رجع علي من عمله الشاق متعبا لا تكاد رجلاه تحملانه من شدة العياء. وبعد أن اطمأن على حالة أبنائه الأربعة الراجعين من المدرسة، حضّر شيئا من الطعام فوضعه في سلة ثم أخذ حافلة متهالكة وتوجه قصدا إلى مستشفى الولادة حيث ترقد زوجته التي وضعت بالأمس طفلها الخامس. ما أن اقترب من العنبر الكبير ذي الجدران الرطبة المهترئة حتى لطمت أنفه رائحة زاكمة هي مزيج من عرق ودم ودواء. في المدخل، استقبلته الممرضة السمينة ذات الأرداف الغليظة بنظرة شزراء تقطر كراهية واحتقارا. قال في نفسه مشيحا عنها بوجهه وهو يبادلها أحاسيسها بأسوء منها: لقد علفت هذه الفيلة في مسارها المهني قناطير من جبنة البقرة الضاحكة وآلاف من علب "دانون"، وبلعت من البيض المسلوق ما باضته ألف دجاجة ودجاجة، كل ذلك عن طريق ابتزاز الحاملات والوالدات. ولما وجدت جيوبي أنشف من قلبها ناصبتني عداءا مجانيا... اقترب من زوجته فطبع قبلة على جبينها ثم قبل طفلته الوليدة وجلس على كرسي بمقربة منهما بعد أن سلم يسارا ويمينا على جارات زوجته الوالدات والزائرات. في هذه اللحظة ارتفع بكاء الرضع دفعة واحدة وكأنهم كانوا على اتفاق مسبق، فضج العنبر الواسع بالصراخ وكأنه زريبة التقى فيها الخرفان بأمهاتهم بعد يوم من الفطام. قالت له زوجته بصوت واهن: قال لي الطبيب بأني لن أخرج قبل أربعة أيام بسبب النزيف الحاد الذي لم ينقطع منذ أن وضعت، لذا أرجوك أن تصرف مائة درهم على أوراق من فئة عشرة وعشرين درهم وأن توافيني بها حالا لأنفح بها من يهمهن الأمر. أجابها ثائرا مغتاظا: والله لن أعطيهن رهما واحدا وليكن ما يكون... فهل يعتقدون أنهم بالوصلات الإشهارية سوف يقضون على الرشوة في هذه البلاد؟ لما عاد إلى البيت، أشعل التلفزة فوجد في إحدى القنوات الفرنسية ريبورتاجا يشد الانتباه: غرفة الانتظار في عيادة. غرفة شاسعة فاخرة تسطع نقاء وبياضا وكأنها قمة جبل تعمم بثلج لم تطأه أبدا قدما إنسان. الممرضات الشقراوات يتهادين في غدوهن ورواحهن وكأنهن فراشات تخفق بأجنحتها تحت شمس ربيع مترنح سكران. من خلال النوافذ المشرعة يتراءى بساط أخضر لعشب رائق مشذوب بعناية فائقة. صمت رهيب يخيم على أسرة قدمت بقضها وقضيضها لمرافقة حبيبة عزيزة أرغمها وهن الشيخوخة على تسليم جسمها المنهك لمشرط الجراح. الزوج يخفي قلقه العميق خلف نظارات شمسية داكنة وهو يذرع الغرفة جيئة وذهابا. الزوجة متهالكة على أريكة وثيرة وقد بدت مروعة الوجه بعد أن جفت من عينيها الدموع. في حضنها طفلة ملتاعة أشبه ما تكون بدمية "باربي". باقي أفراد الأسرة، انتصبوا كتماثيل مشرئبة بأعناقها نحو باب بعينه في انتظار النبأ العظيم الذي سيطوح بها في مفازات الحزن السحيق أو سيحلق بها في سموات الفرح المجنح... توتر شديد يزداد مع كل دقيقة ثقيلة تمر. ينفتح الباب فجأة على طبيب أشيب يهتف في المنتظرين ببسمة عريضة : أبشروا ... لقد نجت محبوبتكم... ينتفض الجميع دفعة واحدة ويرتمى بعضهم على بعض متبادلين التهاني ومهللين بالخبر السعيد. يقول رب الأسرة للطبيب بصوت مرتعش: هل يمكن لنا أن نراها يا دكتور؟ إن شئت ذلك. ولكنها لا زالت مخدرة. يدخل الجميع إلى قاعة العمليات على رؤوس بنانهم بقلوب واجفة ويتحلقون حولها بعيون تقطر حنانا وعشقا... الكلبة ليكة ممددة على جنبها، مسبلة العينين كعروس خجلانة وقد لف بطنها الأبيض بضمادات خرج منها شيء من الدم. مدت الزوجة وجهها وقبلتها على فمها في حنان فياض استقطر منها آخر دمعاتها الحارقة. هيستيريا من الفرح تأخذ الأهل والأحباب وكأن الأمر يتعلق باستقلال وطن... بعد هذا المشهد المثير، ينتقل الريبورتاج التلفزيوني إلى مقبرة للكلاب يزورها أحبابهم بأكاليل الورود والأزهار يضعونها على قبور رخامية تحمل إسم الراحل العزيز مع صورته ويومي ولادته ووفاته... هنا، أحس بالإحباط فأقفل التلفزيون وضرب يدا بيد، ثم غمغم في نفسه وهو يهز رأسه بمرارة: لكم الله ياأطفالنا في "البراريك" وفي العراق وسوريا وفلسطين والصومال ... اللهم ارزقنا حظ بعض من ولدوا في الغرب كلابا يارب...