على غير عادته، لم يتردد الروائي الفرنسي جيلبير سينيوه في التعبير عن مواقفه السياسية حينما سئل عنها في الندوات النقاشية التي شارك فيها مؤخراً على هامش معرض ابوظبي الدولي للكتاب. فقد باح بآرائه السياسية حول عدد من القضايا العربية التي يعتبرها تهمه بقدر ما تهم أي مواطن عربي آخر. فولادته في مصر وعيشه فيها نحو عقدين وفي لبنان ثلاث سنوات قبل الانتقال لفرنسا جعلته ينشغل دوماً بشؤون العالم العربي. أنقاض أمم يقول سينويه إن العالم العربي يعيش وضعاً كارثياً وكأن لعنة أصابته. إذ يعتبر أنه ليس هناك أمم عربية بل فقط أنقاض أمم، باستثناء دول قليلة. فسوريا تحولت إلى وضع بئيس، والعراق يعيش وضعاً سيئاً، ولبنان على وشك الغرق في محيط لا قاع له، وليبيا وضعُها مزرٍ، والمغرب ظل واقفاً على رجليه وتجاوز فترة الاحتقان فقط بفضل حكمة الملك عبر تحويل نظام الحكم إلى ملكية دستورية. ويرى أن الثورات العربية عموماً كانت فشلاً ذريعاً. وكفرنسي من أصل مصري، يقول سينويه إن الاستنتاج الذي خرج به عقب تلك التحركات الثورية هو غياب البديل الذي قد يجلبه أي تغيير. ففي مصر، لم يكن هناك أي حزب سياسي يمكن أن يكون بديلاً واعداً بعد تنحي مبارك عن الحكم. لذلك كان واضحاً ومؤكداً في مصر أنه بعد رحيل مبارك سيحل محله الإخوان المسلمون ليس بسبب كفاءتهم السياسية ولكن بسبب قدرتهم التنظيمية وغياب بنى ديموقراطية وحياة سياسية تدافعية حقيقية. فالمأساة في العالم العربي إذن هي مأساة غياب البديل. العلمانية والإسلاموية يعتقد جيلبير سينويه أن العالم العربي يحتاج إلى نهضة شبيهة بتلك التي مرت بها أوربا. فعندما كانت الكنيسة تفرض شروطها وتضطهد المفكرين وتمنع الابتكار والإبداع، خيَّم الجمود على العالم الغربي وقتاً طويلاً. ولذلك ينبغي على العرب المرور بتجربة كهذه وفصل الدين عن الدولة. فإذا لم يتم فصل الاثنين نهائياً، فإن الوضع سيظل معقداً جداً، يضيف سينويه. وحتى تنجح الدول في المضي قدماً عليها ضمان حرية العبادة للأفراد، لكن دون تضمين الدين في دستور الدولة، ودون أن يكون الدين ضمن التظيمات السياسية للدولة. فلا يمكن التقدم والابتكار إذا لم يحدث هذا الفصل. ينبغي فصل الدين عن الدولة بحيث لا يتدخل الدين في الدولة أو الدولة في الدين. ويلوم سينويه العرب الذين يواصلون إلقاء اللوم على الغرب والاستعمار في كل ما يصيبهم من رزايا ويعتبر ذلك غير دقيق. ولا يخفي سينويه تقديره للمرحومين زايد وبورقيبة، فبورقيبة ترك بلاده دولة ديموقراطية بأحزاب سياسية وشعب متعلم أتاح لتونس الصمود بعد أحداث 2011. كما يعتبر أن الشيخ زايد وضع أسساً صلبة لبلده عبر الاهتمام بالتعليم والصحة والانفتاح، مما جعلها تنمو وتتطور دون توقف. ويعتبر سينويه أن الإسلام السياسي خطر وفك الارتباط به يمنع وقوع الكارثة والتأثيرات المضرة لمثل هذه الجماعات. المسلمون والآخر يقول سينويه إنه عندما بدأ يهتم بالدين، تساءل عن سبب وجود الكراهية ورفض الآخر وعما إذا كان المرء مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً أو بوذياً يمنحه ميزة ما! وظل يتساءل لفترة عن قضايا وجودية ميتافيزيقية قبل أن يخرج بخلاصة مفادها ألا أحد فينا يملك الحقيقة. فكل واحد فينا قد يكون له جزء من الحقيقة، وربما عبر تجميع هذه الأجزاء يمكننا الاقتراب إلى ما يشبه نصف الحقيقة. ولذلك لا يمكن لأي شخص تبرير كره الآخر أو قتله بسبب هويته الدينية. وقد حدث ذلك خلال الحروب الصليبية المحزنة التي ما يزال يتذكرها المؤرخون ويعدونها شيئاً لا يطاق. كما استنكر سينويه تعرض الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ للطعن في أحد شوارع القاهرة وتعرض سلمان رشدي لفتوى إزهاق روحه فقط بسبب آرائهما الروائية. غاندي وبن رشد وعن الشخصيات التي كتب عنها روايات تاريخية مثل ابن رشد وابن سينا وغاندي ونيسلون مانديلا، قال سينويه إن القاسم المشترك الذي جذبه إليها هو تميزها برؤية استشرافية وقدرة أصحابها على تغيير بلدانهم والعالم بشكل سلمي. فغاندي مثلاً كان يهاجم الإمبراطورية البريطانية وهو رجل حافي القدمين وليس له سلاح ومع ذلك نجح في تركيعها، وابن رشد الذي كان أحد أكبر الفلاسفة الذين عرفهم التاريخ وعاش في قرطبة بالأندلس تعايش مع المسيحيين واليهود بسلام وتناول كتابات أرسطو تفسيراً ونقداً وتطويراً وطرح قضايا كانت حينها ثورية. فرؤاه عن الخلق والروح زعزعت الكثير من المعتقدات ووصلت أصداؤها الارتدادية إلى أركان جامعة باريس. فالفيلسوف توما الإكويني أصيب بثلاث جلطات قلبية عندما قرأ مؤلفات ابن رشد. فهذا الأخير استطاع تناول قضايا شائكة في ذلك العصر لأن الحوار كان حينها ممكناً. أما اليوم، يضيف سينويه، فقد أصبح كل من يجرؤ على مناقشة الإسلام يُعرِّض نفسه للمشانق وتحريض الآخرين على كراهيته. وقد مر المسيحيون بهذه المرحلة خلال الحروب الصليبية واضطهدوا غاليليو وكوبرنيكوس وحرقوا مؤلفاتهم. لكنهم تجاوزوا تلك المرحلة بعدما فصلوا الدين عن الدولة وتبنوا قيم الأنوار والحرية والانفتاح.