مصداقية الموقف المغربي المدافع عن وحدة أراضيه، وستشجع أطرافا أخرى من المجتمع الدولي على دعم خيار الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية. كما يمكن استشراف تسجيل اعترافات أوروبية جديدة بهذه السيادة، متبعة قرار الولاياتالمتحدةالأمريكية. الكتلة الناخبة المغربية تستخدم سلاح التصويت العقابي وتنبه أحزاب الحكومة المقبلة عكست نتائج الانتخابات العامة تصويتا عقابيا واضحا دفعت إليه التأثيرات السلبية للعديد من القوانين والقرارات والإجراءات غير الشعبية وغير الاجتماعية، وهي اختيارات أضرت بالطبقة الوسطى ووسعت الطبقة الفقيرة، وفي مقدمتها زيادة الضرائب والمس بصندوق المقاصة وارتفاع أسعار العديد من المواد. وبرزت فئات محددة، كالأساتذة المتعاقدين والرسميين والباحثين، والأطباء والممرضين، والنقابات العمالية، التي اشتكت من فرض التعاقد والاقتطاعات وجمود الأجور وضعف مخرجات الحوار الاجتماعي، ومن تغييب المقاربة التشاركية في عدة محطات في ظل الحكومة السابقة. وتلقى حزب العدالة والتنمية، متزعم الحكومة السابقة، ضربة قاضية بموجب هذا التصويت العقابي، إذ تقهقرت حصيلته إلى 13 مقعدا سنة 2021 بعد 125 مقعدا حصل عليها خلال انتخابات التشريعية لسنة 2016. غير أن الرسالة نفسها موجهة إلى جميع الأحزاب التي ستتولى المسؤولية الحكومة مستقبلا، وهي أن سلاح التصويت العقابي أضحى اختيارا ورادعا متاحا لدى كتلة متنامية من الناخبين المغاربة في حال تكررت السياسات نفسها. الرغبة في حصر عدد أحزاب الحكومة وتقليص قائمة الأحزاب المغربية ككل حققت الأحزاب المتصدرة الثلاثة الأولى (التجمع الوطني للأحرار، الأصالة والمعاصرة والاستقلال) 68 % من مجموع المقاعد التشريعية؛ وبلغت هذه النسبة 97 % بإضافة حصيلة أحزاب الاتحاد الاشتراكي، الحركة الشعبية، التقدم والاشتراكية، الاتحاد الدستوري والعدالة والتنمية. ولعل الكتلة الناخبة الرئيسية تطمح تبعا لبنية النتائج المسجلة إلى تشكيل حكومة من حزبين أو ثلاثة أحزاب كحد أقصى، والحد من سلسلة الحكومات المشتتة بين أحزاب متنافرة وبرامج غير منسقة. وسيضمن حصر الأحزاب المشكلة للحكومة المقبلة انسجام مكوناتها من جهة، وتسهيل ربط المسؤولية بالمحاسبة من جهة ثانية، حتى لا تضيع المسؤوليات في خضم الاتهامات المتبادلة التي طبعت العمل الحكومي السابق، وأثرت سلبا على حصيلته طيلة ولايتين متتابعتين. في المقابل، عجزت أكثرية الأحزاب المشاركة ضمن الاستحقاقات الانتخابية عن تجاوز عتبة 3 % من حصيلة مقاعد البرلمان، وهو حدث سياسي من العيار الثقيل بكل المقاييس، ويحمل سالة قوية من الناخب المغربي. إن تسجيل هزالة وانحدار حصيلة 23 حزبا ب12 مقعدا فقط، ما يعادل نصف مقعد لكل حزب، يحتاج وقفة تأملية كبرى، واستخلاص قيادات هذه الهيئات ومنخرطيها الدروس العميقة، ويستدعي عاجلا مباشرة عمل جدي في طريق اندماج الأحزاب الصغرى والضعيفة في ما بينها، في أفق تقليص عدد الأحزاب المغربية إلى 10 ضمن مرحلة أولى، وعلى الأمد البعيد الاقتصار على ثلاثة أحزاب فقط، كما هو جار به العمل ضمن مجموعة من البلدان المتقدمة. لقد تميزت هذه المحطة الانتخابية أيضا بتغيب نحو نصف المسجلين ضمن اللوائح الانتخابية عن المشاركة (49 %)، ولا ينبغي إهمال صوتهم -الصامت شكلا والقوي مضمونا- بل أخذه بجدية كاملة، وتبني خيار ربط المسؤولية بالمحاسبة ومحاربة الفساد وتضارب المصالح بكل أشكاله. وتشجيعا لهذه الفئة على المشاركة ضمن الاستحقاقات المقبلة، ينبغي القطع النهائي مع جميع الممارسات المرفوضة في العمل الحزبي والسياسي، كتوظيف الأموال في شراء الأصوات والترحال السياسي بدافع المال والمصالح الشخصية. والملاحظة السلبية نفسها تنطبق على تفضيل تزكية الأعيان والمستثمرين ومفتقدي التكوين السياسي على المناضلين الشباب المنخرطين في الأحزاب، ومقاومة كل ما يمكن أن يضرب القدرة الشرائية للمواطنين. جدير بالذكر أن محطة 2021 سجلت عدة ممارسات سلبية تجاه البيئة، مثل إلقاء المطويات والمنشورات الانتخابية في الأزقة والساحات والممرات، وهي صورة مضرة بالطبيعة وبجمالية المنظر، وبرجال ونساء النظافة الذين يعانون في جمعها. وينبغي الرفض القاطع لأشكال الطرد والتهجم اللفظي الذي تعرض له بعض المرشحين من قبل شباب وقاطني بعض الأحياء، وتسجيل أعمال عنف معزولة، وملء العديد من اللوائح الانتخابية بفئات غير سياسية من خارج مناضلي الأحزاب الأحق بالترشيح نيابة عن تنظيماتهم. أستاذ باحث في القضايا الجيو-استراتيجية بجامعة محمد الخامس الرباط [email protected]