مفتي تونس: عيد الأضحى سُنة مؤكدة ولا يمكن إلغاؤه    أمن ميناء الناظور يحبط محاولة تهريب 26 كيلوغراما من المخدرات كانت متجهة صوب أوربا    أمطار الخير ترفع مخزون سدود الحوض المائي لأم الربيع إلى 84.5 مليون متر مكعب    سان جرمان يتأهل إلى الربع بفوزه على ليفربول بركلات الترجيح    باريس سان جيرمان يقصي ليفربول بركلات الترجيح ويتأهل لربع نهائي دوري الأبطال    دعم إفريقي لترشيح السيدة بوعياش لرئاسة التحالف العالمي للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان    الملك يزور ضريح جده محمد الخامس    انطلاق مسابقات تجويد القرآن الكريم في إطار رمضانيات طنجة الكبرى    زلزال إداري يهز قطاع التربية الوطنية بعد إعفاء 16 مديرا إقليميا    انهيار مباغت لمنزل بالعكاري في الرباط.. وفاة سيدة واستنفار السلطات    تطوان.. حجز 17 ألفا و 505 من الأقراص الطبية "ريفوتريل" المخدرة وتوقيف أربعة أشخاص    بعد "جانا" العاصفة "كونراد" في طريقها إلى المغرب.. أمطار غزيرة وثلوج    تصوير الأنشطة الملكية.. ضعف الأداء يسيء للصورة والمقام    إعفاء المدير الإقليمي للتعليم بالناظور    إجراءات وهبي تثير الجدل.. الغلوسي: إعلان غير مباشر عن "حالة استثناء" في المغرب    الحقائق تنتصر والشائعات تتلاشى    اتفاقية شراكة بين وزارة التجارة والصناعة و"التجاري وفا بنك" لتعزيز رقمنة التجار    أنفوغرافيك | المغرب ومؤشر القوة الناعمة العالمية لعام 2025    الشرقاوي: وكالة بيت المال القدس الشريف نفذت أزيد من 200 مشروعا كبيرا لفائدة المقدسيين منذ إحداثها    إسرائيل تقترح تمديد وقف إطلاق النار بغزة 60 يوما    وهبي يقْسِم أنه لن يعدل المادة 3 من المسطرة الجنائية للتبليغ عن الفساد    رئيس الحكومة يترأس اجتماعا لتتبع تنزيل ورش الارتقاء بالمنظومة الصحية    دوري أبطال أوروبا لكرة القدم.. برشلونة أول المتأهلين إلى ربع النهائي بفوزه على بنفيكا    موكوينا يدخل في صراع مع جماهير الوداد    مغرب الحضارة الضرورة التاريخية : شركات عمومية للأمن الغذائي    أوكرانيا تقبل مقترح أمريكي بشأن هدنة لمدة 30 يومًا    أمطار الخير ترفع مخزون سدود الحوض المائي لأم الربيع إلى 84.5 مليون متر مكعب    فيديو: أمير المؤمنين الملك محمد السادس يترحم على روح المغفور له الملك محمد الخامس    هل الصيام يشفي القلب أم يشكل خطراً عليه؟ اكتشف الحقيقة مع الدكتور حفدي المهدي (فيديو)    مجلس الحكومة يتدارس مرسوماً متعلقاً ب"طنجة تيك" يوم الخميس    جائزة القيادة في النوع الاجتماعي: البنك الدولي يكرم لُبنى غالب، عضو مجلس إدارة مجموعة طنجة المتوسط    مطالب برلمانية بالكشف عن أسباب ارتفاع صادرات زيت الزيتون رغم تراجع الإنتاج    الأداء السلبي ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    العراق يملك واحدا من أعلى احتياطيات الذهب عربيا ب162طنا    الناصيري ينفي الإساءة إلى حجيب    تلوث الهواء يطال 14 مدينة هندية    الشابي يشيد بقتالية الرجاء بعد الفوز على النادي المكناسي    صيدلاني يشجع الشك في "الوعود الدعائية" للعقاقير الطبية    علماء: الإكثار من الدهون والسكريات يهدد المواليد بالتوحد    نهضة الزمامرة يعيّن الفرنسي ستيفان نادو مدربًا جديدًا خلفًا لبنهاشم    المسرح يضيء ليالي الناظور بعرض مميز لمسرحية "الرابوز"    بنكيران .. القرار الملكي لا يدخل ضمن الأمور الدينية وإنما رفع للحرج    فتح باب الترشيح للاستفادة من دعم مشاريع النشر والكتاب هذا العام    كيف يؤثر الصيام في رمضان على الصحة ويحسنها؟    تناول السمك يتيح تطور الشخصية الاجتماعية عند الأطفال    حتى ‬لا ‬تبقى ‬الخطة ‬العربية ‬الإسلامية ‬لإعمار ‬غزة ‬معطلة ‬    تنظيم الملتقى الأول ل''رمضانيات السماع و المديح للجديدة    قمة ‬جزائرية ‬تونسية ‬ليبية ‬لنسف ‬القمة ‬العربية ‬الطارئة ‬في ‬القاهرة    الصين: متوسط العمر بالبلاد بلغ 79 عاما في 2024 (مسؤول)    الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.. من الشعارات الانتخابية إلى محكّ السلطة    الجديدي يفرض التعادل على الحسنية    ‬"وترة" يدخل دور العرض بعد رمضان    شخصيات عربية وإفريقية وأوروبية بارزة تنعى الراحل محمدا بن عيسى    برعاية إبراهيم دياز .. أورنج المغرب تطلق برنامج Orange Koora Talents    ملخص كتاب الإرث الرقمي -مقاربة تشريعي قضائية فقهية- للدكتور جمال الخمار    "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ..؟" !!(1)    الأمازِيغ أخْوالٌ لأئِمّة أهْلِ البيْت    القول الفصل فيما يقال في عقوبة الإعدام عقلا وشرعا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في وداع العفيف

العفيف اسم على مسمى، كان عفيفاً في حياته وسلوكه وفكره وصراحته وعلاقاته مع الناس من أصدقاء وخصوم، كان عفيفاً وشجاعاً في نضاله الطويل في مقارعة الظلم والتخلف والجهل والتعصب بجميع أشكاله وخاصة التعصب الديني. قد لا يكون مناسباً أن يتفلسف الإنسان في كتابة التأبين خاصة إذا كان يتعلق بشخص عزيز عليه، ولكن عندما يكون الفقيد مفكراً كبيراً وفيلسوفاً فلا أرى ضيراً في ذلك. إذ يتذكر القراء أن العفيف نفسه استشهد مرة في أحد مقالاته قبل أشهر بقول للفيلسوف مونتينMontaigne : «الفلسفة فن يعلمنا كيف نحيا جيداً وكيف نموت جيداً». هذه الفلسفة طبقها العفيف على نفسه بكل صدق وإخلاص، فلم تفارقه الابتسامة وهو يتحدث عن الموت الذي كان يتوقعه في أية لحظة.
فالموت ليس مشكلة الميِّت، لأن فيه راحة أبدية، إذ كما قال سقراط: «الموت نوم بلا أحلام»، بل هو مشكلة أحبائه ومريديه، وخاصة إذا كان الراحل مفكراً كبيراً من وزن وقامة العفيف، «المشاغب»، أو «محامي الشيطان» على حد تعبير الصديق العزيز الدكتور شاكر النابلسي. لذلك ربما سيكتب النابلسي نعياً بعنوان: (رحيل محامي الشيطان) إذ كتب قبل سنوات مقالاً عن العفيف قريباً من هذا العنوان. لذلك فأنا أتمثل بقول مارك توين عن الموت: «أنا لا أخاف من الموت، لأني إذا مت سأعود وكأني لم أولد، وأنا ما كنت مولودا لمليارات السنين ولم يزعجني ذلك».
فكل مصلح هو مشاغب لأنه يتمرد على القبيلة ويخرج على المألوف، ويناضل من أجل إخراج المجتمع من التخلف ويدفعه إلى مستقبل أفضل. وفي هذه الحالة لا بد وأن يشق المجتمع إلى معسكرين، معسكر محافظ متمسك بالقديم، يريد إعادة المجتمع إلى الماضي الغابر، ومعسكر متجدد يتطلع إلى الحداثة والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ومساواة المرأة، ودولة المواطنة والقانون، لا فرق فيها بين المواطنين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية والإثنية. لذلك فهو في نظر المعارضين له إنسان مشاغب! ومتمرد على القبيلة.
لقد نذر العفيف نفسه منذ شبابه إلى مقارعة التخلف بالفكر المستنير. وعرف أن هذا الطريق محفوف بالمخاطر والمتاعب وربما الموت المبكر. لذلك لم يتزوج، راكباً صهوة المخاطر مهاجراً من بلد إلى بلد بعيداً عن وطنه تونس. أقتبس أدناه بعضاً من أقواله في حوار بينه وبين قرائه نشر في «إيلاف» عام 2004 .
لقد عاش العفيف حياة صعبة في جميع مراحلها بدءً من طفولته في الريف التونسي الفقير إلى ساعة رحيله في باريس إلى عالم الخلود. فيقول عن نفسه: «توفي أبي وعمري 13 عاماً وكانت صدمة مروعة لم أنجح في إقامة الحداد عليه ربما حتى الآن، مات أبي في كوخنا المعزول، وعندما عدت إلى العاصمة تونس لمواصلة سنتي الثانية في التعليم الزيتوني، كنت أذهب كل مساء إلى «سوق العصر» الذي يأتيه الفلاحون من أحد الأحياء الفقيرة جداً «الملاسين» التي يسكنها الريفيون النازحون. وكلما رأيت فلاحاً يرتدي برنوساً ركضت لأنظر إليه من أمام عسى أن يكون هو أبي الذي دفنته بنفسي في مقبرة القرية. يعني ذلك أنني لم أصدق موته وهي حالة تقود عادة إلى الجنون».
من حسن الصدف أنه تلقى تعليماً على يد معلم تقدمي في عمر مبكر فيقول: «وكيتيم مفجوع اندفعت أبحث عن أب بديل أتماهى معه. تماهيت بالشيخ الفاضل بن عاشور الذي كان يأتي إلى الزيتونة يعطي درسه في حلقة التعليم العالي… وفي الوقت ذاته تماهيت بطه حسين إلى درجة الذوبان، فكنت أضع عصابة على عيني كما لو كنت أعمى وأرتجل أمام زميل لي هو الهادي بالأخضر مقلداً طه حسين». كما وتماهى ببورقيبة مدافعاً عن خطه السياسي وخاصة «عندما أصدر غداة الاستقلال 1956 قوانين الأحوال الشخصية لتحرير المرأة التونسية» .
كما وعى العفيف الشاب «خطورة التعليم الديني العتيق فكتب مقالات في جريدة «العمل» في صفحة الشباب مطالباً بغلق جامع الزيتونة ودمج التعليم الزيتوني العتيق في التعليم الحديث الذي ورثته تونس المستقلة عن فرنسا، وفعلاً بعد بضعة شهور أصدر بورقيبة قراراً بتوحيد التعليم وغلق الزيتونة.»
وكمصلح لا بد وأن يصطدم باليسار واليمين معاً، بما فيها سلطة أبورقيبة، الأمر الذي أجبره على الهجرة إلى عدن في عهد النظام الماركسي، فيقول: «في سنة 1969 حضرت اجتماع مجلس وزراء جنوب اليمن فنصحتهم بدلاً من الاشتراكية الماركسية اللينينية باتخاذ إجراءات حداثية منها إصدار قانون أحوال شخصية كالقانون التونسي، فقال لي سالم ربيع رئيس الجمهورية مازحاً: هل أنت سفير لبورقيبة أم معارض له؟، فأجبته: الاثنان معاً. فطلب من وزير الخارجية أن يطلب من سفير تونس في عدن تزويدهم بنسخة من «مجلة» [قوانين الأحوال الشخصية التونسية] وفعلاً صدرت بعد ذلك قوانين شخصية يمنية مشابهة جداً للقوانين الشخصية التونسية».
وقد عانى كثيراً من الفقر المدقع، لذلك راح يبحث عن أسبابه وعلاجه. ولعله أول من انتبه إلى خطورة الانفجار السكاني على العالم العربي، فحذر من مخاطره، ولكن لا حياة لمن تنادي، فقال في هذا الخصوص: «طبعاً أعي الآن أفضل الأسباب الموضوعية لهذا الفقر الكوني: الانفجار السكاني. لكن ذلك لا يعفي أغنياء العالم دولاً وشركات وأفراد من خطيئة عدم التفكير في نزع فتيل قنبلة الانفجار السكاني».
ماركسية العفيف
وعلى سؤال من السيد عبد القادر الجنابي: «ماذا تبقى اليوم من ماركسيتك التي اعتنقتها ودافعتَ عنها طوال السبعينيات..؟» فيجيب قائلاً: «فقري الذي مازال رفيق حياتي كان وربما مازال وراء قناعاتي الماركسية التي وصلت إليها في 1963… إذن لم أكن مدفوعاً بقناعات نظرية عميقة بل بغريزة طبقية فقط. .. فقد بلورت قناعاتي النظرية بعدما آمنت سلفاً بالماركسية.. ولكن، منذ الستينيات بدأت أتساءل عن مدى اشتراكية المعسكر الاشتراكي.» ويضيف: «… من زيارة لتشيكوسلوفاكيا وألمانيا الشرقية اللذين وجدتهما أشبه بالمعتقل لسكانهما منهما بالمجتمع. قالت لي فتاة تشيكوسلوفاكية عاملة عندما سألتها أن تعرِّف لي النظام الذي يحكمها: «نظاماً فاشياً». أما في ألمانيا الشرقية، وقد كنت يومياً أستمع إلى نكات العمال على حساب «جنة الاشتراكية الألمانية». في برلين الغربية كنت في حانة نحتسي البيرة فسألت مجموعة من العمال الشباب عن رأيهم في الماركسية، فقادني أحدهم إلى خارج الحانة وأشار بسبابته إلى جدار برلين الشهير قائلاً: «هذه هي الماركسية».. في الحقيقة كانت أوهامي عن الماركسية اللينينية في الاتحاد السوفيتي والصين وكوريا .. إلخ، والأحزاب الشيوعية في العالم العربي والعالم قد تلاشت قبل ذلك. دخلت مع المعسكر الاشتراكي والأحزاب الشيوعية العربية في سجال عنيف. وردوا إليّ الصاع صاعين فاتهموني في 1967 بأني عميل لألمانيا الغربية بسبب موقفي من ألمانيا الشرقية.. باختصار حاربتني الأحزاب الشيوعية بالشائعات. كانت مشاعري إزاء ذلك مزيجاً من الشعور بالاضطهاد والعزلة والاعتزاز. الاعتزاز بأنني غير مفهوم وأكلف الشرق والغرب مشقة فهمي: الغرب يرفضني لأنني ماركسي والماركسيون اللينينيون يرفضونني لأنني عميل للغرب. ساعدني ذلك على أن أفكر بنفسي باستقلال عن المرجعيتين الشرقية والغربية.»
عاش العفيف عدة سنوات في بيروت ثائراً ينشر الأفكار التقدمية في ندوات أسبوعية، ومقالات ناقداً فيها الماركسية اللينينية والأنظمة العربية، ووصفه للاتحاد السوفيتي والصين بأنهما إمبرياليان في مجلة «دراسات عربية»، مما أخرج المتعاطفين مع هذه الاتجاهات عن طورهم. «كان اليسار يرى فيّ يمينياً واليمين يرى فيّ يسارياً متطرفاً».
موقف العفيف من الإسلام السياسي:
رأى العفيف «أن إسلام القرون الوسطي يشكل عائقاً دينياً هائلاً يعتقل عقول المسلمين فلا تعود قادرة على التفكير الواقعي فضلاً عن العقلاني في أمور دينها ودنياها.. فالمرأة المسلمة وغير المسلمين يعاملون في بداية الألفية الثالثة معاملة أكثر ضراوة بما لا يقاس من معاملة الرأسمالية المتوحشة في القرن التاسع عشرة للنساء والأطفال».
والجدير بالذكر أن مشكلة العفيف هي مع الإسلام السياسي وليس مع الإسلام كدين الذي يؤكد أن «العلم يعترف بالدين في مجاله الخاص، الذي هو الروحانيات وتقديم العزاء والسلوى للحزانى…» ولكنه ينتقد الإسلام السياسي فيقول: «الاتجاه المضاد الذي يقوده الإسلام السياسي والإرهابي الهادف إلى العودة إلى عصر ذهبي موهوم في ماضيه السحيق لا يبدو أنه يمتلك زمام المستقبل… وكارثة على المسلمين لأن المسيحيين بينهم هم خميرة الحداثة أي العلمانية والديمقراطية والمساواة بين الجنسين والمساواة بين المسلم وغير المسلم».
أما الحل لهذه الأزمة فهو في التخلص من التعليم الجهادي التكفيري «والمطالبة بتعليم ديني بديل متصالح مع العلم ومع المرأة ومع غير المسلم ومع الديمقراطية ومع حقوق الإنسان ومع علوم الحداثة العقلانية والإنسانية وهذا ممكن» ويؤكد على «أن للدين وظائف روحية ونفسية مازالت قوية في النفسية البشرية المسكونة بإعطاء حياتها معنى بعد الموت: الخلود في عالم البقاء. ولا ضير من ذلك عندما لا يعترض الدين المعلمن والمرشد عن إعطاء الآخرين معنى لحياتهم في الحياة لا فقط بعد الممات».
اللقاء مع العفيف
لا شك أن اللقاء مع مفكر كبير متعة فائقة، خاصة إذا كنت منسجماً معه فكرياً إلى حد التماهي. فأول ما قرأت للعفيف كان مقالاً له نشر في الحياة اللندنية قبل نحو 15 سنة، ومن تلك المقالة أصبت بالإدمان على قراءة كل ما ينشر للعفيف، إذ كان له عمود أسبوعي في الصحيفة المذكورة. ولسوء حظنا، أنه منع من النشر في تلك الصحيفة بأمر مالكها الأمير السعودي خالد بن سلطان، لأنه انتقد في إحدى مقالاته التخلف السعودي.
وبعد ذلك ظهرت مقالاته في «إيلاف» بشكل منتظم لعدة سنوات إلى أن توقفت «إيلاف» عن نشر كتاباته لأسباب لا نعرفها. وأخيراً ظهر في الحوار المتمدن بشكل منتظم إلى رحيله.
مشكلة العفيف الشخصية، أنه لم يكن على وئام مع التكنولوجيا، فلم يطق الكومبيوتر واستخدام الكيبورد، بل تمسك بالقلم في كتابة مقالاته. ثم أصيب قبل سنوات بعجز في يديه فلم يستطع الكتابة لفترة، ولم ينشر إلا بمساعدة بعض أصدقائه الذين يزورونه فيملي عليهم مقالاته بين حين وآخر. وعندها تشمت به رئيس حزب النهضة التونسي راشد الغنوشي، أن الله شل يديه عقاباً له على كفره!! وهكذا عامل الغنوشي الله كبشر يغضب وينتقم..!!
وأخيراً تعافى العفيف واستعاد قوة يديه وعاد للكتابة والنشر. وكان يبحث عن سكرتيرة ليملي عليها فلم يفلح إلا في الآونة الأخيرة وبمساعدة أحد أصدقائه الخيّرين. لذلك لاحظنا في الأشهر الأخيرة من حياته نشاطاً ملحوظاَ في نشر سلسلة من المقالات الطويلة وهي عبارة عن فصول لكتاب له كان ينوي نشره.
وفي نهاية العام الماضي (دجنبر 2012) أسعفني الحظ بلقائه مع نخبة ممتازة من المفكرين الإصلاحيين العرب وغير العرب، فتحققت الأمنية بمناسبة حضورنا مؤتمر روما للإصلاح الإسلامي الذي نظمه الدكتور ستفين ألف، مدير مؤسسة الإصلاح، فكانت حقاً فرصة سعيدة جداً. ورغم معاناته من المرض إلا أنه كان مفعماً بالنشاط الفكري، مرحاً والابتسامة لم تفارقه.
عاش متمرداً ومات متمرداً، إذ تمرد حتى على الموت. فقد أخبرني عن مرضه، وأن الأطباء أبلغوه بأن لم يبق له سوى ستة أسابيع فقط. لذلك كان في سباق مع الزمن والموت لإنجاز سلسلة من مقالات ودراسات عن الإصلاح الديني. فحاول أن ينشر أكبر ما يمكن خلال ما تبقى من عمره فتحدى الموت والأطباء معاً وبقى أكثر من 8 أشهر بدلاً من ستة أسابيع، أنجز خلالها أفضل مقالاته في مقارعة الفكر الظلامي.
سألته مرة ونحن في مصعد الفندق، ما رأيك بدور الفرد في التاريخ؟ فقال وهو يضحك: هذا السؤال شغلني نحو ستين سنة. باختصار فإن كلما يستطيع الفرد عمله هو أن يفهم متطلبات المرحلة التاريخية ويتكيف مع مسارها.
وأخيراً، من هو العفيف الأخضر؟
وفي حواره مع القراء سأله الكاتب الصديق أشرف عبدالقادر: "يتهمك الكثيرون بأنك تغيِّر أفكارك، حتى إن أحدهم قال لك في فضائية الجزيرة، بأنك أخضر، وأصفر، وأحمر، فهل على الكاتب أو المفكر أن يراجع أفكاره أم يتراجع عنها؟ وهل هناك فرق بين التراجع والمراجعة؟
فأجاب قائلاً: " نعم أغيِّر أفكاري بمجرد أن أكتشف أن الواقع تجاوزها أو لم تكن متكيفة معه، تذكر يا أشرف كلمة ماركس الجميلة" كل شيء يتغير إلا قانون التغير"، في نظري من يكابر أمام الوقائع والواقع لا يمكن أن يكون مثقفاً حقاً، ذكرتني بالإسلاموي الذي وصفني بالأخضر والأصفر والأحمر وبكل ألوان الطيف .. لا بأس، فأنا ثوري ورجعي، متدين وملحد، مادي وروحي، شاعر سراً وناثر جهراً، فأنا كتلة متفجرة من المتناقضات المتعايشة سلمياً ..أنا ثوري عندما يتعلق الأمر بالوقوف بحزم ضد حروب العرب الانتحارية ضد إسرائيل وغيرها، و"رجعي" عندما يتعلق الأمر بتوقيع السلام، فأنا مع السلام بأي ثمن كان لأن السلام هو أثمن ثمن. … وأنا متدين بكل دين يكون ملاذاً روحياً "للغلابة" والحزانى والمتألمين، ديناً يكون زفرة الإنسان المكبل بالأغلال وقلباً في عالم لا قلب له وروحاً لحقبة لا روح فيها، فأنا متدين بكل دين روحي، أي فصل بين الزمني والدنيوي وعانق فيه يسوع روح الله غاندي .. دين هو :"من يرتضي غير التسامح ديناً فلن يقبل منه، كما قال صديقي د. محمد عبد المطلب الهوني" وتذكر قول ابن عربي :
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه دانى
وقد صار قلبي قابلاً كل صورة
فمرعي لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف وقرآن
أدين بدين الحب أنّي توجهت
ركائبه ، فالحب ديني وإيماني
فأنا على دين ابن عربي. وأنا ملحد بكل دين يكون دين دولة، يكون دين تعصب، وبكل دين جهادي واستشهادي، وبكل دين يضطهد الفرد والمرأة وغير المسلم بغرائزه البدائية وعقوباته البدنية. وأنا مادي بالمعني الفيزيائي للمادة القائل بأن "المادة هي الطاقة التي تأخذ شكلاً"، وأنا روحي بمعني أن الروح هو الطاقة التي تسري في العالم،على الكاتب أن يعيد التفكير في أفكاره دون توقف، أي أن يراجع أفكاره دائماً ليمتحنها على ضوء حركة الواقع وأن يتراجع عنها كلما اكتشف أنها لم تعد أو لم تكن أصلاً متكيفة مع الواقع. إذاً لا وجود لفارق جوهري بين المراجعة والتراجع فالهدف هو دائماً واحد: البحث عن الحقيقة التي هي دائماً تاريخية، أي نسبية. لماذا؟ لأن معرفتنا بالواقع نسبية وقدرة عقولنا على الإحاطة به والأدوات التي تستخدمها لإدراكه بها نسبية هي الأخرى، فلا يمكننا إدعاء امتلاك الحقيقة التي لا تحول ولا تزول إلا إذا سقطنا في مهاوي التعصب والعياذ بالله". انتهى
نعم، هذا هو العفيف الأخضر. أنه مع قانون التغيير. ولذلك فالعفيف لم يمت، لأنه باحث عن الحقيقة التاريخية (النسبية) بلا تعصب، وسوف يبقى حياً في وجدان محبيه ومريديه، إذ تبقى أفكاره التنويرية مشاعل تنير الدرب للمناضلين في سبيل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والانعتاق والتجديد.
موت هذا المفكر العملاق خسارة لنا جميعاً لا تعوض. عزاؤنا الحار لأهله وأصدقائه وقرائه ولأنفسنا، وله الذكر الطيب.
كاتب عراقي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.