قضية اليوم من بين قضايا المغرب الكثيرة التي تفرض بقوة طرح هذا السؤال: كيف يحكمون المغرب؟ أصدر الملك عفوه على المجرم الاسباني الذي اغتصب 11 طفلا مغربيا! وبعد أيام من الاستنكار الواسع من داخل وخارج المغرب أصدر الديوان الملكي بلاغا يتعذر فيه بعدم إطْلاع الملك بخطورة الجرائم الدنيئة التي ارتكبها هذا المجرم. تثير هذه القضية نقاشا حول الطريقة التي يتخذ بها الملك قراراته ومسؤولية هيئته الاستشارية سنشير إلى أهم نقاطه بعد إبداء مجموعة من الملاحظات بخصوص هذا البلاغ: 1 - تحدث البلاغ عن خطأ فادح يطال مسطرة اتخاذ قرار العفو وهو عدم إطْلاع الملك بملف المجرم، لأنه لا يعقل من رئيس دولة أن يكون غافلا عن جريمة من هذا الحجم مقترفة في حق شعبه بأكمله. 2- يشير مضمون البلاغ إلى أن الملك لا يتحمل أية مسؤولية في قراره، وهو توجه يوحي بانطباع بان الملك لا يخطئ ولا يتحمل المسؤولية، أو أن الملك لا يجوز أن يكون موضوع المساءلة. 3 - لم يتطرق البلاغ إلى جوهر القضية ولم يلب المطلب الرئيسي لدى المحتجين، وهو رد الاعتبار للمغاربة بأن يصدر الملك قرار إلغاء العفو والمطالبة بالقبض على المجرم المهرَّب من حكم العدالة، والمهين لكرامتهم وقيمهم الدينية والوطنية. لذا لا مفر من سحب العفو واتخاذ الاجراءات اللازمة لإخضاع المدان لحكم العدالة. يحيل هذا البلاغ وانعكاساته إلى مجموعة من القضايا الهامة تتعلق بمناقشة الشروط الضامنة لسلامة قرارات القيادة العليا للدولة، للتقليل من جسامة الأخطاء المرتكبة. يجب الاعتراف بأن هذا الخطأ يدل على فشل وضعف البنية الخاصة بالبطانة التي يستند إليها الملك ويدل على أن الدولة المغربية ما زالت بعيدة كل البعد عن التوجهات العلمية الحديثة في تدبير السياسات واتخاذ القرارات الاستراتيجية، للاعتبارات التالية: أولا: إن مواصفات الدولة الحديثة ودولة التدبير التشاركي الديموقراطية لا تقبل البقاء والاستمرار للتصرفات العتيقة وفق المنطق "المخزني" التقليدي الذي لا يعير اهتماما للمنطق العلمي والتفكير العقلاني. ثانيا: لا يعتد، لدى الهيئات المكلفة بتشخيص المصلحة العليا للدولة، بأي قرار استراتيجي إذا لم يستند إلى بحث علمي ميداني تدخلي تحدد بموجبه وبشكل دقيق مسوغاته ومرجعياته الأخلاقية وحيثياته وانعكاساته الإيجابية والسلبية، بعيدا عن الانطباعات الشخصية. ثالثا: لا نعرف في الدول الحديثة والمجتمعات الراقية قائدا ناجحا وهو يتخذ القرار الاستراتيجي وحده أو يوقعه وحده عن هواه أو هوى صديقه دون استشارة مجموعة من ذوي الكفاءة في الموضوع ومن ذوي وجهات نظر مختلفة والتوجهات المختلفة أحيانا. وبالمناسبة تجدر بنا الإشارة إلى مثال آخر من أهم القرارات الاستراتيجية، التي تشكك في فعالية المستشارين المحيطين بالملك وتشكك في الأسس التي يتم بها اختيارهم، نذكر القرار الذي اتخذه الملك مؤخرا بتهنئته للرئيس الذي عينه الانقلابيون في مصر رغم أن جميع دول العالم، باستثناء الدول الأربعة الخليجية، تحفظت وما زالت تراقب الأوضاع هناك بحذر، خصوصا وأن القرار تزامن مع بلاغ حزب الأصالة والمعاصرة الذي لم يخف تماهيه مع التهنئة الملكية للانقلابيين! هل هو موقف تمليه المصلحة الوطنية، أم هو موقف إيديولوجي يعكس وجهة نظر الأطراف المحيطة والمعادية للتيار الاسلامي؟ وفي جميع الأحوال هل تمت الإحاطة بحيثيات هذا القرار الاستراتيجي وانعكاساته على مستقبل علاقة المغرب بقطاع عريض من الشعب المصري؟ ما الذي يمكن أن يجنيه المغرب من هذا التسرع؟ وما الذي سيخسره لو تريث إلى حين اتضاح الرؤية؟ لمَ لمْ يفكر في لعب دور التدخل والتسوية بين جميع الأطراف ويقف في مسافة متساوية بين جميع الأطراف؟ وغيرها من التساؤلات التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار عند اتخاذ مثل هذا النوع من القرارات الاستراتيجية. ومثل هذا القرار أيضا قرار الرعاية السامية لمهرجان موازين السنوي وما يترتب عنه من هدر المال العام والمس بالقيم الدينية والوطنية وتشويه سمعة شخص الملك نفسه مما يُدخله في متاهات سياسية وأخلاقية هو غني عنها بصفته ملكا وبصفته أميرا للمؤمنين...الخ. هي فقظ أمثلة مكشوفة، تُظهر ضعف وهشاشة بنية المحيط الملكي، وتبين أن الدولة المغربية بحاجة إلى أن تعيد النظر ليس فقط في مسطرة قرارات العفو، كما جاء في بلاغ الديوان الملكي، وإنما أيضا في بنية الهيئة الاستشارية وفي جميع الشروط الكفيلة بضمان سلامة طريقة اتخاذ القرارات السامية، وبإبعادها عن الخلفيات المزاجية أو التقديرات التبسيطية. النتيجة المهمة والأساسية أن هذه القضايا وغيرها قد تحيل في مجموعها إلى ضرورة فتح نقاش فوري حول إمكانية تقنين مساطر اتخاذ المؤسسة الملكية للقرارات الاستراتيجية في إطار الإصلاح الشامل لمؤسسات الدولة؛ خصوصا وأن قضية المجرم الاسباني أعادت إلى الواجهة أهمية وخطورة مقولة ريس الحكومة "العفاريت والتماسيح" التي لم تعد تأثيراتها عائقا مزعجا لمشاريع رئيس الحكومة الاصلاحية فقط، بل ها هي تمتد مخالبها إلى التأثير في القرار الملكي وربما تشكل عائقا كبيرا لانخراط المؤسسة الملكية في مشاريع الاصلاح ومحاربة الفساد! وهم عفاريت سيكشف التحقيق الذي أعلنه بلاغ الديوان الملكي عن بعضهم أو عن ضحاياهم. ويبقى السؤال دائما، إذا تم الكشف عنهم، هل سينالون جزاء المدانين بالخيانة العظمى، أم ستنزل عليهم مرة أخرى رحمة العفو الملكي بردا وسلاما؟!