كأننا داخل مصيدة عالقون. الزمن شرك قاتل. والحياة عنكبوت شره، تمتصك حتى النسخ الأخير، وتتركك على حافة الوجود صدفة خاوية. # # # عندما ألج بعض الفضاءات من المدينة، خاصة تلك التي عرفت بعضا من ذكرياتي الموغلة في القدم، ينتابني إحساس عنيف بالتمزق واغتراب مفجع عن الوجوه المألوفة والأماكن الأثيرة، تُناقض ما تعتق في الذاكرة والروح. بفجائية حادة كشفرة موسى حلاقة ينهدم العالم الحاضر من تحت قدمي وأهوي في فراغ سحيق ليس له قرار. أشعر وكأن عجلة الزمن قد توقفت، كأن الدواليب والتروس المعدنية الدائبة بانتظام مانحة إياها الحياة، تآكلت أو أصابها الصدأ، فتسمرت نهائيا عند نقطة تصر بعناد مجنون أن لا تبرحها أبدا: نفس الحركات المكرورة تفر من الأجساد التعبة لتتشبث بالفراغات من حولها، الأصوات الرثة عينها تنبعث من الأرجاء المفتوحة والمواربة، الروائح البدائية تضمخ بشداها النفاذ الهواء الثقيل المحيط المطبق على الروح والجسد، الجدران تآكلت وخشب الأبواب والنوافذ عاثت فيه الأرضة فسادا لا يمكن مداواته، الديكور نفسه المتوارث والمتهالك ما يزال يحتل واجهات المحلات التجارية والخدمية. بموازاة هذا البوار الطاغي، ترى على الوجوه والأجساد عجلة الزمن الزاحفة بلا هوادة مستنفدة بقسوة ماء الحياة، ويجعل الخلفية المحنطة كمومياء مصرية، تكتسب شيئا من حياة، اصطبغت بألوان موات كئيبة: الوجوه التي كانت قبل سنوات قليلة نضرة شاخت وانحفرت على صفحتها أخاديد غائرة، الأجساد المشدودة وهنت وتهدلت أطرافها فبدت وكأنها منقادة باستسلام مستفز للنداء الأخير للأرض المهدد بابتلاع العالم، العيون النزقة فقدت بريقها وصارت ذاهلة عن الوجود تائهة في أحلام من يوميات ما يسمى "الزمن الجميل"، تستعيض بها عن فقر الزمن الراهن، وفقدان الأمل في الزمن الآتي. كأن الزمن السائل تجمد في نقطة ما في الزمن الماضي ولكل "زمانه الجميل". يصبح العيش مقرونا بهذه النقطة الأبدية، لا أمام ولا وراء، الزمن يتكثف وينكمش على نفسه ليصبح الامتداد نقطة، لا بداية لها ولا نهاية. # # # أعرف أن الحياة لا تستحق منا كل هذا العناء المضني الذي ينتظرنا كل صباح عندما نفتح أعيننا على إشراقة شمس يوم جديد. رغم ذلك، أنا مصرّ، على الاحتفال بكل يوم أرى فيه الأنوار الألقة للصباح، وأن لا أستسلم لإغواء لذيذ يدعوني إلى الركون إلى الزمن الماضي، حيث الذكرى والحنين وبراءة الحياة/الطفل الذي كنته، قبل أن تكتسح طحالب المستنقعات الراكدة وجه العالم من حولي. منذ زمن بعيد، أعليت أعالي سارية سفينتي العابرة عباب بحر الحياة المعادي، راية قرصان، وأدمنت الإغارة على كل شيء جميل، يمكن أن يتحول إلى معبد أراكم داخله آلهة من الزمن القديم أهرق على عتباته المقدسة حياتي القصيرة. حاربت دائما هذا الوهم المسمى "الزمن الجميل"، وأرفض بإصرار لا يلين أن يكون لي زمنا جميلا. أعتبر الحياة، بطولها وعرضها، زمني الجميل. أنا مستمر، رغم الإحباطات المتتالية والمطبات غير المتوقعة والخسارات الأليمة، بتذوق الحياة بشغف شبيه بذلك الذي كان لي وأنا طفل صغير، يركض بفرح ولا مبالاة بين الأزقة الضيقة للمدينة القديمة، المفعم هواؤها برائحة العتاقة والعفن. لا يعني هذا أنني أتبرأ من الزمن الماضي، أبدا، فلكل ذكرى مفرحة أو محزنة، لا يهم مكان محجوز في القلب تختلج لها الجوارح بحب كلما استرجعتها. هي ما تزال طازجة كفاكهة قطفت حالا، إلا أنني أرفض الخطابات التمجيدية للماضي، المصرة على تحويله إلى فزاعة تخيف العصافير الصغيرة المرتعبة، وتمنعها من الاقتراب من حقل الحياة، المليء بزرع ناضج حي يغذي مغامرة الطيران في الأرجاء المفتوحة على ما لا نهاية من الاحتمالات الممكنة وحتى المستحيلة. إنها دعوة للاصطدام بكلّيتنا في تجربة الوجود بما أن العدم إمكانية غير مطروحة هنا والآن. ليس أمامنا خيار آخر سوى أن نحيا، شرط أن نحيا كل يوم بشكل آخر، مختلف عن اليوم الذي سبقه. عيش لم يجربه الآخرون، أو لم يتجرأ أحد على اجتراحه، خوفا أو جزعا من الإخفاقات التي تترصدنا. عكس ما يعتقده العديدون، النجاح والفشل لا يقفان على طرفي النقيض. النجاح مقرون بالفشل، هما وجهان لعملة واحدة تسمى التجربة الضرورية لكل محاولة للعيش، تتغيا الأفضل، وتقبل بهما معا، على اعتبارهما جزءا من شرطنا الإنساني: أننا كائنات محدودة في الزمان والمكان، لكن بإمكانها أن تتخطى هذه الحدود/التخوم، بالاستمرار في السير قدما، وعدم الالتفات إلى الوراء، لتحقيق حلم الخلود. هذا، بالنسبة لي، هو السر في لغز اسمه: الحياة. # # # الحياة جميلة، تستحق أن تعاش، رغم كل شيء.