يحتل موضوع السباق نحو التسلح في المغرب العربي حيزا مهما في الأبحاث والدراسات التي تهتم بالقضايا السياسية في العالم المعاصر عامة وفي منطقة غرب شمال افريقيا بصفة خاصة. حيث تشير المسوح الإستراتيجية الحديثة التي تهتم برصد التسلح و نزع السلاح، و التي تقوم بها مراكز و مؤسسات دولية متخصصة، إلى أن دول المنطقة وبالتحديد المغرب و جارته الشرقية، تحتل مراتب متقدمة، افريقيا وعربيا بل وعالميا، في مجال الإنفاق العسكري. و هو الأمر الذي يشكل خطرا على شعوب و دول المنطقة، لاسيما وأن سباق التسلح في الدول النامية يمكن أن يؤدي إلى قيام الحرب كلما تجاوزت القوة العسكرية الحدود المعقولة. في هذا المقال، سأحاول تسليط الضوء على ظاهرة سباق التسلح بين المغرب والجزائر، مبرزا، و بلغة الأرقام و البيانات، أهم التطورات التي عرفتها موازنات الإنفاق العسكري في هذين البلدين، وهي تطورات تحمل انعكاسات سلبية على قضايا الأمن والتنمية في هذه المنطقة. أولا : تطور مسار الإنفاق العسكري بالمغرب يعتبر المغرب قوة عسكرية مهمة في منطقة شمال افريقيا، بالرغم من كون قدراته تقل عن تلك التي تملكها الجزائر. و إذا كان من الصعب تحديد حجم الإنفاق العسكري المغربي بالنظر لعدم دقة البيانات الرسمية، فإن بعض التقارير الحديثة تشير إلى أن هذا الأخير يخصص ما بين 4٪ و 6٪ من الناتج الوطني الإجمالي لإنفاقاته العسكرية. ومن خلال استقراء عام للتقارير و الأبحاث التي تصدرها المراكز الإستراتيجية الدولية التي تهتم بالشؤون العسكرية و التسلح الدولي، يتضح أن منطقة المغرب العربي- المغرب و الجزائر خصوصا- قد خصصت و تخصص ميزانيات هائلة لإقتناء السلاح التقليدي و تطوير نظمها ومقدراتها الدفاعية، سواء إبان أو بعد فترة الحرب الباردة. فخلال حرب الصحراء أنفق المغرب ما قيمته 4$ بليون على الأسلحة و التجهيزات العسكرية التي حصل عليها من فرنسا. و في نفس الفترة أنفق ما يفوق عن 750 مليون دولار من أجل الحصول على معدات عسكرية متطورة من الولاياتالمتحدةالأمريكية(5)، حيث تمثل هذه الأخيرة نسبة مهمة من إجمالي المساعدات العسكرية الأجنبية للمغرب في تلك الفترة. كما أنفق خلال تلك الحرب ما مقداره مليون دولار على بقية العتاد العسكري الذي استورده من الدول الأخرى المصنعة للسلاح و على رأسها الصين و جنوب افريقيا و بعض الدول الأوربية. ورغم حرصه الدائم على استيراد الأسلحة من الخارج، فإن المغرب قد حقق خلال فترة الحربالمثارة حول صحرائه، أعلى نسبة من وارداته العسكرية. و هذا ما يلاحظ من خلال قراءة مؤشرات الرسم البياني التالي : الواردات العسكرية نحو المغرب (بالدولار الأمريكي) وعموما، فقد ساهم مجموع هذه الصفقات العسكرية التي أبرمها المغرب آنذاك في تقوية القوات المسلحة المغربية و التأثير الإيجابي على مسار قضية الصحراء، إلا أنه في المقابل قد أثر سلبا على التنمية الإقتصادية والخدمات الإجتماعية فضلا عن رفعه لعبء المديونية الخارجية المغربية. غير أنه بعد انتهاء الحرب الباردة، أخذ معدل الإنفاق العسكري بالمغرب يعرف انخفاضا ملحوظا بفعل بروز مجموعة من التطورات السياسية و العسكرية التي شهدتها المنطقة، و على رأس هذه التطورات توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار بين المغرب و "جبهة البوليساريو" في إطارمخطط السلام الذي أعدته هيئة الأممالمتحدة، و بالتالي لم ينفق المغرب طيلة السنوات الخمس التي تلت تلك الإتفاقية سوى 690 مليون دولار على منظومته الدفاعية. لكن رغم انحدار معدل التسلح في تلك الفترة، فإنه سيعود منذ بداية الألفية الجديدة إلى نفس المستوى الذي كان عليه في البداية، كما سيتطور أكثر مع انطلاق "المخطط الخماسي لتحديث الجيش المغربي" الذي تم الإعلان عنه لاحقا. ففي الفترة ما بين 1996 و 2005 استأثرت منطقة شمال افريقيا بنسبة 45٪ من واردات السلاح بالقارة الإفريقية، و هي النسبة التي احتل فيها المغرب مرتبة مهمة. ومنذ بداية الألفية وإلى حدود 2008، ساهم المغرب - باعتباره ثاني قوة عسكرية بعد الجزائر- بقيمة ,12 مليار من الإنفاقات العسكرية بالمنطقة، بالرغم من الحالة الإقتصادية الصعبة، كبلد مستورد لا منتج للنفط و بالرغم من الأزمة المالية العالمية الأخيرة. وبعد أن ضاعفت الجزائر إنفاقها العسكري عقب تداعيات أحداث 11 شتنبر الإرهابية، قرر المغرب، الذي يرفض أية هيمنة عسكرية للجزائر على المنطقة، رفع ميزانية التسلح، التي لا تمثل، في كل الأحوال، سوى نصف نفقات الجارة الشرقية. و لقد خصص المغرب في الآونة الأخيرة ( 2010- 2011) اعتمادات مالية كبيرة لتسليح الجيش و تغطية نفقات شراء الأسلحة و تأهيل مختلف أجهزة الدفاع والقواعد العسكرية. كما تم مؤخرا إحداث صندوق لفائدة القوات المسلحة المغربية يسمى " صندوق شراء و إصلاح معدات الجيش" بهدف سد نفقات مختلف أجهزة الدفاع و المراقبة العسكرية. وفي الآونة الأخيرة، أبرم المغرب صفقته الشهيرة لإقتناء المطاردات الحربية الأمريكية من طراز «إف 16»، ليعلن بذلك للجزائر، دخوله الصريح غمار السباق نحو التسلح بالمنطقة. إن الإنفاق العسكري بالمغرب، يبقى محكوما بنزاع الصحراء الغربية و المنافسة الجهوية مع كل من الجزائر و اسبانيا، بالإضافة إلى السعي نحو إيجاد مكانة إقليمية مناسبة في المنطقة. ولذلك، فإن اهتمام المغرب بتأهيل جيشه و زيادة نفقاته العسكرية في الآونة الأخيرة، إنما يأتي في إطار سعي المغرب إلى إحداث توازن استراتيجي مع الجزائر، و ذلك حتى يضمن عدم لجوءها إلى استخدام القوة المسلحة لتحقيق طموحاتها الإقليمية و فرض تصوراتها الخاصة على دول المنطقة. وعلى خلاف الجزائر، لا يسعى المغرب إلى تحقيق الهيمنة العسكرية في المنطقة بقدر ما تندرج سياسة تسلحه في إطار الإستراتيجية الدفاعية العامة للدولة. فالسياسة الخارجية المغربية لا تقوم على أساس القوة في التعامل مع القضايا الإقليمية و الدولية، بل ترجح الطرق السلمية و الحلول الدبلوماسية و لا تلجأ إلى استخدام القوة إلا عند الضرورة. وهذا ما عبر عنه المغفور له الحسن الثاني بقوله " كل القضايا يجب أن تعالج بالتشاور، و الحرب في حد ذاتها ليست هدفا"، هذا المبدأ نجده واضحا في توجه الدبلوماسية المغربية، سواء تعلق الأمر بالقضايا التي تهم المغرب مباشرة كالنزاع الجزائري-المغربي في 1963، أو في معالجته لقضية الصحراء أو غيرها من القضايا الأخرى(...). إن سباق التسلح لا يعتبر فقط مشكلا في سياسات الدول، و إنما يبقى أيضا معضلة تنتصب في وجه كل من يحاول توفير الأمن عبر الوسائل العسكرية، و إذا كان هذا النمط من التفكيرغائبا في الإستراتيجية المغربية، فإنه يبقى حاضرا و بقوة في أدبيات السياسية الداخلية و الخارجية للجارة الشرقية. ثانيا: تعاظم الإنفاق العسكري بالجزائر منذ حرب الرمال 1963 و هزيمة أمغالا 1975 و ما أفرزته من حقائق سياسية و عسكرية جديدة، مرورا بإعلان خطة "تحديث الجيش الوطني الشعبي" في سنة 1999 و إلى حدود اليوم، حرصت الجزائر على تخصيص اعتمادات مالية مهمة لتحديث جيشها و تطويرعتادها الحربي و ترسانتها القتالية، و ذلك بشكل أصبح يؤثر سلبا على التوازنات العسكرية و الجيوستراتيجية في المنطقة. فما بين 1975 و 1990، أنفقت الجزائر 9 بليون دولار على الأسلحة و التجهيزات العسكرية الأخرى التي استوردتها من الإتحاد السوفياتي، كما قام هذا الأخيرفي نفس الفترة بإرسال ألف إطارعسكري لتدريب الجيش الجزائري و تأمين التبعية العسكرية للدولة السوفياتية. وتجدر الإشارة إلى أن نسبة مهمة من هذا العتاد الحربي كانت تحولها الجزائر إلى "جبهة البوليساريو" التي مكنتها، إلى حد ما، من الدفاع عن نفسها ضد القوات المغربية. إذ بدون تلك الإمكانيات العسكرية لكان من الصعب عليها التحرك و القتال في ميدان الصحراء المغربية. و لقد ظلت الجزائر قادرة على تعزيز تفوقها العسكري في المنطقة، و ذلك لأن المغرب كان يقتني عتادا عسكريا مخصصا فقط للقضاء على العمليات التي تقوم بها "الجبهة"، و ليس للدخول في مواجهة عسكرية متماثلة. يضاف إلى ذلك استغلال الجزائر للعائدات النفطية المهمة في تغطية نفقاتها العسكرية المتزايدة. إن الكثير من الدول النامية تسعى إلى الحفاظ على نفس معدلات الإنفاق العسكري حتى و إن كانت هذه المعدلات تفوق السقف العادي لحاجياتها الأمنية. و في بعض الحالات، فإن النزاعات الداخلية غالبا ما تؤدي إلى الزيادة المفرطة في التكاليف العسكرية. غير أن المبالغة في الإنفاق الأمني هي التي تفوت الفرص على حكومات هذه الدول في تقليص الفوارق السوسيواقتصادية القائمة، و هو الشئ الذي يغذي في آخر مطاف بذور العنف و عدم الإستقرار؛ و هذا بالذات ما تعبر عنه حالة الجزائر التي بلغ الإنفاق العسكري فيها - خلال فترة الإحتراب الداخلي الذي شهدته- نسبا خطيرة، حيث ازداد ب 144 بالمئة. ولذلك حصلت الجزائرفي الفترة (1995-1990) على أسلحة و معدات عسكرية بقيمة 1.4 مليون دولار، مستوردة من الفدرالية الروسية و مصر والولاياتالمتحدة. حيث كان الدافع الأساس لهذه الزيادة تتمثل في تكاليف الحرب الأهلية وصراع الدولة مع الجماعات المسلحة. وتحت ذريعة برنامج التحديث عمدت الجزائر في سنة 2001 إلى التوقيع على اتفاقية مدتها عشر سنوات للتعاون العسكري التقني مع روسيا، مزودها الرئيس بالأسلحة. و زادت ميزانية الدفاع بنسبة 13 بالمئة في سنة 2002 عما كانت عليه في العام 2000. و يجد برنامج التحديث العسكري الجزائري سنده في عدة عوامل، من بينها ׃ - التأثير القوي للعسكر في الشؤون السياسية الجزائرية. - الحرب ضد الجماعات الأصولية المسلحة. - التنافس الإقليمي في المغرب العربي سيما بين المغرب و الجزائر. وفي الوقت الذي ارتفع فيه الإنفاق على السلاح بالمغرب بنسبة هامشية فقط، استأثرت الجزائر في سنة 2006 ب 46 بالمئة من مجموع الإنفاقات العسكرية في شمال افريقيا، و مثلت ثاني أكبر مستورد للأسلحة في القارة الإفريقية. و نظرا لطموحات الجزائر في عصرنة نظمها الدفاعية فإنها لجأت إلى فرنسا و الولاياتالمتحدة، غير أن روسيا، و في إطار منافستها مع هذه الدول، بادرت إلى تلبية حاجيات الجزائر العسكرية. و رغم كون واردات المغرب من الأسلحة بين الفترة 2007 و 2011 تمثل 16 بالمئة من الواردات الإفريقية من الأسلحة، إلا أن هذا الرقم يبقى قليلا جدا مقارنة مع الجارة الجزائر، القوة العسكرية الأولى في المنطقة، حيث وصلت نسبة وارداتها 43 بالمئة على مستوى القارة الإفريقية. فالجزائر بوحدها أنفقت في سنة 2011 5,2 مليار دولار، وهي الزيادة الأكبر خلال العشر سنوات الأخيرة. وعموما، فإن ميزانية الدفاع الجزائرية شهدت تطورا ملحوظا، خلال السنوات أو العقود الأخيرة، و هذا ما توضحه المؤشرات و الأرقام الدالة في المبيان أسفله: الإنفاق العسكري بالجزائر (إلى نسبة الناتج الوطني الإجمالي٪) من خلال تتبعنا لمسار السياسة الخارجية الجزائرية عامة و سياستها الأمنية و الدفاعية خاصة، يتضح أن الجزائر تسعى إلى بلوغ أهداف استراتيجية معينة؛ و لا تتمثل هذه الأهداف في الهيمنة العسكرية و فقط، بقدر ما تتمثل أيضا و أساسا في بسط نفوذها السياسي و استعادة مكانتها في شمال افريقيا و العالم العربي و القارة الإفريقية. ذلك أن العلاقات الجزائرية- المغربية قد خضعت منذ استقلال الدولتين لمقتضيات عقدتين، الأولى هي تنازع البلدين على موقع القوة الكبرى داخل النظام الإقليمي الفرعي الذي تمثله دول المغرب العربي، سواء داخل النظام الإقليمي العربي، أو داخل النظام الإقليمى الإفريقي؛ و الثانية هي أن كلتا الدولتين تديرعلاقاتهما مع الأخرى من منطلق الحرب الباردة حتى بعد انهيار النظام الدولي الثنائي القطبية. وعلى أساس الحسابات الإستراتيجية التي يفرضها منطق "الحرب الباردة"، يقوم سباق التسلح بين المغرب و الجزائر من أجل تلبية حاجيات الجيشين من العتاد و الأسلحة و التكنولوجيا الحربية الجديدة. غير أن الجزائر تريد أن تحتكر بوحدها القوة العسكرية في شمال افريقيا، حتى و لو كان ذلك على حساب إحداث خلل واضح في الميزان العسكري بالمنطقة. إن الجزائر تحتل اليوم موقع الصدارة مغاربيا و افريقيا و عربيا على مستوى استيراد السلاح، إلا أن سياسة التسلح الجزائرية تتم في الغالب على حساب معاييرالنجاعة في استعمال الأسلحة المستوردة. فالجيش الجزائري يفشل في مواكبة عمليات التسليح التي تقوم بها الدولة، لاسيما فيما يتعلق بالصيانة وفعالية التداريب و كفاية النظم اللوجستيكية. إن غموض الرؤية الإستراتيجية لدى دوائر صنع القرار السياسي و العسكري بالجزائر، هو الذي يفسر هذا السباق المحموم نحو التسلح الذي تقوده الجارة الشرقية، و هو الذي يبرر سياسة " النفط مقابل السلاح" الخاطئة؛ ذلك أن الأعطاب و الإختلالات البنيوية التي تعرفها الجزائر لا تقتضي زيادة الترسانة العسكرية، بقدر ما تفرض التحلي بالجرأة الكافية لتقديم الإجابات الصحيحة على مشاكل وقضايا الأمة الجزائرية. *باحث في القانون الدولي والعلاقات الدولية، كلية الحقوق- فاس.