الشحاذة ظاهرة اجتماعية بغيضة تنخر أوصال المجتمع وتقتل فيه الكرامة وتلغي الإنسانية وتعطي عنه في الخارج صورة مشوهة تثير التقزز والاحتقار. وليس الفقر والعوز عيبا ما دام الله عز وجل قد قدر بين الناس أقواتهم ورفع بعضهم فوق بعض درجات على أن لا يبخل الذين فضلوا بالزكاة على من دونهم، ولكن العيب كل العيب هو أن يهدر المرء ماء وجهه ويمد يده طالبا وملحا في الطلب، بينما هو قادر على أن يأكل من عمل يده وتحصيل كفايته بعرق جبينه، متأسيا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أكل أحد طعاما خيرا من أن يأكل من طعام يده، وإن نبي الله داوود كان يأكل من طعام يده. "لقد تناسل بيننا الشحاذون كما يتناسل الذباب في المزابل، واختلط فيهم الحابل بالنابل فلم تعد تدري من هو المحتاج ومن هو المحترف، ومن هو المريض ومن هو المتمارض، وصارت لهم حيل في منتهى المكر يصعب على المرء استكشاف مسالكها، وطرق غاية في الدهاء يعسر على أي كان فك شفراتها، بها يستدرون عطف الناس ويستجلبون شفقتهم إلى أن يجعلوا أكبادهم تنصهر كمدا وتعاطفا، فيقبلون على البذل والعطاء وفيهم من هو أولى بالصدقة منهم. وحيثما وليت اليوم وجهك وجدتهم يعترضون سبيلك ويعرقلون مشيتك، على قارعة الطريق، وفي مدارات السيارات، وفي محطات القطار والحافلات ومداخل المستشفيات والمؤسسات... ظاهرة مخجلة صار المغرب يتميز بها على باقي الدول المغاربية وكأن مسؤولينا باتوا عاجزين عن احتوائها وإيجاد حلول ناجعة لها. وهذه الظاهرة المزرية، هي في حقيقة أمرها معيار رئيسي يعتمد عليه في تشخيص مدى ترابط المجتمعات أو تخلخلها، بل هي المرآة الصافية التي تعكس لنا وجهنا بلا زواق ولا ترميم ولا زخرفة. وليس هدفنا هنا ادعاء تحليل هذه الظاهرة الخطيرة لأن مسؤولية ذلك منوطة بأولي العلم من جهابذة علماء الاجتماع والاقتصاد وغيرهم ممن تنوء جماجمهم الغليظة بالعلم والمعرفة ، وإنما نريد فقط أن نبسط هنا مثلا من الأمثلة الغريبة في الشحاذة، تلك التي يمارسها بعضهم ليس بفعل العوز والفاقة وإنما بدافع الهواية التي تصبح مع مرور الأيام بلية من البلايا المستعصية، كالقمار والتدخين والعربدة. كان أحدهم فلاحا يسكن في أعالي الجبال ويحيا حياة الضنك على غرار جل الفلاحين البسطاء، وشاءت الأقدار أن تجعل من ذريته نسلا صالحا ارتقى بفضل كده واجتهاده أسمى الدرجات الاجتماعية. وكان لزاما بعد وفاة زوجته أن ينزل من جبله ويسكن في الدارالبيضاء مع أحد أبنائه الذين ابتسمت لهم الحياة بعد طول عبوس. وبعد مدة، لم يطق الشيخ على فراق بلدته صبرا، فأراد الرجوع إليها ليستأنف مشوار حياته على النمط الذي تعود عليه، إلا أن أبناءه انتصبوا جميعا في وجهه مدعين أنه تعذب ما فيه الكفاية وآن الأوان آن له لكي يرتاح من شظف العيش بعدما توفرت له سبل العيش الكريم. وذات يوم، صادفه أحدهم في حي بعيد عن الحي الذي يقطن فيه وهو جالس على قارعة الطريق يستجدي المارة، فثارت ثائرته بعدما التبست عليه الأمور، ثم استصحبه بالحسنى إلى البيت وحاول مع باقي إخوته ثنيه عن تلك العادة السيئة التي صارت تهدد سمعتهم وتعطي للناس عنهم انطباعا خاطئا قد ينعتهم بالتفريط والعقوق. فادعى الشيخ التوبة، ثم سرعان ما عاد إلى الشحاذة من جديد كما يعود المدخن المقلع عن التدخين إلى سجائره المعشوقة ذليلا مهانا... والغريب العجيب هو أن ما كان يجمعه من كيلوغرامات الدراهم لم يكن ينتفع به شخصيا وإنما كان يعيد صرفه على الفقراء والمساكين بأريحية منقطعة النظير... وبقي هكذا متذبذبا بين التوبة والعودة إلى أن ذاق به أولاده ذرعا وتركوه لحال سبيله بعدما استعصت عليهم الحلول وعزت الحيل. فأصبح يتنقل بين البادية والمدينة، ولم يعد يعثر على راحته لا في هذه ولا في تلك، وحيثما وجد، لا يلقى أدنى حرج في مد يده وتكفف الناس. وهو اليوم قطرة من بحر الشحاذين الذين تفيض أمواجهم على الطرقات والأسواق والأماكن التي تعج بالسياح... ولما سأله أحد معارفه مازحا عن أي المدن والشرائح الاجتماعية أشد كرما، أجاب بلهجة العارف المطلع: أما المدن، فلا مدينة في المغرب يضاهيها كرم البيضاويين، وأما الناس، فهنالك السكارى ثم السكارى ثم السكارى...