بماذا يمكن وصف عمل المغاربة حينما أعلنوا للعالم في دستور سنة 2011 كشف هويتهم الأمازيغية والاعتزاز بها، بعدما كانوا طيلة قرون عديدة يخجلون منها ويخفونها عن الأنظار؟ وبماذا يوصف أيضا عملهم عندما قاموا بترسيم لغتهم الأمازيغية مع إقرار إدماجها في جميع مجالات الحياة العامة، ثم حينما قاموا كذلك بتحرير أرض وطنهم من التبعية للوطن العربي في الشرق، وإقرار انتمائها إلى موطنها الأصلي "المغرب الكبير"؟. أعتقد أنه بالنظر إلى طول المدة الزمنية التي قضاها المغاربة شاردين عن الوعي بذاتهم، يبنون خلالها ذوات وثقافات شعوب أخرى، عوض بناء ذاتهم وثقافتهم، ما جعلهم يخرجون من التاريخ خاوي الوفاض، يسخر منهم البعض بكونهم لم يرثوا عن أجدادهم سوى حلق الرؤوس وأكل الكسكس ولبس البرنوص؛ أقول إنه بالنظر إلى كل هذه المعطيات لا يمكن أن يوصف عملهم الدستوري ذاك إلا بثورة على الذات، هادئة وحكيمة، ناتجة عن استعادة صحوتهم ويقظتهم من سبات طويل عميق، على اعتبار أن ما أعلنوا عنه في الدستور ينم عن الرشد، وعن الإرادة في الاستقلال وفي التحرر الحقيقي، تكريسا لمبدأ السيادة الحقيقية للشعوب الذي كانوا غافلين عنه، والذي يقوم على الأركان الأساسية الثلاثة التالية: سيادة الوطن. سيادة الكيان. سيادة اللسان. فهذه الأثافي الثلاثة للسيادة التي لخصها شباب الحركة الأمازيغية في الشعار المشهور: أكال (الوطن)، أوال (اللسان)، أمادان (الكيان)، معبرين عنه برفع ثلاثة أصابع اليد؛ هذه الأركان جسدها الدستور نظريا في فصله الخامس عن طريق إعلانه تحرير أرض وطننا من التبعية للوطن العربي، محققا بذلك المقوم الأول للسيادة الكاملة المتمثل في سيادة الوطن، ثم عن طريق اعتزازه بالهوية الأمازيغية للمغاربة، مكرسا بذلك المقوم الثاني الخاص بسيادة الكيان، وأخيرا بترسيمه اللغة الأمازيغية تجسيدا للمقوم الثالث المتعلق بسيادة اللسان. ويمكن القول في هذا السياق إن الحركة الوطنية الاستقلالية إن كانت حررت وطننا من الاستعمارين الفرنسي والإسباني فإنها مع الأسف ألحقته مجانا بالجزيرة العربية، معتبرة إياه جزءا لا يتجزأ من الوطن العربي، ما جعل هذه الحركة تبدو في عملها وكأنها نزعت بلادنا من الغرب بيدها اليمنى، ثم قدمتها بيدها اليسرى للشرق لقمة سائغة. ومن هنا جاء دستور سنة 2011 ليصحح هذا الخلل، مقررا أن كل مقومات سيادتنا الوطنية أصيلة وعريقة، حرة ومستقلة، لا تنتمي لا للغرب ولا للشرق؛ وذلك خلافا لمنظور الحركة الوطنية الاستقلالية، الذي يعتبر وطننا- كما سلف الذكر- جزءا هامشيا للوطن العربي، وشعبنا فرعا هجينا مولدا للشعب العربي، ولغتنا الأمازيغية لهجة بائدة من اللغة العربية. هذا ومن غرائب الصدف أن يتحقق خلاص وطننا من هذه التبعية الشرقية بفضل انفتاح جلالة الملك محمد السادس على نضال الحركة الأمازيغية، بعدما تخلص في السابق من التبعية الفرنسية والإسبانية بفضل تضافر نضال الحركة الوطنية، مع نضال المغفور له الملك محمد الخامس. ومما لا شك فيه أن التاريخ سيسجل أن دستور سنة 2011 بحمولته التحررية العميقة يشكل بحق لحظة تحول فارقة ومفصلية في مسار حياة شعبنا، من شانها أن تعيد تحقيب تاريخه إلى عصرين بارزين هما: عصر بائد كان فيه مجتمعنا شاردا لغياب وعيه بذاته، وعصر جديد هو عصر الرشد الذي تم فيه استرداد هذا الوعي، تماما كما ينقسم تاريخ الشعوب الأوروبية بعد استرجاعها وعيها الذاتي إلى عصرين مختلفين هما: عصر القرون الوسطى المظلمة، وعصر الأنوار الجديد. وبالفعل فإن ما يؤكد دخول المغاربة حقيقة في عصر الوعي بالذات هو ما لاقاه الخطاب الملكي السامي في افتتاح الدورة البرلمانية الخريفية يوم 10 أكتوبر 2014، من تصفيق حماسي طويل، من طرف نواب الأمة بعدما أثار فيهم هذا الخطاب روح تامغريبييت الدفينة في أعماقهم، التي عبر عنها العاهل الكريم بهذه العبارة الصادقة المؤثرة: وأنا كواحد من المغاربة فإن أغلى إحساس عندي في حياتي هو اعتزازي بمغربيتي. والحق أنه بعد أن كان المغاربة في عصور غياب الوعي بالذات البائدة يفتخرون في سذاجة تامة إما بفينيقيتهم، أو برومانيتهم، أو بإسبانيتهم، وإما بعروبتهم، فقد أعطى الملك محمد السادس بصفته الممثل الأسمى للأمة القدوة والمثال على الاعتزاز بالوعي بالهوية المغربية الأصيلة، هذا الاعتزاز الذي كان ينقص مع الأسف جل ملوكنا السابقين على امتداد التاريخ، بدليل أن ملكنا الشهم يوسف بن تاشفين، على الرغم من كونه لم يكن يعرف أي لغة أخرى غير لغته الوطنية الأمازيغية فإنه لم يعرف عنه ترسيم هذه اللغة إلى جانب – العربية – لغة الدين. إذن، لما كانت نهضة الشعوب وتقدمها مقرونين دوما بالوعي بالذات، يمكن القول إن المغاربة بسلوكهم طريق العقل وما أفرزه هذا العقل من علوم وتقنيات حديثة لتصالحهم مع ذاتهم، ومع تاريخهم القديم والحديث، ومع وطنهم، ومع لغتهم الأصلية، ومع دينهم السمح، ومع نظامهم السياسي، يكونون بذلك قد نفذوا التزامهم الأخلاقي، وأبرؤوا ذمتهم مع نفسهم ومع التاريخ، ما يجعلهم في الطريق الصحيح إلى النهضة وإلى الأنوار. يقول ميشيل فوكو: "من بين الالتزامات الأخلاقية الرئيسية بالنسبة إلى أي ذات أن تعرف نفسها، وأن تكون صادقة في ما تقوله عن نفسها، وأن تؤسس نفسها كموضوع للمعرفة للآخرين، ولنفسها على حد سواء". وفعلا، فمن المحقق أن معرفة النفس لا تشكل المدخل الأساسي لنهضة الشعوب فحسب، بل تعتبر أيضا سرا من أسرار الحياة وعاملا من عوامل إدراك الوجود؛ على اعتبار أن الذات العارفة لنفسها تصبح شعلة منيرة تتجلى لها حقيقتها، وحقيقة ما حولها، ثم أيضا حقيقة الله، في فكرته الربانية الرحيمة العادلة، مصداقا للحكمة المأثورة التي تقول: "من عرف نفسه فقد عرف ربه". ولعل إدراك الحكيم سقراط هذه الأسرار هو ما جعله يقول كلمته المشهورة: "اعرف نفسك"، وهو ما جعل أيضا الفيلسوف هيجل يقول: "الشخص غير الواعي بذاته تتدنى مرتبته من الشخص إلى الشيء، أي يصبح مجرد مادة قابلة للضم وللامتلاك". إذن إجمالا يمكن القول إن الرسائل الخالدة التي بثها المغاربة للأجيال المقبلة في الفصل الخامس من دستور سنة 2011 تتمثل في: الإفصاح لأول مرة عن وعي شعبنا بذاته الأصيلة، غير المتناهية في الماضي السحيق، وكذا في أغوار المستقبل البعيد. والاعتزاز بهذه الذات، كذات حرة، وغاية في ذاتها. ثم السعي إلى تنمية هذه الذات، وإلى تطويرها بالاعتماد على العقل، وما أفرزه هذا العقل من علوم وتقنيات حديثة. والإعلان للعالم عن تحرير أرض وطننا من التبعية للوطن العربي في الشرق، وعن إقرار انتمائها إلى موطنها الأصلي: المغرب الكبير. والقيام بترسيم اللغة الأمازيغية باعتبارها جوهر الذات، مع الإقرار بتنميتها وبإدماجها في جميع مجالات الحياة العامة.