لما خرجت من السجن بعد عقدين ونيف من الزمن، كنت خلالهما محسوبا على أهل القبور، كان علي أن أسوي وضعيتي الإدارية وأن أسعى للحصول على بطاقة التعريف الوطنية لكي أكون بالحق والحقيق، واحدا من المواطنين المغاربة، السعداء بالانتماء إلى أجمل وطن في الدنيا، بعد أن مررت من رحلة الصراط الطويلة، وانفلت كمارد من قمقم مدفون في أبشع مكان على الأرض. وحين قدمت إلى المسؤول جميع الوثائق، تركت خانة الهوية فارغة فسألني عنها، وهنا احترت بماذا أجيب. هل أقول معتقل سابق؟ لا... أنا لست معتقلا بدليل أني حكمت بخمس سنوات سجنا وقضيت بالتمام والكمال عشرين سنة وثلاثة أشهر وأسبوعا وستة أيام وبضع ساعات، وتم العفو علي بموجب ظهير شريف، فأصبح دفتر سوابقي العدلية أنقى من الثلج والبرد... هل أقول: ضابط سابق؟ لا... أنا مشطب علي من سلك الجندية وصرت من المغضوب عليهم إلى يوم الدين. هل أقول متقاعد؟ متقاعد من ماذا؟ من الجامعة الوطنية للدراسات العليا في فنون الموت البطيء؟ هل أقول فلاح؟ ومن أين لي ادعاء ذلك وليس لي بقر ولا غنم ولا معز ولا حمير؟ إذن لم يبق لي مناص من "بدون"... ماذا تعني بدون؟ بدون هوية؟ بدون ماض ؟ بدون مستقبل؟ بدون حياة؟ بدون أمل؟ بدون، تعني كل هذا جميعا... صارت هويتي "بدون" لمدة خمس سنوات. وذات يوم، سافرت إلى الفنيدق مع شرذمة من الأصحاب، يوم كان الفنيدق قبلة تستقطب كل هواة التجارة الإسبانية الخارجة لتوها من مدينة سبتة المغتصبة. تبضع الأصدقاء، وملؤوا سيارتهم حتى التخمة، فلم يبق منها شبر واحد إلا واحتل بإزار أو جبن أو شكولاته. وفي طريق الرجوع، شرعوا في وضع أيديهم على قلوبهم كلما مروا من حاجز للدرك. وكان الراكب على يمين السائق قد وضع في يمناه، ككل مغربي محترم يسمي الرشوة إتاوة، ورقة من فئة 200 درهم تحسبا لكل اعتراض من أصحاب البذلة الرمادية. مر كل شيء بسلام، ولم يبق سوى حاجز واحد في مدخل العرائش. لكن هناك، وقعت الواقعة. أخرجونا من السيارة جميعا، وصفر أحدهم تصفيرا حادا وهو يهز رأسه بحركة دائرية تفيد أن الخطب بالنسبة إلينا جلل. نفحه الراكب بالورقة، فلما رآها استصغرها وأعرض، ثم تقدم إلي أنا وكنت لابسا جلبابا كالحا يشبه جلابيب "الشناقة " في سوق الأكباش، فقال: - هات بطلقة تعريفك. فلما ناولته إياها زاد صفيره حدة وقال: فيو ...فيو... "بدون"... أفي مثل سنك تكون مهنته بدون؟ إذا كنت "بدون" فأنت إذن مهرب... قال له السائق مستعطفا وهو يهم بدس يده في جيبه: لن تبق إلا على خاطرك أيها "الشاف" ... نادى هذا على رئيسه الذي كان منشغلا مع صاحب شاحنة فقال له ساخرا: تعال وانظر ما خطب هؤلاء الذين رحَّلوا الفنيدق بما فيه... جاء المساعد، وما أن رآني حتى أخذه نوع من الذهول، دقق النظر في وجهي طويلا وقال: هل أنا أحلم؟ هل أنت فعلا الضابط فلان؟ وما أن أجبت بالإيجاب، حتى اندفع يعانقني عناقا حارا وهو يكاد يجهش بالبكاء. الحمد لله على سلامتك يامون "ليوتنان"، أنا سعيد بخروجك حيا من ذلك البئر... الحي يرتجى... أنا أحد تلامذة أخيك الذي كان مدربا في مدرسة الدرك... أنت ضيفي هذه الليلة... تنفس الأصحاب الصعداء، وغمغم أحدهم مسرورا وهو يغمز غمزة ذات معنى: الحي يرتجى... وخيل لي أن الدركي الذي كان يصفر قبل حين، قد بدأ يضرب يدا بيد تأسفا على الورقة الزرقاء التي فلتت بأعجوبة من يده... في الغد، رأيتني أبدل بطاقتي الوطنية، وعوض "بدون"، وضعت فلاح... وحين كتبت كتابي واستدعيت لمعرض الكتاب بباريس، قال لي أحد الكتاب الجزائريين مازحا وهو يطالع بطاقة تعريفي: يابن عمي، لقد أخطأت العنوان، هذا معرض كتاب وليس معرض أبقار.. وبعد رجوعي إلى المغرب، رأيتني أبدل بطاقة تعريفي من جديد بإشارة من مدير دار طارق للنشر، وهكذا عوض فلاح، وضعت في خانة المهنة كاتب... استكثرت على نفسي هذا المهنة، وخجلت منها كثيرا. فللا رصرت كلما سألني أحد رجال الشرطة في المطار عن أي كاتب أنا؟ أجيب فورا: كاتب عمومي...