المحكمة الدستورية تُجرد محمد بودريقة من مقعده البرلماني بسبب غيابه دون عذر    وهبي يعرض مشروع قانون المسطرة الجنائية الجديد    المحكمة الابتدائية بالرباط تبرئ 27 من طلبة الطب والداخليين من تهم التجمهر والعصيان    عزيز غالي ينجو من محكمة الرباط بدعوى عدم الاختصاص    السفير هلال يقدم استراتيجية المغرب في مكافحة الإرهاب أمام مجلس الأمن    بنعلي: المغرب يرفع نسبة الطاقات المتجددة إلى 45.3% من إجمالي إنتاج الكهرباء    ترامب يعتزم نشر جميع الوثائق السرية المتعلقة باغتيال كينيدي    مبارتان وديتان .. المنتخب المغربي لأقل من 17 سنة يواجه نظيره لغينيا بيساو يومي 23 و26 يناير الجاري ببيساو    توقيف متورط في شبكة للهجرة السرية بالحسيمة بحوزته 15 مليون    طلبة المعهد الوطني للإحصاء يفضحون ضعف إجراءات السلامة بالإقامة الداخلية    الغموض يلف العثور على جثة رضيعة بتاهلة    مسرح محمد الخامس بالرباط يحتضن قرعة كأس إفريقيا المغرب 2025    "لوموند": عودة دونالد ترامب تعزز آمال المغرب في حسم نزاع الصحراء    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    أيوب الحومي يعود بقوة ويغني للصحراء في مهرجان الطفل    120 وفاة و25 ألف إصابة.. مسؤول: الحصبة في المغرب أصبحت وباء    الإفراط في تناول اللحوم الحمراء يزيد من مخاطر تدهور الوظائف العقلية ب16 في المائة    إقليم جراد : تدابير استباقية للتخفيف من آثار موجة البرد    محكمة الحسيمة تدين متهماً بالتشهير بالسجن والغرامة    حضور جماهيري مميز وتكريم عدد من الرياضيين ببطولة الناظور للملاكمة    سناء عكرود تشوّق جمهورها بطرح فيديو ترويجي لفيلمها السينمائي الجديد "الوَصايا"    الدوري السعودي لكرة القدم يقفز إلى المرتبة 21 عالميا والمغربي ثانيا في إفريقيا    الأخضر يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    الكويت تعلن عن اكتشاف نفطي كبير    ارتفاع أسعار الذهب لأعلى مستوى في 11 أسبوعا وسط ضعف الدولار    مجموع مشتركي نتفليكس يتخطى 300 مليون والمنصة ترفع أسعارها    دراسة: أمراض اللثة تزيد مخاطر الإصابة بالزهايمر    أبطال أوروبا.. فوز درامي لبرشلونة وأتلتيكو يقلب الطاولة على ليفركوزن في مباراة عنيفة    حماس تنعى منفذ عملية تل أبيب المغربي حامل البطاقة الخضراء الأمريكية وتدعو لتصعيد المقاومة    الجفاف وسط البرازيل يهدد برفع أسعار القهوة عبر العالم    تصريحات تبون تؤكد عزلة الجزائر عن العالم    شح الأمطار في منطقة الغرب يثير قلق الفلاحين ويهدد النشاط الزراعي    تداولات الإفتتاح ببورصة الدار البيضاء    وزارة التربية الوطنية تبدأ في تنفيذ صرف الشطر الثاني من الزيادة في أجور موظفيها    فرنسا تسعى إلى توقيف بشار الأسد    بنما تشتكي ترامب إلى الأمم المتحدة    عادل هالا    جماهير جمعية سلا تطالب بتدخل عاجل لإنقاذ النادي    Candlelight تُقدم حفلاتها الموسيقية الفريدة في طنجة لأول مرة    الكشف عن النفوذ الجزائري داخل المسجد الكبير بباريس يثير الجدل في فرنسا    الدريوش تؤكد على ضرورة اتخاذ التدابير اللازمة للتصدي للمضاربات في سعر السردين    رئيس جهة سوس يقود حملة انتخابية لمرشح لانتخابات "الباطرونا" خلال نشاط رسمي    المدافع البرازيلي فيتور رايش ينتقل لمانشستر سيتي    الصين تطلق خمسة أقمار صناعية جديدة    الشاي.. كيف تجاوز كونه مشروبًا ليصبح رمزًا ثقافيًا عميقًا يعكس قيم الضيافة، والتواصل، والوحدة في المغرب    جريمة بيئية في الجديدة .. مجهولون يقطعون 36 شجرة من الصنوبر الحلبي    سقوط عشرات القتلى والجرحى جراء حريق في فندق بتركيا    المغرب يواجه وضعية "غير عادية" لانتشار داء الحصبة "بوحمرون"    فضيل يصدر أغنيته الجديدة "فاتي" رفقة سكينة كلامور    افتتاح ملحقة للمعهد الوطني للفنون الجميلة بمدينة أكادير    في حلقة جديدة من برنامج "مدارات" بالاذاعة الوطنية : نظرات في الإبداع الشعري للأديب الراحل الدكتور عباس الجراري    وفاة الرايس الحسن بلمودن مايسترو "الرباب" الأمازيغي    علماء يكشفون الصلة بين أمراض اللثة وأعراض الزهايمر    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"هوليوود القيروانيين" .. مشاهد من موسم "الحج السنغالي" في فاس
نشر في هسبريس يوم 01 - 09 - 2021

لم تسبقنا في تشكيل المناظر السينمائية في المغرب إلا أفلام معدودة، كما أننا سبقنا في تشكيل هذه الديكورات استوديوهات أطلس في ورززات بسنوات عديدة. كانت استوديوهاتنا شبه السينمائية تشمل جزءا من حينا وتستمر لعدة أيام من كل سنة. فما أن يشيع خبر قدوم وفد الحجاج السينغاليين من الدار البيضاء إلى فاس، حتى تعم محيط الزاوية التيجانية حالة طوارئ واستنفار قصوى تكسر ذلك الروتين الذي يعم الحي لشهور. ذلك أن الحجاج السينغاليين، بعد أدائهم فريضة الحج، وقبل استئناف رحلة عودتهم إلى دكار، يستفيدون من فرصة توقفهم الإجباري في مطار محمد الخامس في انتظار الطائرة التي ستقلهم إلى بلادهم، لزيارة ضريح الشيخ أحمد التيجاني في فاس. فزيارة ضريح الشيخ هي شبه واجب على اتباعه الدينية. فالسينغاليون، الذين ينتمي ما بين 90 إلى 94 بالمئة منهم إلى أربع طرق صوفية رئيسية هي القادرية، التيجانية، المريدية واللاهينية، لهم اعتقاد راسخ بأنه: "لا يكتمل إسلام أحدهم ما لم يكن منتميا إلى طريقة ما، ولا يتصور أن يكون أحد مسلما من غير أن يكون له شيخ يتبعه".
لقد وصل الإسلام إلى غرب إفريقيا مع دولة المرابطين واستقر فيها لاحقا على يد معلمين أقام كثير منهم في المراكز الحيوية مثل تمبكتو، جني، بلاد شنقيط وبيرو وكوكي. وابتداء من القرن الخامس عشر الميلادي عرف غرب إفريقيا أولا انتشار الطريقة القادرية، نسبة إلى عبد القادر الجيلاني (11661077)،
التي وصلت إلى فاس أولا عن طريق أحفاد ابنيه إبراهيم، المتوفى عام 1196م، وعبد العزيز المتوفى عام 1205م، الذين لجؤوا إلى المغرب قادمين من الأندلس. لاحقا أدخلها إلى منطقة حوض نهر النيجر محمد بن عبد الكريم المغيلي (1425-1504). غير أن الطريقة القادرية لم تعرف توسعا في السينغال إلا في القرنين 18 و19 على يد الشيخ المختار الكنتي، المتوفى سنة 1811 والشيخ محمد الفاضل بن مامينا، المتوفى في 1869، اللذين كانت لهما مكانة وشهرة واسعة وصار لهما أتباع حتى خارج السينغال، بل بين معظم السودانيين. في السينغال وحدها يبلغ عدد القادرين حوالي مليون شخص.
أما الأكثر انتشارا بين السينغاليين فهي الطريقة التيجانية، نسبة إلى أحمد ابن محمد ابن المختار التيجاني، المولود عام 1737 في عين ماضي بالجزائر الحالية ودفين مدينة فاس سنة 1815، والتي يصل أتباعها إلى 50 بالمئة (وحسب تصريح الناطق باسم التيجانية في السينغال أحمد سي، إلى 65 في المئة) من مجموع الشعب السينغالي، الذي يبلغ عدده 14 مليون نسمة.
والفضل في دخول الطريقة التيجانية إلى السينغال يعود إلى الشيخ السينغالي عمر بن سعيد الفوتي (1796 1864) الذي كان متمكنا من العلوم الشرعية ثم لازم شيخيه، مولود فال الشنقيطي وعبد الكريم من فوتا جلون، اللذين أخذ عنهما ورد الطريقة. بعد حج الشيخ عمر بن سعيد عام 1827 ولقائه في المدينة المنورة بمحمد الغالي، أحد مريدي الشيخ أحمد التيجاني، عاد إلى السينغال بفكرة جهادية عزم فيها على: توحيد صفوف المسلمين في بلاده من أجل قتال الوثنيين، الذين يعيشون بينهم.
على خلاف خلفه الحاج مالك (1855 1922) الذي كان له فضل كبير هو الآخر في توسيع رقعة الطريقة التيجانية في بلاد السينغال، فإنه كان يرى أن طاعة الدولة الفرنسية من واجبات كل أتباع الطريقة وغيرهم من المسلمين ممن أرادوا العيش في السينغال، حيث يقول: "وأن توافقوا الدولة الفرنساوية لأن الله تبارك وتعالى خصهم بنصر وفضل ومزية وجعلهم سببًا في صون دمائنا. ولذلك، وجب علينا أن نتأدب معهم وأن لا يسمعوا منَّا ما لا يسرهم، لأنه قبل دخولهم علينا كنا بين أسر وقتل ونهب سواء في ذلك المسلم والكافر. ولولاهم لبقينا كذلك حتى الآن ولا سيما في هذا الزمان".
الطريقة الثالثة والثانية من حيث الانتشار وقوة التأثير الديني في السينغال هي المريدية (المشتقة من اسم الإرادة، المستعمل كثيرا في الوسط الصوفي) وعاصمتها مدينة طوبا، ثاني أكبر مدن السينغال. أسسها الشيخ أحمد بامبا امبكي (1853 1927) في أواخر القرن 19، ودعا فيها إلى صوفية تجديدية في كل الجوانب الدينية والاقتصادية والسياسية والفكرية في الحياة السينغالية. توسعت قاعدة الطريقة بعد وفاة شيخها وتولي أبناؤه إدارة شؤونها حيث بلغ أتباعها 5 ملايين.
الطريقة اللاهينية (نسبة إلى الاهي، الإله) أسسها لباس تياو (1843 1909) الملقب ب"امامو"، أي الإمام. الذي كان دعا من خلالها إلى وجوب الإقلاع عن أنواع اللعب واللهو المتناقضة مع الإسلام، ودعا الناس إلى الزهد في الدنيا والورع واحترام الحقوق والواجبات. تحتل هذه الطريقة المرتبة الرابعة من حيث عدد الأتباع الذي يصل إلى حوالي 150 ألف نسمة.
فالتصوف في غرب إفريقيا، وخاصة في السينغال، لا زال يمثل سدا هاما في التصدي للتطرف الديني. غير أن كل هذه الطرق رغم قدمها وتجذرها في المجتمع، أصبح عليها أن تواجه تناميا قويا للتيارات السلفية، التي تجتذب المراهقين وتعتبر الآن من أكثر التيارات الإسلامية نشاطا، والتي دخلت عن طريق الطلبة الأفارقة الغربيين الذين تلقوا علومهم الدينية في دول الخليج العربي.
في ذلك اليوم الذي يسبق مجيء الحجاج السينغاليين، تعم الحي حالة استثناء بين متفرج على هذا المشهد وفاعل فيه، كما ينفر عدد من القادرين على حمل المتاع، والفضوليون ووسطاء تأجير البيوت، إلى إحدى بوابات غرب المدينة التي تحمل اسم قصر محمد ابن العربي الجامعي، أحد وزراء السلطان الحسن الأول. قصر أنشأ سنة 1879 ثم حول جزء منه في بداية القرن العشرين على يد الفرنسيين إلى فندق سياحي فخم، ثم أضيف له الجزء الآخر في الستينات من القرن الماضي.
يختلف مجيء الحجاج السينغاليين السنوي وفقا لاختلاف موسم الحج من حيث فصول السنة وكذا أوقات وصولهم إلى فاس بين عشية أحيانا وساعة متأخرة من الليل. كان أبناء الحي ينتظرونهم بقلق وترقب، وكان وقت الانتظار يمر بطيئا، مملا، رتيبا يزج بالمنتظرين في أحاديث الفراغ وخلق تسليات الغرض منها قتل الوقت إلى أن تصل حافلات الزوار. فمن بين التسليات، المساهمة في الجرأة والشجاعة. فهناك في الخلاء على بعد مئتي متر تقريبا من بوابة المدينة، ضريح خرب مجهول الهوية تحف به مدافن وبداخله أخرى، مثلها مثل الضريح لا تحمل هي الأخرى أسماء ولا إشارات دالة عن هويتها، يطلق عليه العامة اسم سيدي بو الخوابي (الجرات). أمامه ممر واسع يفصل بين المدافن يستعمله أبناء المنطقة ملعبا لكرة القدم نهارا وبعد مغيب الشمس لا يجرأ أحد على الاقتراب منه.
وفي انتظار مجيء الفوج السينغالي ليلا، يخلق المنتظرون من هذا الحيز المظلم مجال رهان شجاعة مقابل مبلغ من المال المحدد سالفا لمن يستطيع أن ينزل إليه ويدق في مكان ما منه وتدا من حطب ثم يعود، متأثرين بما كانوا يشاهدونه من أفلام "Dracula" (مصاص الدماء) الذي يقوم من بين القبور، لكن لا أحد يجرأ على الذهاب إلى هناك خوفا من الأشباح والأرواح الخفية المبهمة.
بعد ملل وانتظار طويل، تظهر طلائع حافلات الحجاج السينغاليين عند المنعرج تتدحرج عجلاتها رويدا رويدا إلى أن تتوقف أمام بوابة فندق قصر الجامعي. بعد دقائق تلفظ ما بداخلها، عشرات من الرجال السود طويلي القامات، أقوياء البنيات، في قمصانهم الطويلة شديدة البياض والرمادية أو البنفسجية الداكنة. ونسائهم يرفلن في أثواب بألوان قانية، مزركشة شدت رؤوسهم بمناديل من نفس جنس الأثواب بطريقة غريبة عن نساء مدينتنا، وقد أثقلت معاصمهن دمالج وأصابعهن خواتم ذهبية سميكة وتدلت من لحمة آذانهن أقراط ذهبية ثخينة. تظهر عليهم جميعا، رجالا ونساء، آثار النعمة والرفاه، خلاف لتلك الأجسام الضامرة التي نراها على الشاشات كشاهد على مأساة المجاعة في إفريقيا. فالسفر إلى مكة ثم إلى فاس مكلف، وهذا ما لا يطيقه إلا السينغاليون الميسورون، ذوو مال وثراء.
ما أن تحط حقائبهم وشنطهم ورزمهم المسافرة معهم فوق سطح الحافلات على الأرض، حتى يهرع المنتظرون، بعد إذن مالكيها ومالكاتها لحملها على أكتافهم وظهورهم، مقابل عطاء سخي نسبيا. ويبدأ مسير على الأقدام، قافلة بشرية تتحرك بين منحدر دروب الجهة الغربية من المدينة العتيقة في اتجاه الزاوية التيجانية. هنا في هذا الضريح يحط هذا الجمع الرحال أولا، حتى يقوم الحجاج بزيارة قبر الشيخ كأحد فروض دخول المدينة. فإذا كان الحديث يقول: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد"، فهؤلاء يشدون الرحال إلى رابع، ضريح مرقد جثمان الشيخ التيجاني.
يتحول فضاء الزاوية إلى نسخة مصغرة عن الحج الأكبر، أمتعة هنا وهناك وحالة استنفار وقلق بين المشرفين وسدنة الزاوية، الذين تتهلل سحناتهم استبشارا بما ستدره عليهم زيارة هؤلاء الحجاج من خير. ويصرف ما دونهم خارج الزاوية.
في تلك الليلة ينتقل من الزوار من لهم علاقات قديمة في الحي إلى أماكن إقامتهم، والجدد منهم إما يعقدون صفقات تأجير البيوت أو الدور التي ستأويهم للتو، أو يقضون ليلتهم الأولى في فضاء الجامع إلى أن يتدبروا مكان مثواهم في اليوم التالي. أما خارج فضاء الزاوية، فالأعمال جارية على قدم وساق لإعداد المشهد المحيط بالزاوية.
في الصباح التالي تتخذ الجهة المقابلة للحرم التيجاني شكلا مغايرا، وكأن وراء هذا التحول طاقم إخراج سينمائي محترف، جعل من منظر روتيني معتاد مشهدا يشبه كواليس خارجية لفلم سينمائي أعد خصيصا لهؤلاء الزوار. فالدكان الذي كان بالأمس يبيع الخضر والفواكه أو البقالة أو سمسرة العقارات أو تمارس فيه إحدى المهن كالخياطة، أو حتى كتّاب تعليم الصغار القرآن، أو غيرها من المهن، صار بين ليلة وصباحها متجرا يعرض بضائع النسيج والجلد من جلاليب، "قشاشيب"، قمصان طويلة، طرابيش حمراء فاسية، طاقيات، "بلاغي" جلدية صفراء وبيضاء، سبحات، مناديل، "بدعيات"، صدريات، وغيرها من مصنوعات الحياكة، التي يستعيرها مؤجروا هذه الدكاكين من تجار النسيج في القيسارية، وبذلك يتحول المحيط إلى مشهد قيسارية مصغر وتجار الأمس يتقمصون أدوار باعة متمرسين في تجارة منتوجات الحياكة.
وهكذا يتم تقريب التجارة من الزوار على قياس تقريب الإدارة من المواطنين. أما بعض الدور والمنازل فتعرض عليها هي الأخرى عروض مغرية لاستقبال الضيوف السينغاليين. أو تتحول إحدى الدور الكبيرة في الحي إلى مطعم بكل عدته وعتاده من أجل استقطاب الحجاج لتناول وجباته المعدة لهم خصيصا دون سواهم. لكن هؤلاء القادمين من مجتمع وثقافة مغايرين لا تستهويهم تلك "الشهيوات" الفاسية، فيكتفون من المطعم بتأجير مطبخه وأدواته، ويبدأ طبخ الوجبات الإفريقية الدسمة من الأرز واللحم العائم في الدهنيات وعبق التوابل المخترقة للأنوف وفيض من الطماطم المصبرة.
في خضم هذا المهرجان التجاري والفرجوي، يكون نجمه هو أحمد الريفي، الملقب ب "التومبي". (اسم رئيس وزراء الكونكو السابق). مثقف، مدمن على القراءة والمطالعة والاستماع إلى البرامج الثقافية، سواء الوطنية أو الدولية، مثل هيئة الإذاعة العربية في لندن "BBC".
مثل إدمانه على الصهباء، كان الحجاج السينغاليون يحبونه، معجبين به، يرافقهم في جولاتهم عبر المدينة، كان مرشدهم ودليلهم بين التواءات وتعرجات دروب وأزقة متاهة الأحياء القديمة. لم يكونوا يسيرون بسيره فحسب، بل يتأبطونه في مشيته المتثاقلة من كثرة السكر، حيث كان بالكاد يمشي على رجليه، هذا الإعجاب مرده إلى قوة ذاكرته ومعلوماته الكثيرة عن السينغال وعن غرب إفريقيا، وخاصة عن مدينة دكار، التي جمع عنها سماعا الكثير من الروايات والأخبار من زوار الزاوية السينغاليين ومن مطالعاته الكثيرة لمجلة "إفريقيا الشابة" (jeune afrique).
كان يحدثهم عن الإحداث وعن المدن السينغالية وكأنه يعيش هناك، عن "سينما الله أكبر" في العاصمة دكار، التي بعد الانتهاء من تشييدها، مر بها رجل من العامة ومن شدة إعجابه بمنظر هذه البناية قال معبرا عن انبهاره: "الله أكبر". من الصدف أن مالك السينما والعمارة كان حاضرا، فاستبشر بقولة الرجل خيرا وأطلق على السينما اسم "الله أكبر". مثل هذه الأخبار والسرديات كانت تمنح "التومبي" ثقة الحجاج الكبيرة. كانوا يشعرون، وكأنه واحد منهم رغم لون بشرته الأشقر. فالتوبي كان يجسد سلطة الثقافة والمعرفة ويتبوأ مكان الصدارة والاحترام وسط ذلك السعي المحموم من أجل الربح. كان له دور الوساطة بين الزاوية وحجاجها، يعول عليه في فك الإشكالات والمعضلات أو سوء فهم.
حين يصل موسم حج السينغاليين الأصغر إلى الزاوية تمامه وتعود القافلة البشرية إلى بوابة فندق قصر الجامعي عبر نفس الطريق الذي سلكته عند قدومها، محملة بالشنط والحقائب والرزم وقد تضاعف حجمها وعددها أضعاف ما كانت عليه عند قدومها، وقد ارتدى هذه المرة الرجال السود طويلو القامات، أقوياء البنيات، قمصانا غير التي كانت عليهم وجلاليب وتعمموا بالطرابيش الحمراء الفاسية، وتزينت نساؤهم بالأثواب المغربية، تتحرك رويدا الحافلات صوب طريق الدار البيضاء، بعد توديعها بالتلويح بالأيدي من طرف المرافقين حمالة ووسطاء باستثناء التومبي. ما أن يعود الكل إلى الحي، والبعض يعدُ ما غنمه من الدراهم أو الفرنكات السينغالية، يكون المشهد السينمائي الذي يمنح الحي نوعا من نكهة التغيير والفضول، قد اختفى، وكان فعلا سحريا أعاده إلى طبيعته وروتينه من جديد في انتظار موسم الحج القادم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.