يصعب تقديم تصور واضح عن الطريقة التي يدبر بها حزب العدالة والتنمية المرحلة الراهنة من الناحية السياسية. إن الحسابات السياسية التي يتحرك على وقعها ملتبسة ويستعصي كثيرا رصدها، ويتبدى ذلك في التأطيرات العامة التي يقوم بها إزاء المشهد السياسي. لقد ظهرت هذه الصعوبات أساسا خلال انبثاق النقاش حول القاسم الانتخابي بالساحة السياسية، حيث تبين مدى الاستقطاب بين حزب العدالة والتنمية وبين بقية الفرقاء. مع ذلك، تأخذ مسألة القيام بهذه المهمة الخاصة برصد ملابسات العرض السياسي للحزب المذكور أهميتها في كونها لها تأثيرات وتداعيات جمة على الحقل السياسي الوطني، من شأن الخطأ في التقدير بخصوصها أن يكون بكلفة باهظة تخص ضياع سنوات من الزمن السياسي. فلئن كان من الجلي أن خصوم العدالة والتنمية يبدون نوعا من العجز في مجادلة ومواجهة مواقف وأطروحات الحزب التي يدافع بها عن نفسه وتدبيره للشأن العام، فإن القيام بالتحقيب السياسي والتاريخي اللازم بوسعه أن يكشف كثيرا من مناطق الظل التي على أساسها تستمر هيمنة الحزب على مفاهيم أساسية في الحقل السياسي في مقدمتها مفهوم الديمقراطية. لقد انزاحت أطروحات العدالة والتنمية شكليا انطلاقا من سنة ما عرف ب"الربيع العربي"، إذ انتقلت من أطروحة مركزية متمثلة في "مكافحة الفساد والاستبداد" إلى نطاق أطروحة "صوتنا فرصتنا لمواصلة الإصلاح"، ثم إلى أطروحة "مصداقية، ديمقراطية، تنمية"؛ إلا أنه رغم تغير كل هذه الشعارات الملاحظ هو أنها حافظت في الوقت نفسه على زخمها الأول المتصل بأحداث مطلع العقد المنصرم. في الواقع، ظلت الأطروحة المركزية والأساسية للحزب ذات الزخم الكبير، والتي على أساسها يجري الحشد والتعبئة، مرتبطة أساسا بالصراع ضد "السلطوية" و"مكافحة الفساد والاستبداد"؛ لكن وقع انزياح في هذه الأطروحة خلال انتخابات أكتوبر 2016 باتجاه الحديث عن الإصلاح بدل الصراع ضد "التماسيح والعفاريت" و"التحكم"، غير أن زخم الأطروحة الأولى بقي قائما وتم تكثيفه بشكل خفي وغير مباشر في العنصر الدستوري المتمثل في "الاختيار الديمقراطي". في حقيقة الأمر، في حال ما علمنا "المتخيل" والمقومات والأسس التي يقوم عليها الحزب ومنابع قوته، فإنه من الصعب آنذاك اعتباره حزبا عاديا، إذ إن الحزب السياسي القوي لا يكون كذلك بالمقاعد التي يحوزها فقط خلال الانتخابات؛ وإنما بالمساحة التي يشغلها في الحقل السياسي. وبهذا المعنى، فحزب العدالة والتنمية يشغل مساحة كبيرة بالمشهد السياسي، تطال مساحة الديمقراطية برمتها، باعتباره الفاعل الديمقراطي "الوحيد" بالمقارنة مع بقية الأحزاب "المنهكة" و"الضعيفة" الموجودة في المشهد السياسي الوطني! وإذا ما كانت الهيمنة القائمة اليوم في الحقل السياسي الوطني هي هيمنة على مفاهيم محددة كانت مرجعية للنقاش السياسي والصحافي طيلة العشر سنوات المنقضية، لاسيما مفهوم الديمقراطية؛ فإن الاستقطاب الحاد الذي وقع خلال مناقشة القوانين الانتخابية يرجع إلى أنها كانت مناسبة سانحة لاستبدال دلالة هذه المفاهيم والعناصر الكبرى التي تتأسس عليها هيمنة حزب سعد الدين العثماني في الحقل السياسي المغربي، وذلك لناحية تفكيك ارتباطها الجذري ب"الإسلاميين"، الأمر الذي أفضى إلى توتر وارتباك كبيرين خلال الجلسة العمومية للمصادقة على هذه القوانين. من جهة أخرى، يتحرك حزب العدالة والتنمية بناء على مفهوم محدد للديمقراطية، يقصرها فقط على مفهوم الديمقراطية التمثيلية، حيث حقق فيها نجاحات كبيرة؛ بالنظر إلى أن تعاقده مع الناخبين كان على أساس سياسي متين قوامه تحقيق آمال مكافحة الفساد والاستبداد والصراع ضد السلطوية، وهو الأمر الذي يساهم حاليا في استنزاف الزمن السياسي إلى الحدود القصوى، إذ يتعذر مع التشبث الشديد بالطابع التمثيلي للديمقراطية فتح المجال أمام انبثاق نخب وأفكار جديدة، لكون الحزب هو من يملك زمام الريادة في المشهد السياسي. بالمقابل، يحاول الحزب نفسه التغلب على أزمة نموه السياسي وتطوره التنظيمي من خلال رغبته غير المعلنة في أن يصير حزبا ديمقراطيا اجتماعيا؛ لكن مع السعي في الوقت نفسه إلى البقاء كحزب مواجه لما يعتبره "سلطوية" و"تماسيح وعفاريت"؛ وذلك عبر الجمع بين الجانبين بناء على "حيلة" الحديث عن المعطى الدستوري المتمثل في "الاختيار الديمقراطي" و"الحصيلة المشرفة" للحكومة في المجال الاجتماعي، رغم أنه لا يحوز عدد أصوات كبيرا مقارنة بالكتلة الناخبة؛ علما أيضا أن وصوله إلى الحكومة كان على أساس ما يعتبره محاربة السلطوية وليس على برنامج حزبي يعتبر قاسما مشتركا بين مختلف الأحزاب، بالإضافة إلى أن تقييم الديمقراطيات المعاصرة لم يعد يقتصر على المؤشرات التمثيلية فحسب، بل يتعداه إلى تقييم جودة الديمقراطية والخدمات الاجتماعية. خلاصة القول، يعاني الإسلاميون أزمة نمو تنظيمي؛ فبعدما كانوا قد بلغوا السقف على مستوى الطموح السياسي المترجم على صعيد الحجم، كما كان ذلك جليا خلال الانتخابات التشريعية السابقة، إذ وصلت الديمقراطية التمثيلية إلى حدودها القصوى، فإن حزب العدالة والتنمية يبحث الآن عن التوليفة المناسبة التي قد تسمح له بالحفاظ على أكبر عدد ممكن من مقاعده النيابية، وإن من خلال التعسف على الزمن السياسي وكبح نمو الديمقراطية.