انتخاب محمد انهناه كاتبا لحزب التقدم والاشتراكية بالحسيمة    البطولة الاحترافية .. الكلاسيكو بلا غالب ولا مغلوب ونهضة بركان يوسع الفارق في الصدارة    بدء أشغال المؤتمر السابع للبرلمان العربي ورؤساء المجالس والبرلمانات العربية بالقاهرة بمشاركة المغرب    اختيار المغرب ضيف شرف المعرض الدولي للفلاحة بباريس يعكس جودة التعاون الثنائي (وزيرة الفلاحة الفرنسية)    صدمة كبرى.. زيدان يعود إلى التدريب ولكن بعيدًا عن ريال مدريد … !    بنسليمان.. شرطي يطلق النار لإيقاف رجل حاول تهريب ابنه    حديقة المغرب الملكية في اليابان: رمز للثقافة والروابط العميقة بين البلدين    الملك محمد السادس يهنئ سلطان بروناي دار السلام بمناسبة العيد الوطني لبلاده    تجار سوق بني مكادة يحتجون بعد حصر خسائرهم إثر الحريق الذي أتى على عشرات المحلات    ألمانيا.. فوز المحافظين بالانتخابات التشريعية واليمين المتطرف يحقق اختراقا "تاريخيا"    نجوم الفن والإعلام يحتفون بالفيلم المغربي 'البطل' في دبي    المغربي أحمد زينون.. "صانع الأمل العربي" في نسختها الخامسة بفضل رسالته الإنسانية المُلهمة    الإمارات تكرم العمل الجمعوي بالمغرب .. وحاكم دبي يشجع "صناعة الأمل"    مصرع فتاتين وإصابة آخرين أحدهما من الحسيمة في حادثة سير بطنجة    الكاتب بوعلام صنصال يبدأ إضرابًا مفتوحا عن الطعام احتجاجًا على سجنه في الجزائر.. ودعوات للإفراج الفوري عنه    إسرائيل تنشر فيديو اغتيال نصر الله    انتخاب خالد الأجباري ضمن المكتب الوطني لنقابة الاتحاد المغربي للشغل    لقاء تواصلي بمدينة تاونات يناقش إكراهات قانون المالية 2025    مودريتش وفينيسيوس يقودان ريال مدريد لإسقاط جيرونا    هذه هي تشكيلة الجيش الملكي لمواجهة الرجاء في "الكلاسيكو"    عامل إقليم الدريوش ينزل للعالم القروي ويعطي انطلاقة مشاريع تنموية ورياضية ببودينار وأولاد امغار وبني مرغنين    أمن تمارة يوقف 3 أشخاص متورطين في نشر محتويات عنيفة على الإنترنت    تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس : الجمعية المغربية للصحافة الرياضية تنظم المؤتمر 87 للإتحاد الدولي للصحافة الرياضية    المغرب ضمن الدول الأكثر تصديرا إلى أوكرانيا عبر "جمارك أوديسا"    نقابة تدعو للتحقيق في اختلالات معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة    رسالة مفتوحة إلى عبد السلام أحيزون    طنجة تتصدر مقاييس التساقطات المطرية المسلجة خلال يوم واحد.. وهذه توقعات الإثنين    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال 24 ساعة الماضية    الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي يُهدد القدرات المعرفية للمستخدمين    بوتين يستخدم الدين لتبرير الحرب في أوكرانيا: مهمتنا الدفاع عن روسيا بأمر من الله    المغرب في الصدارة مغاربيا و ضمن 50 دولة الأكثر تأثيرا في العالم    تقرير.. أزيد من ثلث المغاربة لايستطيعون تناول السمك بشكل يومي    جمال بنصديق يحرز لقب "غلوري 98"    عودة السمك المغربي تُنهي أزمة سبتة وتُنعش الأسواق    حماس تتهم إسرائيل بالتذرع بمراسم تسليم الأسرى "المهينة" لتعطيل الاتفاق    هل الحداثة ملك لأحد؟    مسؤول أمني بلجيكي: المغرب طور خبرة فريدة ومتميزة في مكافحة الإرهاب    لقاء تواصلي بين النقابة الوطنية للصحافة المغربية ووفد صحفي مصري    نجاح كبير لمهرجان ألوان الشرق في نسخته الاولى بتاوريرت    سامية ورضان: حيث يلتقي الجمال بالفكر في عالم الألوان    نزار يعود بأغنية حب جديدة: «نتيا»    متهم بالتهريب وغسيل الأموال.. توقيف فرنسي من أصول جزائرية بالدار البيضاء    فقدان الشهية.. اضطراب خطير وتأثيره على الإدراك العاطفي    الصين تطلق قمرا صناعيا جديدا    رضا بلحيان يظهر لأول مرة مع لاتسيو في الدوري الإيطالي    القوات المسلحة الملكية تساهم في تقييم قدرات الدفاع والأمن بجمهورية إفريقيا الوسطى    القصة الكاملة لخيانة كيليان مبابي لإبراهيم دياز … !    الشاذر سعد سرحان يكتب "دفتر الأسماء" لمشاهير الشعراء بمداد الإباء    المغرب يعود إلى الساعة القانونية    فيروس غامض شبيه ب"كورونا" ينتشر في المغرب ويثير مخاوف المواطنين    في أول ظهور لها بعد سنة من الغياب.. دنيا بطمة تعانق نجلتيها    التخلص من الذباب بالكافيين يجذب اهتمام باحثين يابانيين    رمضان 2025.. كم ساعة سيصوم المغاربة هذا العام؟    على بعد أيام قليلة عن انتهاء الشوط الثاني من الحملة الاستدراكية للتلقيح تراجع نسبي للحصبة وتسجيل 3365 حالة إصابة و 6 وفيات خلال الأسبوع الفارط    اللجنة الملكية للحج تتخذ هذا القرار بخصوص الموسم الجديد    أزيد من 6 ملاين سنتيم.. وزارة الأوقاف تكشف التكلفة الرسمية للحج    الأمير رحيم الحسيني يتولى الإمامة الإسماعيلية الخمسين بعد وفاة والده: ماذا تعرف عن "طائفة الحشاشين" وجذورها؟    التصوف المغربي.. دلالة الرمز والفعل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مرض الزهَايْمْر.. حينَ يتحوّل النسيَان إلى لَعْنَة
نشر في هسبريس يوم 16 - 08 - 2013

الحسين، مي حادة، و فاظمة، ثلاث حالات ضمن آلاف أخرى تصارع كل يوم على جبهة النسيان، ليس ذلك الذي طال ذاكرتهم، وإنما نسيان وطن هو ذاته مهدد بالزهايمر.. يموتون كل يوم ميتات صغيرة ويحيون في عالم النسيان.. وحتى لا ننسى، هسبريس تطلعكم على قصص أشخاص أصابتهم "لعنة الزهايمر".
زارت هسبريس منطقة سيدي يوسف بن علي، بمدينة مراكش، للقاء أسر المصابين بالزهايمر.. وهي ذات المنطقة التي سبق وأن عاشت، أوائل هذه السنة، مواجهات بين الساكنة والقوات العمومية بفعل اكتواء البسطاء بنيران الفواتير الملتهبة التي رافت استهلاك الماء والكهرباء.. فبدا، خلال هذه الزيارة، وكأنّ القدر يتآمر مع الدولة على أبناء سيدي يوسف بن علي بتضافر مظاهر الفقر وعلامات الإهمال والتهميش حتّى يحضر التساؤل بشأن ذنب هؤلاء في تحمل جميع أشكال المعاناة.
النوائب لا تأتي إلا مجتمعة
بعد بحث مضن عن حالات مصابين الزهايمر و إجراء اتصالات مكثفة مع جمعيات تعنى بضحايا هذا المرض، و التي تعد على رؤوس الأصابع تم التمكّن من الحصول على موافقة ''جمعية مغرب أمل الزهايمر'' للقاء بعض الحالات، في حين رفضت جمعيات أخرى حتى التحرك لتوفير بعض الإضاءات حول الحالات.. وكأنّ الزهايمر "مرض طَابُو".
مرافقنا نعيم أحمد، رئيس جمعية "مغرب الزهايمر"، رافق هسبريس مدفوعا بحرقة منبعها الحالات التي يتابعها تنظيمه.. وبكل الأسى قال: "ستفاجئون، إذ ان معاناة أهالي المصابين بالزهايمر لا تقل إيلاما عن معاناة المرضى أنفسهم، بل هي أشد وطأة، خصوصا حين يتعلق الأمر بالأسر المعدمة".
بوصولنا لحي سيدي يوسف بن علي، استقبلتنا عيون الفضوليين التي تجيد التعرف على الغرباء، نظرات الريبة والتوجس التي لاحقونا بها لم تخف طيبتهم وقهرهم، قهر يتبدى جليا كلما توغلنا في الدروب الضيقة الأقرب إلى متاهة.
أمام "شبه منزل" توقف مرافقنا موردا: "وصلنا.. هنا يقطن الحسين العسال".. لم يكن المكان إلا شبه بيت غير مكتمل المعالم، تخال نفسك وأنت تجتاز بابه القصير كأنك ستدخل جحرا لمخلوقات نسيها التاريخ وأهملتها الجغرافيا.. بعينين متورمتين من شدة السهر والبكاء، استقبلتنا حليمة، زوجة الحسين العسال، وبكرم الضيافة المشهود للمراكشيين دعتنا للدخول إلى غرفة الضيوف التي كان يجلس بها الحسين ذي ال58 سنة، بجلبابه الرمادي، يتحلق حوله أبناؤه الخمسة في تآزر أسري معبر عن تحد قوي للظروف المعيشية القاهرة التي تعاني منها الأسرة والتي لا تخف على العيان.. بالغرفة ذاتها تواجدت بعض الجارات اللاتي وصلهن خبر وصولنا، أتَيْن لإشباع فضولهن و للإدلاء بشهادتهن في حق الجار الطيب الذي غيب المرض ذاكرته.
بمرارة، تبدأ حليمة في حكي كيفية إصابة زوجها بمرض لم تسمع عنه قبل أن يطرق بابها.. "الحسين هو نعم الزوج، كان يعاملني بشطل حسن، ولم يسبق له أن رفع يده علي، كما لم يشتك منه أحد من الجيران بالمطلق" تقول الزوجة قبل أن تزيد: "كان الحسين يشتغل بائعا متجولا للخضر منذ أعوام خلت، لم يدخر يوما جهدا لإعالة أسرته، حيث كان يجمع محصول يومه في محفظة يضعها تحت السرير قبل الخلود إلى النوم.. نسيانه لمكان وضع ذات المحفظة هو المؤشر الذي كشف وجود شيء ما على غير ما يُرام".. ذات السيدة تورد لهسبريس بأن بعلها كان يبادرها كل صباح بسؤال: "حليمة فين الشكارة؟"، وكانت الزوجة دائما تجدها في نفس المكان.
بعد تجاوزه سن الخمسين بقليل بدأت الحالة المادية للحسين في التدهور.. استبدل عربة بيع الخضروات بدراجة هوائية متهالكة، يطوف بها الأزقة لبيع ''الشيبة''، كما استبدل محفظة ماله بكيس بلاستيكي كان دائما ينسى أين وضعه.. توالت علامات النسيان عند الحسين حين كان يذهب لجلب ''الشيبة'' بالجملة، فكان ينسى من أين اشتراها أو أين وضعها بعد شرائها.
تطرق حليمة برأسها لبرهة قبل أن تتابع سرد قصتها مع مرض زوجها لهسبريس.. رغم حالات النسيان لم يتم الشك بكون الأمر يتعلق بمرض ما، "ظننا في البداية أن قلة ذات اليد وكثرة التفكير في المصاريف هي السبب، لكن حالته تفاقمت بعد تعرضه للسرقة أكثر من مرتين وهو عائد من جولته اليومية، منذ ذلك الحين لم نعد نسمح له بالخروج لوحده، خصوصا وأنه يضيع عن البيت كلما غادره دون مرافق".
أخذ الابن البكر في استعمال منديل من الثوب في مسح البياض الملازم لفم الأب المريض، فالوالد المصاب بالزهايمر ينسى حتى كيفية استعمال المنديل، لا يتذكر أبنائه الصغار، وبصعوبة يذكر اسم رشيد الذي هو أكبرهم.. صمت مطبق خيم على الغرفة، يتخلله همس الجارات الوافدات وصوت أنفاس الزوجة التي تصارع أحاسيسها التي تشفق من حال الحسين الذي سألناه عن الابن الأصغر.. التفت إلينا بعينين زائغتين وأجاب بصعوبة بالغة: "مممم... ماعرفتش".
متاهة الذاكرة
يعرف مرض الزهايمر بكونه مرض ضمور الوظائف العصبية الدماغية، و معروف عند الناس باسم مرض الخرف او النسيان.. والمرض الذي اكتشفه أول مرة الطبيب الألماني أليوس آلزهايمر، سنة 1906، كانت صاحبته سيدة.
يصيب الزهايمر الوظائف العليا للدماغ، مؤثرا بذلك على الذاكرة والتعلم، معيبا النطق والمهارات المكتسبة كما تتطور أعراض الزهايمر على مرحلتين؛ الأولى يبدأ فيها المريض بفقدان ذاكرته قريبة المدى، حيث ينسى الأشياء التي يقوم بها في حياته اليومية مع القدرة على الاحتفاظ بالذاكرة البعيدة، وهذه الأعراض تكون مصاحبة باكتئاب وفقدان الرغبة في التواصل مع المحيط والعزوف عن ممارسة النشاطات المعتادة. فيما تتفاقم حالة المريض بالمرحلة الثانية حين يفقد مهاراته المكتسبة، كالأكل والشرب وكيفية ارتداء الملابس، ويفقد القدرة على النطق والتعرف إلى أفراد العائلة وكذا نسيان الأماكن. تشرح الدكتورة نوال عدالي، طبيبة اختصاصية في أمراض الدماغ والأعصاب و الزهايمر، ضمن تصريح لهسبريس.
هذا الأمر ينطبق تماما على حالة الحسين العسال الذي تتكلف زوجته بإلباسه وإطعامه ومساعدته على قضاء حاجاته البيولوجية.. حين سألناها عن هذه النقطة انهمرت دموعها وهي تقر بأخذه إلى مستشفى عام، وهناك تم ارشادها إلى طبيب مختص في الدماغ والأعصاب تكفل بشرح تفصيلي للمرض الذي طال الحسين، وبيّن لها أيضا أن المصاب بالزهايمر يتذكر أحداثا قديمة جدا، وهو ما عاشته مع الحسين، كما عاشت وأبنائها حالة من الرعب والعجز حين عزف عن الأكل خوفا من "تسميمه".
عائلة الحسين العسال الكبيرة، البعيدة عن مدينة مراكش ببضع كيلومترات، لم يسبق أن عُرفت فيها حالات مماثلة لحالة الزهايمر التي يعاني منها الحسين، سواء من جهة الأب أو الأم، وبالتالي فإن احتمال أن يكون المرض وراثيا ليس مرجحا.. وفي هذا السياق تقول الدكتورة العدالي إن نسبة أن يكون مرض الزهايمر وراثيا تبلغ من 1 إلى 5 بالمائة.
مأساة الأسرة لم تنته هنا، فأعباء مصاريف العلاج أثقلت ظهر الأم بشكل مؤثر للغاية، وقد دفعت بابنها رشيد، ذي ال27 ربيعا، الى ترك مقاعد الدراسة باكرا للبحث عن مصدر مادي يساعد في التخفيف من مسؤولية الأم، فالأب يحتاج دواء يبلغ ثمنه 100 درهم لعبوة تنتهي بعد عشرة أيام من الاستعمال، كما أنه مطالب بتوفير المقابل المالي لكافة الفحوصات التي تتمّ.
لعنة النسيان
حين هممنا بمغادرة بيت الحسين العسال بمعية مرافقنا من "مغرب أمل الزهايمر"، للتوجه صوب الحالة الثانية لمصابة بالمرض، استوقفتنا إحدى جارات حليمة وهي التي كانت حاضرة طيلة استقاء تصريح الأسرة.. طلبت مرافقتها إلى منزلها الذي لم يكن يبعد إلا بضع خطوات للقاء والدتها التي تعاني نفس الأعراض، سألناها إن كانت والدتها مصابة بالزهايمر فأجابت أنها لا تعلم، كل ما تعرفه هو أنّ والدتها، ذات ال80 عاما، إذا حدث وغادرت البيت فإنها لا تعرف طريق العودة، وحسن حظها يجعل أحد الجيران يلتقيها فيعيدها إلى البيت.
بيت "مي حادة" لا يختلف كثيرا عن بيت "الحسين العسال" إلاّ في بعض التفاصيل، الرائحة ذاتها، وقطع الأثاث البالية المفترض فيها إضفاء شيء من الزينة على باحة الدار لا تزيدها إلا كآبة.. هكذا يكون جيران المسكن والمحنة.
"مي حادة"، بقفطانها الملون، تتوسط سريرا مهترئا، تخالها للوهلة الأولى جزء شاردا من الأثاث لهشاشة بنيتها، قبل أن تهزها بحنو ابنتها لإنبائها بقدومنا نحوها.. إلى جوارها تجلس كي تعانقها، تماما كأي لقاء ضامّ لأم وابنتها، إلاّ أن خديجة شرعت في إرسال نظرة تائهة نحو الأرض، وكأنها تبحث عن كلمات فُقدت: "خمس سنوات مضت على حال والدتي، لا نعرف ماذا أصابها، حين يزورنا بعض الأقرباء لا تتذكرهم، وعندما أذكرها باسم كل واحد منهم، تومئ برأسها علامة على التذكر، إلا أنها ما تفتأ تنسى في التو. ويحدث أن تنسى اسمها في بعض الأحيان. لا تتذكر أين تضع أشيائها، ولا إن استحمت، تنسى أيضا حين أغير لها ملابسها، حين تتذكر الصلاة لا تعرف كيف تصلي ولا أي قبلة تتجه صوبها".
كانت "مّي حادّة" عاملة في معمل للبلاستيك، كانت نشيطة جدا، لا أحد من معارفها يصدق ما آلت إليه صحتها، خصوصا حين تضيع عن البيت.. وتقول ابنتها إنها لم تتصور يوما ما أن تنسى أمها تناولها الطعام من عدمه، ثم تضيف: "كانت دائما حريصة على أن تطبخ بنفسها أشهى الأطعمة، إنه بيتها وأنا ابنتها الوحيدة، أعيش وزوجي هنا لرعايتها. أخذتها لزيارة الطبيب الذي أخبرني بأن والدتي تعاني من فقر الدم وارتفاع الضغط ومرض القلب، ولم يخبرني عن مرض النسيان.. أنا ماعارفاش شنو هو هاد المرض.. لقد قلنا إنها أصيبت بما يسمى: الفَكْرَة بسبب كثرة تعاطيها مع تعدد المشاكل.. لقد سألتني، قبل ثلاثة أيام، عن شقيقتي، فذكّرتها أنّها توفيت منذ خمس سنوات، وإذا بها تشرع في اللّطم وتعداد مناقب المرحومة وكأنها توفيت للتو".
تنضاف إذن حالة "مي حادة" إلى ال378 حالة التي تعاني من الزهايمر والمسجلة بمنطقة مراكش تانسيفت الحوز لوحدها، لتبدأ ابنتها "خديجة"، من المستهلّ، مشوار الكفاح ضد "دَاء النسيان".
الأحياء الأموات
في الوقت الذي تتحدث فيه وزارة الصحة عن رصد حوالي 70 ألف حالة إصابة بالزهايمر، تبقى هذه الأرقام بعيدة عن الواقع بحوالي عشر مرات، كما يخبرنا أحمد نعيم، رئيس جمعية مغرب الزهايمر، مضيفا أن السبب في ذلك يعود بالأساس إلى غياب توعية بالمرض من جهة و ضرب جدار من الصمت على المصابين بالزهايمر من جهة أخرى باعتباره مرضا أقرب إلى الجنون وأن المصاب به يكون مدعاة للعار والسخرية لعائلته. وهو ما ينطبق على الحالة الثالثة التي توجهنا لزيارتها.
تركنا حي سيدي يوسف بن علي وتوجهنا صوب حي الآفاق، بعيدا عن المدينة الحمراء بحوالي 15 كيلومترا.. هو أحد أحياء الطبقة المتوسطة، بنايات متراصة بانتظام تستقبلنا حدائق شرفاتها الأنيقة، في هذا الحي، لا مجال للحديث عن فضوليين، الكل منخرط في همومه الخاصة، أو في هموم لم يحسب يوما أنها ستصبح أكثر هواجسه سوادا.
خلف الأبواب المغلقة لبيت ''فاظمة'' تختفي تراجيديا حقيقية، الأم فيها ضحية لابن عاق ومرض لا يرحم. علامات الأسى بادية على محيا ''مينة'' ابنة "فاظمة'' التي كانت في انتظارنا، كان أول ما أخبرتنا به هو :'' ابنها هو السبب، أخي هو سبب وصول والدتي إلى هذه الحالة، منذ أن سلبها إرثها الذي كان يبلغ حوالي 260 ألف درهم، وحالتها تتدهور من سيء إلى أسوء، تراجعت ذاكرتها بشكل كبير، لقد صدمها أخي، و الأدهى من ذلك كله هو تخليه عنها، لقد أصيبت بالمرض منذ خمس سنوات، وتكفلت بها أنا في الأربعة أعوام الأخيرة'' نبرة صوت "مينة'' الحادة تنم عن حسرة ويأس وعجز، وتحكي بأن حياتها الأسرية انقلبت رأسا على عقب منذ أتت بوالدتها لتعيش معها، أصبحت ''مينة'' مقصرة في حق زوجها وأبنائها الستة. صارت لا تفارق الطابق السفلي لبيتها إلا لماما، فوالدتها لا تتوقف عن الصراخ، تمزق ملابسها و كلما لمحت أحدا من أبناء ''مينة'' تصرخ في وجهه وتهدده بالضرب، كما لا تتردد في نعتها بأبشع النعوت ظنا منها أن ''مينة'' امرأة غريبة تحاول مهاجمتها وحين تمر موجات الغضب العارمة التي تنتابها تتذكر فقط ابنها وتدعو عليه بشدة".
يصل المرض إلى مراحل متقدمة، هي المرحلة الثالثة للزهايمر، تنتاب المريض خلالها نوبات غضب كبيرة مصاحبة بصراخ، إلى جانب تعرضه لمشاكل في النوم مع إحساس بالخوف والرعب من أفراد العائلة، إلى درجة يصير معها المريض عبئا على عائلته." توضح لنا الدكتورة نوال العدالي.
كانت ''فاظمة'' هادئة أثناء زيارتنا لها، بغرفة باردة خالية من الأثاث إلا من أغطية قليلة تفترشها لتقيها قرّ الأرض.. حين استغربنا ذلك، بررت ''مينة'' بقولها إن والدتها تكره الأفرشة وأنها إذا لم تلق بها خارجا فإنها تقوم بطيها.. وتتابع ''مينة'' حكايتها بحرقة بالغة وتخبرنا أنه لولا أحد البرامج الإذاعية التي سمعتها صدفة لما عرفت أن الأمر يتعلق بمرض الزهايمر، لقد كانت تظن أنها مصابة بالمس أو أنها تعرضت لسحر، وعندما طالبت أخاها بالتدخل لمعالجة الوالدة، تنصل من مسؤوليته وترك ''مينة" تعاني الأمرين لوحدها، خصوصا في ظل تفاقم حالة الأم المريضة وارتفاع تكلفة أدويتها في هذه المرحلة الحرجة من ''عدو الذاكرة''، حيث يبلغ ثمن الدواء 1375 درهم كل خمسة عشر يوما.
تنهمر دموع ''مينة'' بغزارة وتقول بلهجتها المراكشية: "ما عرفتش فين نعطي راسي.. لا أخفيكم سرا أني اشتريت الدواء لمرتين فقط، ليس في استطاعتي تحمل تكلفته، زوجي متقاعد وأنا لا أعمل.. لقد تعبت كثيرا لأن الأمر لا يتوقف عند التكاليف المادية، فأنا لا أنام ولا أغادر البيت، لا أزور أحدا ولا يقوم أحد بزيارتي، أنا المسؤولة الوحيدة عنها، وإذا غفلت عنها تغادر البيت ولولا الألطاف لما عادت ذات يوم بعد أن خرجت وتاهت عن الطريق قبل أن يلتقيها شباب من المعارف وأعادوها إلينا".. بصعوبة تبتلع ''مينة'' ريقها قبل أن تضيف: "والدتي سلمت أموالها لأخي، عن طريق الوكالة، وأنا من يعاني الآن.. أحيانا تنفلت أعصابي وأهم بالصراخ في وجهها لولا زوجي الذي يقوم بتهدئتي.. أعترف لكم: أَنَا عْيِيتْ''.
ثلاث أسئلة لأحمد نعيم: رئيس جمعية أمل مغرب آلزهايمر
كم يبلغ عدد حالات الزهايمر المسجلة في المغرب؟
المرض يصيب شريحة كبيرة من الأشخاص في العالم و في المغرب، تتحدث احصائيات وزارة الصحة وطنيا عن ما يقارب 90 إلى 100 ألف حالة إلا أن هذه الأرقام تبقى بعيدة عن الواقع بحوالي 10 مرات. أما بمراكش الحوز لوحدها فقد تم تسجيل 378 حالة لحدود الساعة.
ما هي أشكال المساعدات التي تقدمها الجمعيات للمصابين بالمرض وذويهم؟
تعمل الجمعيات على القيام بحملات تحسيسية تروم نشر التوعية بالمرض في المجتمع، إلى جانب الحملات الطبية من أجل التشخيص المبكر للإصابة، هذا فضلا عن القيام بتكوين ملفات خاصة بالحالات المرصودة لتتبعها عن قرب.
ما هي المجهودات التي تقوم بها وزارة الصحة في هذا الإطار؟
في الواقع، المجهودات في هذا السياق تبقى هزيلة وتقتصر على بعض الإعانات الموسمية، كما أن الجمعيات المهتمة بالزهايمر قليلة ومحدودة الانتشار. ومن جانبنا قمنا بتنظيم الدورة الثانية من ملتقى دول البحر الأبيض المتوسط للوقاية من مرض الزهايمر بمدينة مراكش شهر أبريل المنصرم، بعد أن نظمت الدورة الأولى بموناكو سنة 2011 والذي نصت توصياته على إنشاء مركز عالمي لاستقبال مرضى الزهايمر تبلغ طاقته الاستيعابية 80 سريرا ويمتد على مساحة تبلغ من 6 إلى 7 هكتارات.
رأي القانون
تحركنا بحالة ''فاظمة''، التي سلبها ابنها أموالها، وأحلناها على خالد غيغة، محام بهيئة الدار البيضاء الذي قال إنّ القانون المغربي لم يتطرق لجميع الأمراض ولكن مدونة الأسرة صنفت الحالات التي تستدعي الحجر إلى قسمين، قسم متعلق بالشخص عديم للأهلية وقسم ثان خاص بناقص الأهلية، هذا الأخير يشمل ثلاث حالات: الصغير الذي لم يبلغ سن الرشد بعد، و السفيه الذي يبذر ماله فيما لا فائدة فيه، و المعتوه أي الشخص المصاب بإعاقة ذهنية. ويمكن إدراج مريض الزهايمر في خانة المعتوه لأنه لا يستطيع التحكم في تصرفاته".
ويضيف غيغة أن المادة 222 من قانون الأسرة تعتمد للقيام بإجراءات الحجر أو رفعه على خبرة طبية ووسائل الإثبات الشرعية على أن المادة 221 من القانون ذاته تحدد أن الحكم بالتحجير أو برفعه يصدر بناء على طلب من المعني بالأمر أو من النيابة العامة أو لمن له المصلحة في ذلك. وتكون الأحقية في ذلك ابتداء من الزوجة أو الأبناء، أو الأب أو الأم أو الإخوة أو الأعمام أو الأخوال." وأما فيما يتعلق بأحقية مريض الزهايمر في الإرث فيقول خالد غيغة إن ''المريض يحصل على نصيبه كاملا دون نقصان وإن كان محجورا عليه لا يتصرف فيه، كما أن أي تصرف متعلق ببيع أو شراء أو إمضاء العقود هو باطل قانونا".
الخرف يهدد العالم
يصل عدد المصابين بالزهايمر في العالم إلى 35 مليون مصاب، نصف هذا العدد في دول العالم الثالث. و من المتوقع أن يرتفع عدد ضحايا مرض النسيان إلى 43 مليون بحلول العام 2025، 70 بالمائة منهم في العالم الثالث. وقد كلف علاج المرض عالميا خلال سنة 2010 ما يفوق 604 مليون دولار. المرض الذي ينتشر في المدن أكثر من البوادي بسبب التوتر و الضغط الذي يميز إيقاع الحياة في المدن لم يستثن شخصيات معروفة من السقوط في متاهته نذكر منهم: الروائي غابرييل غارسيا ماركيز، الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغان، الممثل بيتر فولك المعروف بدور المفتش كولومبو، وحاليا بدأت بوادر الزهايمر تظهر على الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك. المرض كان أيضا مصدرا لإلهام عدد من مخرجي الأفلام الذين اعتمدوا قصصا واقعية لتقديم الزهايمر في قالب درامي يبقى أشهرها وأكثرها نجاحا الفيلم الأمريكي : "دفتر الذكريات | The Note Book" لصاحبه ''نيك كاسافاتيس'' وبطولة الممثل ''رايان غوسلينغ'' و الممثلة "ريتشال ماك أدمز".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.