في مطلع القرن العشرين بدأ اسم الدارالبيضاء يتكرر على لسان المستثمرين، والتجار الدوليين والراغبين في استعمار المغرب، توفر المدينة على مرفأ عميق يمكن من رسو السفن الكبرى، ومحيطها الزراعي الثري، إذا ما أضفنا إليه أزمة أوربا الغذائية وطلبها اللامتناهي للصوف والحبوب، جعل الأوربيين عموما والفرنسيين على وجه الخصوص يبدون اهتماما كبيرا بالمدينة، وهو ما دفع التجار الأوربيين لتأسيس مراكز تجارية تخصصت في شراء الأصواف والحبوب وتصديرها لأوربا، ثم بدأ توافد الجالية الأجنبية واستقرار البعثات الدبلوماسية بها، فأصبحت كازابلانكا قطبا مستهدفا ومطمعا يتربص به الجميع في صمت مريب. الأطماع تكبر مع المدينة الأقاليم المحيطة بالدارالبيضاء أمنت للمصدرين جميع المواد المطلوبة، كما أنها أصبحت سوقا شاسعة للبضائع المصنعة القادمة من أوربا، هذه الحركية الاقتصادية المتنامية تلاها نمو ديموغرافي كبير، هجرة حضرية وقروية كبيرة جعلت المدينة تعد بالثراء ومجالا خصبا لممارسة النشاط التجاري، وبالتدقيق في الفئات الاجتماعية والأجناس التي استقرت بالدارالبيضاء، نجد الجالية الأجنبية واليهود المغاربة الذين انتبهوا إلى أهمية الميناء فأسسوا وكالات تجارية مرتبطة به، وتبقى الفئة العريضة من المغاربة المسلمين فقيرة أو متوسطة، تقتات من العمالة لدى الأوربيين أو الأشغال العضلية في الميناء. في سنة 1906 ستحصل كل من إسبانيا وفرنسا بموجب مقررات مؤتمر الجزيرة الخضراء، على امتياز تنظيم الشرطة في موانئ المغرب المطلة على المحيط الأطلسي، لكن فرنسا كانت تعتبر أن ميناء الدارالبيضاء جزءا من ممتلكاتها ما دامت LA COMPAGNIE MAROCAINE قد حصلت على امتياز احتكار إصلاح ميناء كازابلانكا، وكذا عندما ضغطت على دار المخزن، للقبول بتطبيق المراقبة المالية بالجمارك، لكن الأهالي المحليين وخصوصا سكان قبائل الشاوية اعتبروا أن التجار الأوربيين يضرون بتجارتهم التي توارثوها منذ قرون، إضافة إلى أن شيوع خبر احتلال وجدة، ساهم في تأجيج الأحاسيس الوطنية ضد الفرنسيين المقيمين بالدارالبيضاء، وانضمت دار المخزن إلى هذه المعارضة للاستغلال الفرنسي، رافضة التضييق على الموارد المالية من خلال مراقبة "الديوانة"، ثم جاء قرار الدارة الفرنسية بمد خط للسكة الحديدية يصل الميناء بالخطوط المقامة آنذاك، فقام عدد من السكان الناقمين على فرنسا بتحطيمه وقتل عدد من العمال الأجانب بالشركة الفرنسية من بينهم ثلاثة فرنسيين وإسبانيين وإيطاليين.. وجاء في تقرير الفرنسيين أن المغاربة انزعجوا من صفير القاطرات، لكن السبب الرئيس كان إحساس المغاربة بتغلغل الاستعمار في أرضهم وتوقعهم للدسائس الفرنسية من أجل السيطرة على الميناء والمدينة. بعد هذا الحادث الذي كان يعتبر عاديا ونمطيا في تلك الفترة خصوصا مع تجلي المطامع الكولونيالية، قررت فرنسا إنزال قواتها بالميناء والبيضاوي وتلقين المغاربة درسا سينفع في المستقبل على حد قول الفرنسيين المعمرين بالجزائر. لكن على المستوى الظاهري قالت الحكومة الفرنسية اليمينية حينئذ "إن التدخل الفرنسي يأتي في إطار مقررات الجزيرة الخضراء لتنظيم البوليس"، وورطت إدارة إسبانيا في التدخل إلى جانبها. ثم بدأ القصف في نهاية يوليوز أرسلت المفوضية الفرنسية بطنجة الفرقاطة الفرنسية GALILLEE، إلى الدارالبيضاء وكان المكلف بأشغال المفوضية ، Saint Aulaire، مسؤولا عن تيسير مناورات القصف، وقد كتب لا حقا في مذكراته، " كنت أشاهد تزايد النفوذ الألماني بالمغرب، ومعارضة المغاربة لمشاريع الفرنسيين فكان لابد من التدخل"، ولم يشفع للمغاربة أي تنسيق مع الفرنسيين بعد حادث السكة الحديدية، وكلف السلطان مفوضه مولاي الأمين بالإشراف شخصيا على حماية القنصلية الفرنسية، لكن قائد الفرقاطة الفرنسية استطاع تسريب صناديق السلاح والذخيرة بعد أن خدع مولاي الأمين بأنها مجرد مواد غذائية موجهة إلى القنصلية. الباحث والمؤرخ علال الخديمي كتب يحكي عن فجر العملية الدموية قائلا، " لقد ادعى الفرنسيون أن الباب قد أغلق في وجه الفرقة التي أصبحت في خطر، وأن طلقات نارية وجهت لها، مما أدى إلى جرح قائدها. وكان هذا الحادث المزعوم كافيا، لإفراغ تلك الفرقة رصاص بنادقها في أجسام الجنود المغاربة، الذين كانوا مصطفين على طول الطريق من باب المرسى إلى القنصلية الفرنسية، حيث أردوا قتلى، وبعد هذا الغدر الذي لا يمكن تبريره، انطلقت أحداث الجريمة البشعة، بشروع السفينة الحربية في قنبلة الحي العربي من المدينة". وضع السكان بين قبضتي المفك، حيث كانت الفرقاطة تقنبل المدينة مخلفة آلاف القتلى، بينما الجنود الفرنسيون داخل القنصلية يصطادون الهاربين من السكان الأبرياء، فتحولت المدينة يوم 5 غشت إلى مقبرة جماعية تتكدس فيها الجثث، وخيم شبح الموت الرهيب. وفي يوم 28 غشت من العام 1907 كتبت صحيفة "لوبوتي جورنال" الفرنسية ، "المغرب لا يؤمن بقوتنا إلا عندما نضرب. ولما نتوقف عن الضرب، يستنتج أنه يمكن أن يضرب بدوره، عدد القتلى وصل إلى ما يفوق 500 مغربي أصيبوا بالقذائف الفرنسية، وكانت جثثهم ملقاة على الأرض في كل مكان، وكانت تنبعث منها روائح كريهة. وقام الجنود الفرنسيون بنقلها إلى خارج الأسوار وتغطيتها بالجير. كل مغربي ضبط وبحوزته سلاح يقتل في الحين. أما السكان الذين نجوا من القصف فجاؤوا أمام جنودنا وهم يرتعشون. بعضهم اعتقادا منه أنه يظهر احترامه للعادات الأوربية، وضع قبعة من القش على رأسه، ولوح بيديه بمنديل أبيض كدليل على السلام. المدينة كلها هدمت تقريبا. وحده حي القنصليات والمنازل المحيطة بها بقيت صامدة. هل هذا الدرس كاف ويعطي للمخزن القوة الضرورية لوقف هجمات القبائل، وفرض الصمت على مثيري الشغب المسلمين الذين يدعون إلى الحرب المقدسة ضد الأوربيين؟". عالم السوسيولوجيا الفرنسي آندري آدم والذي اهتم بمدينة الدارالبيضاء منذ مطلع القرن العشرين، قال عن هذه المأساة، "ترى كيف جرت المأساة وكيف قتل الفرنسيون المتحضرون ما بين 600 و1500 مسلم بالدارالبيضاء داخل الأسوار وخارجها، وهدموا ثلثي المدينة مقابل مقتل بحار وجرح 19 آخرين منهم 3 ضباط، في غضون 36 ساعة من بينها قنابل الميناجيت الحارقة التي كانت تقذفها البارجة دوشيلا، ينضاف إليها ما تم نقله من البارجة جاليلي من ذخائر وأسلحة يوم 3 غشت، وحملها إلى القنصلية الفرنسية بالدارالبيضاء عبر ثلاث دفعات ضمت صناديق بها 1000 رصاصة، ومدفع من عيار 65 ملم ستضرب به الصومعة يوم 5 غشت". أصبحت المدينة فارغة من سكانها ولم يبق ما يحرق أو ينهب أو يقتل أو يغتصب، من طرف الأسطول المكون من البواخر، "جاليلي" "دوشيلا "و"فوربين" والباخرة الإسبانية "ألفارو دوبازان" كانت رائحة الموت والدم تملأ المدينة، والحرائق قد أتت على كل شيء، كانت القوات البرية الفرنسية المكونة من 2000 رجل التي استقدمت من الجزائر قد أبانت عن وحشية منقطعة النظير، وكتب دبلوماسي فرنسي: "لقد مكنت حيوية ونشاط بحارتنا والقناصل من إبعاد الخطر عن الأوربيين ومنع عودة هؤلاء الوحوش الهائجة لتهديدهم وإفزاعهم تطبيقا للتعليمات الصادرة عن الحكومة الفرنسية باتخاذ اللازم لمواجهة الأخطار الجسيمة بالدارالبيضاء بواسطة القوات البحرية والبرية". كان قصف الدارالبيضاء القناع الذي أنزل عن وجه فرنسا، التي خشيت منافستها من قبل ألمانيا وبحثت عن الكثير من المبررات، لتذبيح سكان البيضاء الذين لم يكونوا يطالبون سوى بعدم اقتحام فرنسا لأرضهم وبحرهم، والكف عن قطع أرزاقهم، حاربت قبائل الشاوية فرنسا منذ ذلك التاريخ، وأصبح المغاربة فعلا وحوشا يرهبون المستعمر الدموي. صحافة فرنسا تثير أحقاد الثأر مراسل جريدةLE matin وصل إلى الدارالبيضاء يوم 2 غشت وقال إنه تجول في المدينة في اليوم الموالي لوصوله، حيث زار القنصلية الفرنسية وذهب إلى الفندق الذي أقام به، مرفوقا بجنديين مغربيين وشاهد في الطرقات بعض السكان الذين يظهر أنهم معادون لفرنسا، وفي الأحياء الشعبية لاحظ تواجد الكثير من الناس الصامتين والمنعزلين لكن هدوءهم مريب، كما وصفه، لكن ما فوجئ به هو أن الملاح كان أكثر حركة والمحلات مفتوحة، ولا أثر للنهب ولا للحرائق وكنيسة الفرانسيسكان مفتوحة على مصراعيها ولا شيئ يوحي بأن الأوضاع حساسة، كما أن مراسل لوفيغارو عندما نقل مشاهداته يوم الأحد 4 غشت على الساعة السادسة مساء، حيث كان على متن الفرقاطة GALILLEE عندما زارها القنصل "نيكرت" فتحلق حوله الضباط الشباب وممثلو شركة التفريغ والإنزال وهم يرددون: "الثأر للفرنسيين الثلاثة ضروري لشرف فرنسا".