يعيش السياسيون مواقف تعج بالمتناقضات، ويكون الصحافيون شاهدين عليها، وبما أن أهل مهنة القلم قوم يعشقون الكلام، ويعتبرون الصمت خطيئة في عرفهم، فهم يغتسلون من ذنوبهم بالحكي، وحتى أغتسل بدوري من ذنوبي أنقل لكم بعضا مما سمعته في الضفة الأخرى للمضيق... ومن بين ما وصل إلى مسامعي من حكايات في مدريد أن الزعيم الاشتراكي فليبي غونزاليث كان ذات مرة- عندما كان يتربع على كرسي رئاسة الوزراء في إسبانيا- في زيارة إلى باريس للقاء زعيم اشتراكي آخر صار رئيسا لفرنسا وهو فرنسوا ميتران، كان كل شيء معدا لاستقبال باريس لضيفها الذي لم تفارقه حيويته وخفة دمه الأندلسية، وبمجرد نزول غونزاليث من الطائرة ، مشى بخفة صوب رفيقه في الاشتراكية والسلطة الرئيس ميتران، وخاطبه بفرنسية متلعثمة تعلمها خلال سنوات الرصاص الإسباني، وقال له: أهلا فرنسوا، أنا سعيد جدا بلقائك، لكن ملامح ساكن الإليزيه، بقيت جامدة ونظر إليه ببرود قاتل، ثم التفت صوب المترجمة، وقال لها بهدوء: ترجمي لي ما يقوله السيد رئيس الوزراء الإسباني... كان ذلك حماما باردا لغونزاليث الذي نسي، وهو مجرد رئيس للوزراء لإسبانيا المنفلتة لتوها من بين أظافر الديكتاتورية، أنه في حضرة قيصر فرنسا الجديد الذي يتخذ من الاشتراكية دينا لا سلوكا. وفي حكاية أخرى، أن الإسبانيين كانوا يخشون دائما تأخر الملك الحسن الثاني عن مواعيده، وكانت لهم قصص كثيرة في ذلك، فقد دعاه الملك خوان كارلوس لزيارة إسبانيا عام 1989، وكان كل شيء معدا لإنجاح الزيارة التاريخية، لكل في مطار باراخاس حصل ما لم يتوقعه أحد، لقد رفض الحسن الثاني ركوب طائرة الهيلكوبتر التي كانت ستقله إلى قصر إيل برادو، عندها فقط بدأ العرق يتصبب باردا من على جبين المكلفين بالبروتوكول، وطلب الحسن الثاني أن يأتوه بسيارة "روز رويس" حتى يذهب إلى قصر " إيل باردو" للقاء ابن عمه خوان كارلوس، لكن المشكلة أن تلك السيارة لم تكن متوفرة، وكان لابد من تلبية رغبة الملك حتى لا تفشل الزيارة، وبشكل هستيري، بدأ البحث في كراجات البرتوكول الإسباني عن سيارة "الروز رويس"، وقضوا في بحثهم مدة طويلة إلى أن عثروا، بعد لأي، على واحدة تعود ملكيتها إلى الجنرال فرانسيسكو فرانكو، وبعثوا بها إلى مطار مدريد باراخاس، ثم تشكل الموكب الملكي وانطلق يجوب شوارع مدريد، وهو ما أخذ وقتا طويلا امتد إلى ثلاث ساعات، وخلال هذه الأثناء كان فيلبي غونزاليث، رئيس الوزراء الإسباني والملك خوان كارلوس وإعلاميون إسبانييون وأفراد الحرس الملكي، جميعهم ينتظرون تحت لهيب شمس حارقة قدوم ملك المغرب، أصيب كثيرون بالعطش الشديد، وفي هذه الظروف -يتذكر محدثنا-، أن أحد أفراد الحرس الملكي الإسباني سقط مغميا عليه، كان ارتطامه بالأرض مدويا وبدا منظره أشبه بسقوط جندي في لعبة الشطرنج. وبعد سنوات من زيارته لمدريد، صار الحسن الثاني يدرك أن أيام صديقه فليبي غونزاليث في قصر مونكلوا معدودة، ونصحته تقارير استخباراتية بالتقرب من زعيم المعارضة اليمينية خوسي ماريا أثنار الذي دعاه الملك الحسن الثاني لزيارته في المغرب، وكنوع من الحفاوة قام وزير داخليته إدريس البصري بتلغيم غرفة أثنار بالميكروفونات، ويحكي أثنار عن تلك التجربة في كتابه" وجوه وبروفيلات"، قائلا: "خلال تلك الزيارة الأولي التي قمت بها إلي المغرب يومي 27 و28 ماي عام 1996 كانت كلها ترحيب ومودة، فالمغاربة كانوا يترقبون ما سيقع بعد التغيير السياسي الذي حدث في إسبانيا (فوز أثنار بالانتخابات في مارس 1996). ويضيف "تمت نصيحتي عند وصولي إلى الرباط بأخذ بعض الإجراءات الاحتياطية، لأنه ربما يكون المغاربة قد نصبوا ميكروفونات للتجسس علي في غرفة الفندق، وبالفعل فقد فكك أفراد الحراسة بعض الميكروفونات في غرفتي، ولاحقا مررت بوضعية مشابهة في أكثر من مرة، ولكن تلك المرة كانت هي الأولي، ولهذا فإنني أستعيد ذلك الحدث كنوع من الدعابة ..." خلال الزيارة الثانية لأثنار إلى المغرب عام 1998، لم يتمكن حرسه من كشف الميكروفونات، لأن الحسن الثاني دعاه ليحل ضيفا عليه في قصره بالرباط، وبالتالي لم يكن من اللياقة التنقيب عن الميكروفونات في القصر، ففضل أثنار تفادي الحديث على الهاتف أو بصوت عال مع مرافقيه...