إن الحديث عن علاقة الحكومة بالبرلمان يجد أهميته في كونه يأتي في سياق رهانات دستور 2011 التي تتأسس على متطلب إحداث نوع من التوازنات بين السلطات خصوصا تجسير الفجوة وردم حالة اللاتوازن بين الحكومة والبرلمان، خاصة وان مضامين الدستور حملت جملة من التعديلات التي من شانها تحقيق هذا الهدف والتي تجلت في التوسيع من اختصاصات البرلمان والتخفيف من مظاهر العقلنة البرلمانية كتوليفة دستورية يمكن الاعتماد عليها في إعادة الاعتبار للبرلمان خصوصا فيما يتعلق بوظيفته التشريعية ،إلا أن تنزيل هذه المقتضيات يعرف مجموعة من الإكراهات والمعوقات تتشكل بصفة رئيسية من سلوك وطريقة تعامل الحكومة مع البرلمان ولعل التنازع حول القانون التنظيمي للجان التقصي والحقائق خير دليل على ذلك ،كما إن هذه العلاقة المختلة لصالح الحكومة جاءت كنتاج جملة من العوامل التي لم يستطع المقتضى الدستوري تفكيكيها ،والتي يمكن التفصيل فيها على النحو التالي: أولا:عوامل رجحانية سلطة الحكومة على سلطة البرلمان. إن الحديث عن عوامل الرجحانية في علاقة الحكومة بالبرلمان بمعنى استحضار واستكشاف جملة من الأدوات والمقومات التي تؤول إلى تمكين الحكومة من عناصر التفوق والهيمنة،والتي تجعل منها بمثابة "ضابط إيقاع العمل البرلماني" وهي التي تحدد مضامينه وسياقاته وتجعل من البرلمان مؤسسة تابعة وغير مستقلة في فعلها ،والتي تتبدى من خلال العناصر التالية: -تأثير العامل السياسي:الصراعات الحزبية/الحزبية. إن تحليل بنية وتفاعل مكونات الأغلبية-المعارضة ،يتبين أن الصراعات الحزبية الضارية بين مختلف الأحزاب تلقي بضلالها على مستوى الاعتمال البرلماني حيث تشتد وتؤثر في صناعة القرار البرلماني ،وهذا الوضع يلعب لصالح الحكومة حيث توظف أغلبيتها للإجهاز والهيمنة على حقوق المعارضة ،و يكون الهدف الأساسي ليس فقط ترسيم السيطرة الحكومية على مداخل ومخارج العمل البرلماني من خلال التحكم المطلق في التشريع وإنما اعتماد هذه الإستراتيجية حتى من اجل لجم بعض الأحزاب المنضوية في المعارضة وإضعافها وإحراجها أيضا لدى الرأي العام الوطني ،ففي حالات كثيرة اعتبر العديد من البرلمانيين بخصوص الفعل الرقابي مثلا ،أن الصورة أضحت معكوسة على اعتبار أن الحكومة هي من يراقب البرلمان وليس العكس ،وبالتالي حتى إن المعارضة التي يواجهها مثلا حزب العدالة والتنمية داخل البرلمان أو من خارجه يتم تصريفها داخل البرلمان من خلال مواجهة مباشرة مع حزبي الاتحاد الاشتراكي والأصالة والمعاصرة ،كما إن الأدوات الدستورية التي تملكها الحكومة في مواجهة البرلمان تستعمل أيضا من اجل ترويض هذه المعارضة وإضعافها وفقدها كل آليات العمل والاشتغال،وخلق انطباعات توكيدية لدى الجمهور قوامها أن المشكل ليس في سلوك الحكومة وإنما هو بالدرجة الأولى في مكونات المعارضة 2-الإقصائية بدل التشاركية. يتبين من خلال إتباع مسارات العمل الحكومي وطريقة تعاملها مع البرلمان وخصوصا فيما يتعلق بمكونات المعارضة تلك النظرة الاقصائية التي تؤطر سلوكياتها حيث لا تعتبر البرلمان كشريك فعلي في العملية التشريعية وإنما مجرد غرفة لتسجيل القوانين وإضفاء الشرعية على التشريع الحكومي من خلال استثمارها عامل الأغلبية لصالحها من اجل كبح جماح المبادرات البرلمانية وزرع نوع من الإحباط في صفوف المعارضة البرلمانية ،فشعار التشاركية بقي بعيدا عن الميدان البرلماني وحلت محله أيقونات الاستئثار الحكومي ،فالحكومة تستثمر الأدوات الدستورية وعناصر التفوق الممارساتي من اجل إضعاف البرلمان أكثر وذلك من خلال صد الأبواب حتى في وجه المعارضة وعدم تمكينها من ممارسة الحد الأدنى من حقوقها الدستورية . إن الكثير من القوانين ظلت بمنأى عن التشاركية الفعلية حيث أخذت هوية حكومية وبنوع من الاستئثارية المطلقة على الرغم من أن الحكومة كانت تعلن دائما بأنها تعمل بمنهجية تشاركية ،والتي لم تخرج عن إطارها اللفظي /الدعائي. وما كان يمكنها من المضي قدما في سلوكها الاقصائي هو استثمار أغلبيتها في كثير من المحطات البرلمانية من خلال تمرير مشاريعها القانونية آو عن طريق الإجهاز عن المبادرات البرلمانية ،فسلاح الأغلبية مسلط في وجه المعارضة باستمرار لتقزيم دورها بما يتوافق مع مخططها التشريعي ،فالحكومة تنظر إلى المعارضة نظرة تحمل في طياتها معاني الصراع والإقصاء وليس بمنطق التكامل في سبيل صناعة القرار التشريعي الجيد ،وترى إن المعارضة لم تبلغ بعد "سن الرشد التشريعي"،الذي يجعلها في مستوى الندية التشريعية مع الحكومة لعوامل كثيرة أبرزها العوامل السياسية والتقنية. -المخطط التشريعي الحكومي كمدخل لترسيم الهيمنة على التشريع. إن منطق الأشياء وروح الدستور يفرض أن يملك البرلمان مخطط تشريعي يكون محض اتفاق وتشارك بين مختلف المكونات والفرقاء البرلمانيين(أغلبية/معارضة)، باعتباره السلطة التشريعية ،فهو الأصل في التشريع ،لكن أن تملك الحكومة مخطط تشريعي، فهذا يثوي في حيثياته ومكمنه عناصر التدليل على تفوق التشريع الحكومي على التشريع البرلماني، مع إخضاع الإرادة التشريعي للبرلمان للإرادة الحكومية ،فالمخطط يعد صك وسند لإخضاع العملية التشريعية للمنظور الحكومي، حيث تكون هي المبادرة والفاعلة بينما البرلمان يقف موقف المتفرج ،خصوصا وإن الحكومة تحتج به للإجهاز على حقوق البرلمان في تقديم المقترحات التشريعية ،بمعنى أن البرلمان في عمله التشريعي لا يجب أن يخرج عن سياق هذا المخطط ،وهذا الأخير في حقيقة الأمر يزيد من محنة البرلمان المغربي في أن يكون في مستوى تطلعات ورهانات التوسيع الدستوري لاختصاصاته حيث يكون دون مستوى تجسيدها على أرض واقع الممارسة البرلمانية و يستمر في موقع لعب دور المشرع الثانوي/الاستثنائي. والملاحظ أن الحكومة تحتج دائما بالمخطط التشريعي في مواجهة احتجاج البرلمان بخصوص التنازع حول المبادرات التشريعية كما حصل مثلا مع قانون الحق الحصول على المعلومات ،بما يعني أن المخطط التشريعي يجب أن يلتزم به البرلمان كيفما كانت طبيعة هذا المخطط ودرجة تأثيره على المبادرات البرلمانية . -تقنية السطو على التشريع. يعتبر تاريخ الممارسة البرلمانية مجالا حافلا بحالات تطاول وسطو الحكومة على التشريعات التي يكون مصدرها البرلمان ،خصوصا وأن تحديد مجالات الاختصاص لكل من البرلمان والحكومة بالصعوبة بما كان ،ولا يمكن حصرها على الرغم من تعداد اختصاصات البرلمان إلا انه مع عمومية النص في حالات كثيرة يبرز الخلاف والشقاق ومما يزيد من الأمر صعوبة وتعقيدا امتلاك الحكومة حق الدفع بعدم قبول آي اقتراح يدخل في مجال اختصاصها ،مما يجعلها في كثير من الأحيان تتعسف في استعمال هذا الحق بالإضافة إلى الاعتماد على أغلبيتها ودفعها لتقديم مقترحات تتوافق مع أجندتها التشريعية وبهدف تهميش الدور التشريعي للمعارضة البرلمانية ،ففي كثير من الأحيان تلجأ الحكومة إلى عنصر المباغتة أيضا للتشريع في مجال من اختصاص البرلمان ،أو ممارسة الضغط على البرلمان لسحب مقترح قانون مما يجعل البرلمان بفقدالقدرة والمبادرة التشريعيتين. ويبقى المثال الجلي هو التنازع على القانون التنظيمي للجان تقصي الحقائق وكذلك الشأن فيما يتعلق بقانون الحق في الحصول على المعلومات. -قوة تقنية الحكومة أمام ضعف خبرة البرلمان. إن مقارنة خبرة الحكومة بخبرة البرلمان تفضي إلى استكشاف ذلك البون الشاسع والواسع من حيث الإمكانيات والوسائل الموضوعة رهن كل من الحكومة والبرلمان،وعلى هذا الأساس لا يمكن الرهان على الرفع من الاقتدار التشريعي للبرلمان في ظل ضعف مقومات التمكين والتأهيل ،خاصة وان صناعة التشريع أضحت عملية بالغة التعقيد والتقنية والبرلمان المغربي لا يملك عناصر المواكبة بفعل عوامل ذاتية راجعة إلى نوعية البرلماني باعتباره صانع القرار التشريعي وضعف الإمكانيات خاصة المستشارين القانونيين، وأيضا إمكانية الاستعانة بالخبراء و المراكز المتخصصة ،أو ما يسمى بيوت الخبرة البرلمانية ،عكس الحكومة التي تجد في الأمانة العامة للحكومة السبيل للهيمنة والاستئثار بصناعة التشريع مادام البرلمان يعاني العوز من حيث القدرة والخبرة في المجال التشريعي ،فالخبرة هنا تكون عامل قوة لترجيح كفة الحكومة على حساب البرلمان حتى وان كانت هذه التشريعات تفتقد إلى مقومات الصناعة والصياغة الجيدتين. -انشغال البرلمانيين بالسجال السياسي بدل الاجتهاد التشريعي. إن الملاحظة الأساسية التي يمكن استقاؤها من خلال تتبع مسار العمل البرلماني هي خفوت الدورين التشريعي والرقابي للبرلمانيين ،والتواري خلف المبادرات الحكومية والانشغال أكثر بمجالات السجال والجدال السياسيين وهي مسالة ليست بجديدة،وإنما تشكل الاستمرارية لردح من الزمن البرلماني المغربي،حيث نجد أن الدافعية للعمل تنقص وينخفض منسوبها عندما يتعلق الأمر بممارسة العمل الرقابي ويزداد الأمر بخصوص الفعل التشريعي،حيث يبقى الملاذ بالنسبة لجملة من البرلمانيين هو الدخول في المهاترات السياسية التي غالبا ما تنتهي بالصخب والعويل،مما ينتج عنه البعد والناي عن مقاربة القضايا الحقيقية للعمل البرلماني،وأيضا إشكالات السياسات العمومية ،فهذا السلوك يعبر عن عقدة النقص التي تتشكل لدى البرلماني جراء عدم القدرة على تأكيد ذاته في الفعلين التشريعي والرقابي ،حيث تظل هذه السجالات غير المجدية والمقوضة للتأسيس للعمل البرلماني الجيد بمثابة الدور البديل الذي لا يكلف البرلماني أي جهد أو مثابرة عكس العملين التشريعي والرقابي اللذين يستوجبان التنقيب والاجتهاد والإبداع لمسايرة وتيرة العمل الحكومي وبالتالي يتحول البرلمان إلى مجرد "مكلمة"،وليس كنسق مؤسساتي ووظيفي لصناعة القرار البرلماني الجيد. ثانيا:في دلالات التنازع حول القانون التنظيمي للجان تقصي الحقائق. إن مسالة التنازع بين الحكومة والبرلمان حول مجالات الاختصاص مسالة ليست بجديدة بل لها جذور موغلة في مختلف الولايات البرلمانية التي عرفها المغرب،لكنها ظهرت بشكل حاد مع القانون التنظيمي للجان تقصي الحقائق ،وفي روح هذا التنازع تنجلي وتنبجس جملة من الاستنتاجات والتي يمكن استظهارها فيما يلي: -غياب التنسيق بين الحكومة والبرلمان في المجال التشريعي وأيضا التنسيق المؤسساتي ،وهذا الأمر يتبين من خلال تخبط الوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان الذي حضر اجتماع لجنة مناقشة مقترح القانون التنظيمي للجان تقصي الحقائق ،والتخبط الظاهر أيضا على مستوى تصريحاته المتناقضة . -التعنت الحكومي والاستمرارية في مناقشة والمصادقة على مشروع القانون التنظيمي مع علمها بوجود مقترح قانون برلماني بخصوصه ،خاصة وان مصدره هو احد المكونات الأساسية للأغلبية الداعمة لها وهو فريق العدالة والتنمية وبالمشاركة مع فريق التجمع الوطني للأحرار. -استمرارية الحكومة في تهميش الدور التشريعي للبرلمان ليس فقط من خلال فرض الهيمنة على المجال التشريعي، وإنما تجريد البرلمان من حقه في التشريع وهو اختصاص أصيل للبرلمان بمقتضى نصوص الدستور ،أي الاستمرار في تكريس نفس الوضع السابق عن دستور 2011،وهو أن الحكومة هي المشرع الأصلي بينما البرلمان هو المشرع الاستثنائي. -تكتل الأغلبية والمعارضة في مواجهة هذا السلوك الحكومي آو بمعنى آخر تسجيل حالة "تمرد الأغلبية"حيث اعتبر "عبد الله بوانو "رئيس فريق العدالة والتنمية بان اجتهاد الحكومة في تجريد البرلمان من اختصاص تقديم مقترحات القوانين التنظيمية بأنه تأويل خارق وتفسير غير ديمقراطي للدستور ،وهو يشكل مجالا للتدليل على غياب حتى التنسيق بين الحكومة وأغلبيتها البرلمانية،و لكنه بالمقابل يمكن أن يشكل منعطف ايجابي في القطع مع أنموذج الأغلبية الآلية، و بالتالي إمكانية التأسيس للأغلبية التي تنتصر لمنطق تطوير وتأهيل العمل البرلماني بدل فرض ونهج نوع من "الطاعة العمياء" للحكومة. - إن تمسك الحكومة بمشروع قانون لجان تقصي الحقائق تتحكم فيه خلفية سياسية مفادها أن الحكومة وبعد اتهامها بالنكوص في إخراج القوانين التنظيمية إلى حيز الوجود ،تريد أن تجعل من مسالة الاستئثار في المبادرة بمشاريع القوانين التنظيمية كصك لإعادة الاعتبار أمام الرأي العام الوطني خصوصا وهي على مشارف الانتهاء من الولاية الثانية . ثالثا:نقد في دفوعات الحكومة ودحض حجيتها. شكلت نازلة التنازع حول الاختصاص في القانون التنظيمي للجان تقصي الحقائق مصدرا للسجال السياسي والقانوني وأسالت الكثير من النقاش ،والمثير في الأمر سلوك الحكومة في تعاملها مع هذه المسالة وإصرارها على التمسك باختصاص ليس من اختصاصها في سابقة من نوعها تعلن من خلالها توقيف التعامل مع البرلمان فيما يتعلق بالقوانين التنظيمية ،ولعل ما يثير في الموضوع ضعف منطق الحجاج القانوني في دفوعات الحكومة والتفسير غير الديمقراطي للدستور. ويمكن اعتبار أن الدفوعات والحيثيات التي اعتمدتها الحكومة في اعتبار أن مسألة المصادقة على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بلجان تقصي الحقائق يدخل في صلب اختصاصها بالاستناد إلى الفصل 86 من الدستور وعلى اعتبار أن هذه المرحلة تعتبر تأسيسية حيث تستوجب نوع من التشارك في اعتماد القوانين التنظيمية ،مجردة من المصداقية والمعقولية وتنطوي وتعبر على فعل يطغى عليه البعد السياسي في التأويل وليس الدستوري ،فمادام أن هناك مقترح مشترك بين حزب التجمع الوطني للأحرار وحزب العدالة والتنمية ،والمسطرة التشريعية قائمة وسارية وليس هناك تطاول من البرلمان على اختصاص الحكومة، وإنما يعد من صميم اختصاصه ،فليس من الناحية القانونية والأخلاقية أيضا ما يعطي الحكومة الحق في التطاول على هذا الاختصاص ومزاحمة البرلمان في هذا الاختصاص وتجريده من هذا الحق وتحت أي مسوغ قانوني أو سياسي . فبالعودة إلى الفصول 84و85و86 من دستور 2011،يتبين أن المبادرة في مشاريع القوانين التنظيمية مشتركة بين الحكومة والبرلمان ،على الرغم من أن الفصل 86 يتحدث عن مشاريع القوانين التنظيمية فقط دون إيراد وتضمين عبارة مقترحات القوانين التنظيمية ليكون منسجما مع روح الفصلين 84و85،وهو ما اعتمدته الحكومة للقول بان القوانين التنظيمية من اختصاصها فقط دون البرلمان ،وهذا يتعارض مع مضمون الفصلين 84و85 ، فالفصل 85 ينص "...لا يتم التداول في مشاريع ومقترحات القوانين التنظيمية من قبل مجلس النواب، إلا بعد مضي عشرة أيام على وضعها لدى مكتبه، ووفق المسطرة المشار إليها في الفصل 84 ; وتتم المصادقة عليها نهائيا بالأغلبية المطلقة للأعضاء الحاضرين من المجلس المذكور ; غير أنه إذا تعلق الأمر بمشروع أو بمقترح قانون تنظيمي يخص مجلس المستشارين أو الجماعات الترابية، فإن التصويت يتم بأغلبية أعضاء مجلس النواب..."،حيث تم الحديث عن مشاريع ومقترحات القوانين التنظيمية بمعنى انه اختصاص يتوزع بين الحكومة والبرلمان على حد سواء وبالتالي وجب تدارك هذا الخطأ وتصويبه بما يجعل هذه الفصول التي تحدثنا عنها منسجمة . وحتى من خلال صوغ موجب التشاركية والتوافقية في صناعة التشريع خلال هذه المرحلة التأسيسية التي تنبني على فروض التنزيل الديمقراطي للدستور ،فالملاحظ أن الحكومة تتعامل مع هذا المعطى بنوع من الانتقائية والتفاضلية لصالحها ،فهيى تتحجج بالاختصاص عندما يتعلق الأمر بمجال من مجالها لحظة وجود احتجاج برلماني خصوصا من مكونات المعارضة التي تتهمها بانفرادها واستئثارها بالتشريع خصوصا عندما يتعلق الأمر بتشريعات في غاية الأهمية ،بينما تتحجج بالتشاركية والمرحلة التأسيسية في محاولات تطاولها على الاختصاص البرلماني خصوصا في حالة القانون التنظيمي للجان تقصي الحقائق. وعلى اعتبار أن لجان تقصي الحقائق من الآليات الرقابية الفعالة للبرلمان في ممارسة الرقابة على الحكومة ،أي باعتماد المعيار العضوي والموضوعي معا،وبحكم أنها مرتبطة بممارسة اختصاص برلماني خالص أي أن البرلمان هو المخول باستعمال هذه الآلية الرقابية ،وهي آلية تندرج أيضا ضمن ضمان نوع من التوازن بين الحكومة والبرلمان ،وبالتالي يكون البرلمان سيد مجاله في تدبير فعله الرقابي وليس الحكومة هي المعنية بتحديد طريقة إنشاء هذه اللجان وتكوينها وطريقة تسييرها ،لأن ذلك يشكل تدخلا صريحا في إحدى الوظائف الأساسية التي يمارسها البرلمان على الحكومة وهي وظيفة الرقابة والتي تشكل لجان تقصي الحقائق إحدى أدواتها الجوهرية. وعليه فان القانون التنظيمي للجان تقصي الحقائق يكتسي خصوصية عن باقي القوانين التنظيمية الأخرى لأنه يندرج ضمن صلب علاقة البرلمان بالحكومة ،والمنطق العقلي والبرهاني يقتضي عدم تفويته إلى الحكومة والتي من خلال سلطتها يمكن أن تفرغه من محتواه وتعتمده بما يجعلها بمنأى عن الضغط الرقابي البرلماني. كما إن احتجاج الحكومة باستعمال الفصل 79 من الدستور من خلال الدفع بعدم قبول أي مقترح برلماني يندرج ضمن مجال اختصاصها فيه نوع من المغالاة والفهم غير السليم لتوظيف هذا الفصل ما دام الأمر يتعلق باختصاص برلماني بمقتضى نصوص الدستور ،خصوصا وان القانون التنظيمي يتعلق بتنظيم مجال الرقابة البرلمانية والبرلمان هو المعني الأول والأخير بقانون لجان تقصي الحقائق ،خصوصا وان الحكومة تملك إمكانية التنسيق مع أغلبيتها من اجل إحداث تعديلات بخصوص هذا المقترح البرلماني إن رأت أنه يثوي ما من شأنه أن يمكن البرلمان من التعسف والشطط في استعمال هذه التقنية الرقابية. ويعتبر هذا التنازع في مكمنه وأبعاده سياسيا ومفتعلا ،فالاحتجاج بالفصل 79 يكون عندما يتعلق الأمر باعتداء صريح على الاختصاص الحكومي ،وفي هذه النازلة الأمر بين وواضح ولا لبس فيه ولا يحتاج الأمر إلى الاحتكام حتى إلى المجلس الدستوري ،فمن الناحية الأخلاقية والقانونية وجب على الحكومة ترك سير المسطرة التشريعية لهذا القانون التنظيمي إلى نهايتها . والملاحظ أيضا استثمار الحكومة لسلاح ما ينص عليه النظام الداخلي لتعطيل مسطرة مناقشة واعتماد القانون التنظيمي للجان تقصي الحقائق حيث طالبت الحكومة بتفعيل المادة 120 من النظام الداخلي التي تنص : "يمكن للمجلس قبل الشروع في التصويت على مجموع مشاريع أو مقترحات قوانين، أن يقرر مناقشة ثانية حول مجموع النص أو جزء منه، ويتم ذلك بطلب من الحكومة أو اللجنة المعنية بدراسة النص أو رئيس فريق أو عشر أعضاء المجلس.تجري المناقشة الثانية حتما إذا طلبتها الحكومة أو اللجنة المختصة.يتم إرجاع النصوص موضوع المناقشة الثانية إلى اللجنة المختصة التي يتعين عليها أن تقدم تقريرا جديدا.يعتبر رفض المجلس للتعديلات المقدمة خلال المناقشة الثانية بمثابة تأكيد للقرار الذي اتخذه المجلس خلال المناقشة الأولى". وباستجابة مجلس النواب لطلب بنكيرانّ تكون الحكومة قد نجحت في تعطيل مبادرة برلمانية في انتظار الاحتمالات الممكنة التي تتجه إلى تغليب تأويل الحكومة للفصل 86 من الدستور الذي يطلق يدها في التشريع على القوانين التنظيمية وتمريرها بالمجلس الوزاري. إن استمرار الحكومة في تهميش دور البرلمان في التشريع من شأنه أن يؤدي إلى نشوء وبروز الكثير من الاعتلالات سواء على مستوى خرق مبدأ الفصل ما بين السلطات وتكريس سمات التنافر والصراع بدل التعاون بين الحكومة والبرلمان، مما يكون له وقع التأثير على النسق السياسي في مجمله والعمل البرلماني بخاصة،وذلك من خلال تكريس الأحادية على مستوى صناعة التشريع وحصرها في جهة الحكومة ،كما إن هذا التوجه الحكومي من شأنه أن يزرع بذور الإحباط في البرلمانيين ويثبط همتهم وعزيمتهم في المبادرة التشريعية ويجعلهم في حالة من الانتظارية . على سبيل الختم. إن مختلف هذه المعطيات الوقائعية /الاستدلالية على تفوق سلطة الحكومة على سلطة البرلمان تفيد في فهم معطى أساسي وجوهري وهو أن العلاقة بين الحكومة والبرلمان مازالت خارج عن نطاق أدوات الضبط التي جاء بها دستور 2011،حيث عناصر الاستمرارية قائمة وثابتة ،ولم يستطع الناظم الدستوري تفكيكها بفعل موانع مختلفة ومتباينة من حيث التأثير والتي يلعب فيها سلوك الحكومة دورا محوريا ،حيث قواعد المنافسة البرلمانية تلعب لصالح الحكومة،وتزيد من متاعب البرلمان نحو تأكيد الذات وإعادة الاعتبار،والوضع يوحي أيضا في كثير من الأحيان أن هناك اقتناع من لدن البرلمان والبرلمانيين بهذا الدور المحدود في ظل وجود سيل من الإكراهات الذاتية والموضوعية ،والتي تندرج وتصنف في إطار ما هو بنيوي ووظيفي وسوسيولوجي وقانوني /إجرائي. فالحكومة مدفوعة إلى المساهمة في تطوير الدور التشريعي للبرلمان وليس إلى عرقلته وكبحه، وعلى أساس أن يقوم التنافس التشريعي على قواعد واضحة تنضبط للناموس الدستوري والقانوني وتحتكم إليه ،مع الالتزام بروح التشاركية والتوافقية في الفعل التشريعي وإكسابه مقومات الحكامة الجيدة،والناي بالعمل التشريعي عن الإسقاطات السياسوية في تفسير وتأويل المقتضى الدستوري ،وركوب منطق وروح التأويل الديمقراطي الذي سيساهم حتما في ماسسة العلاقة بين الحكومة والبرلمان في الإطار الذي يخدم تجويد القرار التشريعي.