مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون الإضراب    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يرحب باعتماد اللجنة العربية لحقوق الإنسان لتوصيات تقدم بها المغرب    المركزيات النقابية تعلن نجاح الإضراب العام بنسب كبيرة في مختلف القطاعات الحكومية والخاصة    مؤشر "مازي" يسجل تراجعا في تداولات بورصة الدار البيضاء    انطلاق منتدى Nexus WEFE بطنجة لبحث تحديات التغير المناخي والأمن الغذائي    بتهم "المساس بأمن الدولة".. أحكام مشددة بحق الغنوشي وصحافيين تونسيين    الكاف يكشف موعد ومكان قرعة ربع نهائي العصبة وكأس الكونفدرالية    إحباط محاولة للتهريب الدولي للمخدرات من ميناء بني أنصار    الاتحاد المغربي للشغل يقول إن نسبة المشاركة في الإضراب العام بلغت 84,9 في المائة    ستيني يُنهي حياته داخل منزله في مرتيل    اختفاء طفلين في طريقهما إلى سبتة من مدينة العرائش والمصالح الأمنية تواصل البحث    رئيس الحكومة يعطي الانطلاقة الرسمية لفعاليات الدورة السابعة لمعرض "أليوتيس" الدولي بأكادير    مسؤول نقابي بتطوان: سنبقى في الشارع حتى يسقط هذا قانون الإضراب المشؤوم    السعودية والإمارات وقطر ومصر والأردن وفلسطين تجدد رفضها تهجير سكان غزة في "رسالة مشتركة" لوزير الخارجية الأمريكي    مجلس النواب يصادق بالإجماع على مشروع قانون متعلق بالتنظيم القضائي    إطلاق نار في محيط محطة ميترو ببروكسيل    بلال الخنوس يتوج كأفضل موهبة لعام 2024    مجموعة إسبانية تعتزم افتتاح منتجع فاخر في طنجة    المعقول .. من اللامعقول السياسي عند تبون من خلال حواره! -2-    أخنوش يستعرض المؤشرات الاقتصادية والمالية للمغرب ويؤكد مواصلة الإصلاحات    منتخب لبؤات الأطلس أمام مواجهات ودية    الشامي: عدم التفاعل مع الاستشارات العمومية يضعف الثقة في المؤسسات    رونالدو بعد بلوغ سن الأربعين: أنا أعظم لاعب في التاريخ    منصة "واتساب" تعلن عن تحديث جديد لتشات جي بي تي داخل تطبيقها    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    جامعة عبد المالك السعدي تعزز البحث العلمي في مجال القنب الهندي باتفاقية جديدة مع الوكالة الوطنية لتقنين الأنشطة المرتبطة بالنبتة    انحراف حافلة يخلف قتيلة ومصابين    انتقادات لعدم تنفيذ الحكم ضد المتهمين في قضية "كازينو السعدي" رغم صدور قرار النقض    أجراس الحداثة البعدية في مواجهة منابر الحداثة    تأجيل أم إلغاء حفل حجيب بطنجة؟ والشركة المنظمة تواجه اتهامات بالنصب    كعكتي المفضلة .. فيلم يثير غضب نظام المرشد في إيران    ماذا يعرف الأطباء عن أعراض وعلاج الاحتراق النفسي؟    أولمبيك آسفي يتمسك بمدربه أمين الكرمة بعد فترة توتر    بلقاسمي: ملعب الرباط سيدخل كتاب " غينيس"    ميلان يعلن تعاقده مع جواو فيلكس على سبيل الإعارة    تنقيط لا يليق بالحارس الرجاوي أنس الزنيتي في مباراته الأولى مع الوصل    أسعار الذهب ترتفع إلى مستوى تاريخي جديد    الرباط.. العرض ما قبل الأول لفيلم "الوصايا" لسناء عكرود    البريد بنك يحصد 3 ألقاب في Les Impériales 2025    سياسات ترامب الحمائية هل ستؤدي إلى حرب تجارية جديدة؟    الولايات المتحدة.. مجلس الشيوخ يؤكد تعيين بام بوندي في منصب وزيرة العدل    بلغ عددهم 67.. فرق الإنقاذ تعثر على جثث جميع ضحايا تحطم طائرة واشنطن    الحكومة حريصة على توفير المواد الاستهلاكية بوفرة خلال شهر رمضان المبارك    ترامب يوقع على أمر تنفيذي بانسحاب الولايات المتحدة من مجلس حقوق الإنسان    خلال جلسة مساءلة أخنوش في المستشارين... حزب الاستقلال يؤكد على وفائه لحلفائه في الحكومة    خبراء يؤكدون أن جرعة واحدة من لقاح "بوحمرون" لا تكفي للحماية    الصحة العالمية : إطلاق أول تجربة لقاح ضد إيبولا في أوغندا    بنسعيد يعلن عن تقييد مآثر جديدة    الصناعة السينمائية المغربية تحقق أرقامًا قياسية في 2024    جولييت بينوش تترأس لجنة التحكيم في "مهرجان كان"    التقلبات الجوية الحادة تؤثر على الصحة العقلية للمراهقين    تنظيف الأسنان بالخيط الطبي يقلل خطر السكتات الدماغية    الرباط: تنصيب الأعضاء السبعة الجدد بأكاديمية الحسن الثاني للعلوم والتقنيات    جامعة شيكاغو تحتضن شيخ الزاوية الكركرية    المجلس العلمي المحلي للجديدة ينظم حفل تكريم لرئيسه السابق العلامة عبدالله شاكر    أي دين يختار الذكاء الاصطناعي؟    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد "أسدرم " تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في وداع العفيف

العفيف اسم على مسمى، كان عفيفاً في حياته وسلوكه وفكره وصراحته وعلاقاته مع الناس من أصدقاء وخصوم، كان عفيفاً وشجاعاً في نضاله الطويل في مقارعة الظلم والتخلف والجهل والتعصب بجميع أشكاله وخاصة التعصب الديني. قد لا يكون مناسباً أن يتفلسف الإنسان في كتابة التأبين خاصة إذا كان يتعلق بشخص عزيز عليه، ولكن عندما يكون الفقيد مفكراً كبيراً وفيلسوفاً فلا أرى ضيراً في ذلك. إذ يتذكر القراء أن العفيف نفسه استشهد مرة في أحد مقالاته قبل أشهر بقول للفيلسوف مونتينMontaigne : «الفلسفة فن يعلمنا كيف نحيا جيداً وكيف نموت جيداً». هذه الفلسفة طبقها العفيف على نفسه بكل صدق وإخلاص، فلم تفارقه الابتسامة وهو يتحدث عن الموت الذي كان يتوقعه في أية لحظة.
فالموت ليس مشكلة الميِّت، لأن فيه راحة أبدية، إذ كما قال سقراط: «الموت نوم بلا أحلام»، بل هو مشكلة أحبائه ومريديه، وخاصة إذا كان الراحل مفكراً كبيراً من وزن وقامة العفيف، «المشاغب»، أو «محامي الشيطان» على حد تعبير الصديق العزيز الدكتور شاكر النابلسي. لذلك ربما سيكتب النابلسي نعياً بعنوان: (رحيل محامي الشيطان) إذ كتب قبل سنوات مقالاً عن العفيف قريباً من هذا العنوان. لذلك فأنا أتمثل بقول مارك توين عن الموت: «أنا لا أخاف من الموت، لأني إذا مت سأعود وكأني لم أولد، وأنا ما كنت مولودا لمليارات السنين ولم يزعجني ذلك».
فكل مصلح هو مشاغب لأنه يتمرد على القبيلة ويخرج على المألوف، ويناضل من أجل إخراج المجتمع من التخلف ويدفعه إلى مستقبل أفضل. وفي هذه الحالة لا بد وأن يشق المجتمع إلى معسكرين، معسكر محافظ متمسك بالقديم، يريد إعادة المجتمع إلى الماضي الغابر، ومعسكر متجدد يتطلع إلى الحداثة والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ومساواة المرأة، ودولة المواطنة والقانون، لا فرق فيها بين المواطنين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية والإثنية. لذلك فهو في نظر المعارضين له إنسان مشاغب! ومتمرد على القبيلة.
لقد نذر العفيف نفسه منذ شبابه إلى مقارعة التخلف بالفكر المستنير. وعرف أن هذا الطريق محفوف بالمخاطر والمتاعب وربما الموت المبكر. لذلك لم يتزوج، راكباً صهوة المخاطر مهاجراً من بلد إلى بلد بعيداً عن وطنه تونس. أقتبس أدناه بعضاً من أقواله في حوار بينه وبين قرائه نشر في «إيلاف» عام 2004 .
لقد عاش العفيف حياة صعبة في جميع مراحلها بدءً من طفولته في الريف التونسي الفقير إلى ساعة رحيله في باريس إلى عالم الخلود. فيقول عن نفسه: «توفي أبي وعمري 13 عاماً وكانت صدمة مروعة لم أنجح في إقامة الحداد عليه ربما حتى الآن، مات أبي في كوخنا المعزول، وعندما عدت إلى العاصمة تونس لمواصلة سنتي الثانية في التعليم الزيتوني، كنت أذهب كل مساء إلى «سوق العصر» الذي يأتيه الفلاحون من أحد الأحياء الفقيرة جداً «الملاسين» التي يسكنها الريفيون النازحون. وكلما رأيت فلاحاً يرتدي برنوساً ركضت لأنظر إليه من أمام عسى أن يكون هو أبي الذي دفنته بنفسي في مقبرة القرية. يعني ذلك أنني لم أصدق موته وهي حالة تقود عادة إلى الجنون».
من حسن الصدف أنه تلقى تعليماً على يد معلم تقدمي في عمر مبكر فيقول: «وكيتيم مفجوع اندفعت أبحث عن أب بديل أتماهى معه. تماهيت بالشيخ الفاضل بن عاشور الذي كان يأتي إلى الزيتونة يعطي درسه في حلقة التعليم العالي… وفي الوقت ذاته تماهيت بطه حسين إلى درجة الذوبان، فكنت أضع عصابة على عيني كما لو كنت أعمى وأرتجل أمام زميل لي هو الهادي بالأخضر مقلداً طه حسين». كما وتماهى ببورقيبة مدافعاً عن خطه السياسي وخاصة «عندما أصدر غداة الاستقلال 1956 قوانين الأحوال الشخصية لتحرير المرأة التونسية» .
كما وعى العفيف الشاب «خطورة التعليم الديني العتيق فكتب مقالات في جريدة «العمل» في صفحة الشباب مطالباً بغلق جامع الزيتونة ودمج التعليم الزيتوني العتيق في التعليم الحديث الذي ورثته تونس المستقلة عن فرنسا، وفعلاً بعد بضعة شهور أصدر بورقيبة قراراً بتوحيد التعليم وغلق الزيتونة.»
وكمصلح لا بد وأن يصطدم باليسار واليمين معاً، بما فيها سلطة أبورقيبة، الأمر الذي أجبره على الهجرة إلى عدن في عهد النظام الماركسي، فيقول: «في سنة 1969 حضرت اجتماع مجلس وزراء جنوب اليمن فنصحتهم بدلاً من الاشتراكية الماركسية اللينينية باتخاذ إجراءات حداثية منها إصدار قانون أحوال شخصية كالقانون التونسي، فقال لي سالم ربيع رئيس الجمهورية مازحاً: هل أنت سفير لبورقيبة أم معارض له؟، فأجبته: الاثنان معاً. فطلب من وزير الخارجية أن يطلب من سفير تونس في عدن تزويدهم بنسخة من «مجلة» [قوانين الأحوال الشخصية التونسية] وفعلاً صدرت بعد ذلك قوانين شخصية يمنية مشابهة جداً للقوانين الشخصية التونسية».
وقد عانى كثيراً من الفقر المدقع، لذلك راح يبحث عن أسبابه وعلاجه. ولعله أول من انتبه إلى خطورة الانفجار السكاني على العالم العربي، فحذر من مخاطره، ولكن لا حياة لمن تنادي، فقال في هذا الخصوص: «طبعاً أعي الآن أفضل الأسباب الموضوعية لهذا الفقر الكوني: الانفجار السكاني. لكن ذلك لا يعفي أغنياء العالم دولاً وشركات وأفراد من خطيئة عدم التفكير في نزع فتيل قنبلة الانفجار السكاني».
ماركسية العفيف
وعلى سؤال من السيد عبد القادر الجنابي: «ماذا تبقى اليوم من ماركسيتك التي اعتنقتها ودافعتَ عنها طوال السبعينيات..؟» فيجيب قائلاً: «فقري الذي مازال رفيق حياتي كان وربما مازال وراء قناعاتي الماركسية التي وصلت إليها في 1963… إذن لم أكن مدفوعاً بقناعات نظرية عميقة بل بغريزة طبقية فقط. .. فقد بلورت قناعاتي النظرية بعدما آمنت سلفاً بالماركسية.. ولكن، منذ الستينيات بدأت أتساءل عن مدى اشتراكية المعسكر الاشتراكي.» ويضيف: «… من زيارة لتشيكوسلوفاكيا وألمانيا الشرقية اللذين وجدتهما أشبه بالمعتقل لسكانهما منهما بالمجتمع. قالت لي فتاة تشيكوسلوفاكية عاملة عندما سألتها أن تعرِّف لي النظام الذي يحكمها: «نظاماً فاشياً». أما في ألمانيا الشرقية، وقد كنت يومياً أستمع إلى نكات العمال على حساب «جنة الاشتراكية الألمانية». في برلين الغربية كنت في حانة نحتسي البيرة فسألت مجموعة من العمال الشباب عن رأيهم في الماركسية، فقادني أحدهم إلى خارج الحانة وأشار بسبابته إلى جدار برلين الشهير قائلاً: «هذه هي الماركسية».. في الحقيقة كانت أوهامي عن الماركسية اللينينية في الاتحاد السوفيتي والصين وكوريا .. إلخ، والأحزاب الشيوعية في العالم العربي والعالم قد تلاشت قبل ذلك. دخلت مع المعسكر الاشتراكي والأحزاب الشيوعية العربية في سجال عنيف. وردوا إليّ الصاع صاعين فاتهموني في 1967 بأني عميل لألمانيا الغربية بسبب موقفي من ألمانيا الشرقية.. باختصار حاربتني الأحزاب الشيوعية بالشائعات. كانت مشاعري إزاء ذلك مزيجاً من الشعور بالاضطهاد والعزلة والاعتزاز. الاعتزاز بأنني غير مفهوم وأكلف الشرق والغرب مشقة فهمي: الغرب يرفضني لأنني ماركسي والماركسيون اللينينيون يرفضونني لأنني عميل للغرب. ساعدني ذلك على أن أفكر بنفسي باستقلال عن المرجعيتين الشرقية والغربية.»
عاش العفيف عدة سنوات في بيروت ثائراً ينشر الأفكار التقدمية في ندوات أسبوعية، ومقالات ناقداً فيها الماركسية اللينينية والأنظمة العربية، ووصفه للاتحاد السوفيتي والصين بأنهما إمبرياليان في مجلة «دراسات عربية»، مما أخرج المتعاطفين مع هذه الاتجاهات عن طورهم. «كان اليسار يرى فيّ يمينياً واليمين يرى فيّ يسارياً متطرفاً».
موقف العفيف من الإسلام السياسي:
رأى العفيف «أن إسلام القرون الوسطي يشكل عائقاً دينياً هائلاً يعتقل عقول المسلمين فلا تعود قادرة على التفكير الواقعي فضلاً عن العقلاني في أمور دينها ودنياها.. فالمرأة المسلمة وغير المسلمين يعاملون في بداية الألفية الثالثة معاملة أكثر ضراوة بما لا يقاس من معاملة الرأسمالية المتوحشة في القرن التاسع عشرة للنساء والأطفال».
والجدير بالذكر أن مشكلة العفيف هي مع الإسلام السياسي وليس مع الإسلام كدين الذي يؤكد أن «العلم يعترف بالدين في مجاله الخاص، الذي هو الروحانيات وتقديم العزاء والسلوى للحزانى…» ولكنه ينتقد الإسلام السياسي فيقول: «الاتجاه المضاد الذي يقوده الإسلام السياسي والإرهابي الهادف إلى العودة إلى عصر ذهبي موهوم في ماضيه السحيق لا يبدو أنه يمتلك زمام المستقبل… وكارثة على المسلمين لأن المسيحيين بينهم هم خميرة الحداثة أي العلمانية والديمقراطية والمساواة بين الجنسين والمساواة بين المسلم وغير المسلم».
أما الحل لهذه الأزمة فهو في التخلص من التعليم الجهادي التكفيري «والمطالبة بتعليم ديني بديل متصالح مع العلم ومع المرأة ومع غير المسلم ومع الديمقراطية ومع حقوق الإنسان ومع علوم الحداثة العقلانية والإنسانية وهذا ممكن» ويؤكد على «أن للدين وظائف روحية ونفسية مازالت قوية في النفسية البشرية المسكونة بإعطاء حياتها معنى بعد الموت: الخلود في عالم البقاء. ولا ضير من ذلك عندما لا يعترض الدين المعلمن والمرشد عن إعطاء الآخرين معنى لحياتهم في الحياة لا فقط بعد الممات».
اللقاء مع العفيف
لا شك أن اللقاء مع مفكر كبير متعة فائقة، خاصة إذا كنت منسجماً معه فكرياً إلى حد التماهي. فأول ما قرأت للعفيف كان مقالاً له نشر في الحياة اللندنية قبل نحو 15 سنة، ومن تلك المقالة أصبت بالإدمان على قراءة كل ما ينشر للعفيف، إذ كان له عمود أسبوعي في الصحيفة المذكورة. ولسوء حظنا، أنه منع من النشر في تلك الصحيفة بأمر مالكها الأمير السعودي خالد بن سلطان، لأنه انتقد في إحدى مقالاته التخلف السعودي.
وبعد ذلك ظهرت مقالاته في «إيلاف» بشكل منتظم لعدة سنوات إلى أن توقفت «إيلاف» عن نشر كتاباته لأسباب لا نعرفها. وأخيراً ظهر في الحوار المتمدن بشكل منتظم إلى رحيله.
مشكلة العفيف الشخصية، أنه لم يكن على وئام مع التكنولوجيا، فلم يطق الكومبيوتر واستخدام الكيبورد، بل تمسك بالقلم في كتابة مقالاته. ثم أصيب قبل سنوات بعجز في يديه فلم يستطع الكتابة لفترة، ولم ينشر إلا بمساعدة بعض أصدقائه الذين يزورونه فيملي عليهم مقالاته بين حين وآخر. وعندها تشمت به رئيس حزب النهضة التونسي راشد الغنوشي، أن الله شل يديه عقاباً له على كفره!! وهكذا عامل الغنوشي الله كبشر يغضب وينتقم..!!
وأخيراً تعافى العفيف واستعاد قوة يديه وعاد للكتابة والنشر. وكان يبحث عن سكرتيرة ليملي عليها فلم يفلح إلا في الآونة الأخيرة وبمساعدة أحد أصدقائه الخيّرين. لذلك لاحظنا في الأشهر الأخيرة من حياته نشاطاً ملحوظاَ في نشر سلسلة من المقالات الطويلة وهي عبارة عن فصول لكتاب له كان ينوي نشره.
وفي نهاية العام الماضي (دجنبر 2012) أسعفني الحظ بلقائه مع نخبة ممتازة من المفكرين الإصلاحيين العرب وغير العرب، فتحققت الأمنية بمناسبة حضورنا مؤتمر روما للإصلاح الإسلامي الذي نظمه الدكتور ستفين ألف، مدير مؤسسة الإصلاح، فكانت حقاً فرصة سعيدة جداً. ورغم معاناته من المرض إلا أنه كان مفعماً بالنشاط الفكري، مرحاً والابتسامة لم تفارقه.
عاش متمرداً ومات متمرداً، إذ تمرد حتى على الموت. فقد أخبرني عن مرضه، وأن الأطباء أبلغوه بأن لم يبق له سوى ستة أسابيع فقط. لذلك كان في سباق مع الزمن والموت لإنجاز سلسلة من مقالات ودراسات عن الإصلاح الديني. فحاول أن ينشر أكبر ما يمكن خلال ما تبقى من عمره فتحدى الموت والأطباء معاً وبقى أكثر من 8 أشهر بدلاً من ستة أسابيع، أنجز خلالها أفضل مقالاته في مقارعة الفكر الظلامي.
سألته مرة ونحن في مصعد الفندق، ما رأيك بدور الفرد في التاريخ؟ فقال وهو يضحك: هذا السؤال شغلني نحو ستين سنة. باختصار فإن كلما يستطيع الفرد عمله هو أن يفهم متطلبات المرحلة التاريخية ويتكيف مع مسارها.
وأخيراً، من هو العفيف الأخضر؟
وفي حواره مع القراء سأله الكاتب الصديق أشرف عبدالقادر: "يتهمك الكثيرون بأنك تغيِّر أفكارك، حتى إن أحدهم قال لك في فضائية الجزيرة، بأنك أخضر، وأصفر، وأحمر، فهل على الكاتب أو المفكر أن يراجع أفكاره أم يتراجع عنها؟ وهل هناك فرق بين التراجع والمراجعة؟
فأجاب قائلاً: " نعم أغيِّر أفكاري بمجرد أن أكتشف أن الواقع تجاوزها أو لم تكن متكيفة معه، تذكر يا أشرف كلمة ماركس الجميلة" كل شيء يتغير إلا قانون التغير"، في نظري من يكابر أمام الوقائع والواقع لا يمكن أن يكون مثقفاً حقاً، ذكرتني بالإسلاموي الذي وصفني بالأخضر والأصفر والأحمر وبكل ألوان الطيف .. لا بأس، فأنا ثوري ورجعي، متدين وملحد، مادي وروحي، شاعر سراً وناثر جهراً، فأنا كتلة متفجرة من المتناقضات المتعايشة سلمياً ..أنا ثوري عندما يتعلق الأمر بالوقوف بحزم ضد حروب العرب الانتحارية ضد إسرائيل وغيرها، و"رجعي" عندما يتعلق الأمر بتوقيع السلام، فأنا مع السلام بأي ثمن كان لأن السلام هو أثمن ثمن. … وأنا متدين بكل دين يكون ملاذاً روحياً "للغلابة" والحزانى والمتألمين، ديناً يكون زفرة الإنسان المكبل بالأغلال وقلباً في عالم لا قلب له وروحاً لحقبة لا روح فيها، فأنا متدين بكل دين روحي، أي فصل بين الزمني والدنيوي وعانق فيه يسوع روح الله غاندي .. دين هو :"من يرتضي غير التسامح ديناً فلن يقبل منه، كما قال صديقي د. محمد عبد المطلب الهوني" وتذكر قول ابن عربي :
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه دانى
وقد صار قلبي قابلاً كل صورة
فمرعي لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف وقرآن
أدين بدين الحب أنّي توجهت
ركائبه ، فالحب ديني وإيماني
فأنا على دين ابن عربي. وأنا ملحد بكل دين يكون دين دولة، يكون دين تعصب، وبكل دين جهادي واستشهادي، وبكل دين يضطهد الفرد والمرأة وغير المسلم بغرائزه البدائية وعقوباته البدنية. وأنا مادي بالمعني الفيزيائي للمادة القائل بأن "المادة هي الطاقة التي تأخذ شكلاً"، وأنا روحي بمعني أن الروح هو الطاقة التي تسري في العالم،على الكاتب أن يعيد التفكير في أفكاره دون توقف، أي أن يراجع أفكاره دائماً ليمتحنها على ضوء حركة الواقع وأن يتراجع عنها كلما اكتشف أنها لم تعد أو لم تكن أصلاً متكيفة مع الواقع. إذاً لا وجود لفارق جوهري بين المراجعة والتراجع فالهدف هو دائماً واحد: البحث عن الحقيقة التي هي دائماً تاريخية، أي نسبية. لماذا؟ لأن معرفتنا بالواقع نسبية وقدرة عقولنا على الإحاطة به والأدوات التي تستخدمها لإدراكه بها نسبية هي الأخرى، فلا يمكننا إدعاء امتلاك الحقيقة التي لا تحول ولا تزول إلا إذا سقطنا في مهاوي التعصب والعياذ بالله". انتهى
نعم، هذا هو العفيف الأخضر. أنه مع قانون التغيير. ولذلك فالعفيف لم يمت، لأنه باحث عن الحقيقة التاريخية (النسبية) بلا تعصب، وسوف يبقى حياً في وجدان محبيه ومريديه، إذ تبقى أفكاره التنويرية مشاعل تنير الدرب للمناضلين في سبيل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والانعتاق والتجديد.
موت هذا المفكر العملاق خسارة لنا جميعاً لا تعوض. عزاؤنا الحار لأهله وأصدقائه وقرائه ولأنفسنا، وله الذكر الطيب.
كاتب عراقي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.