نكاد نكون الشعوب الوحيدة في العالم التي إذا ما خبطت رأسها مع الحائط، حملت المسؤولية لهذا الأخير كاملة رغم كونه جماد لا يتحرك، والتي إذا ما تأخرت عن موعد القطار قالت "فاتني القطار" وكأن القطار هو المسؤول عن تقاعسها. نكاد نكون الشعوب الوحيدة في الكون التي لا تتحمل مسؤولية كوارثها أبدا لأنها تكون على استعداد دائم للإيمان بأن الآخرين هم دوما سبب المشاكل وأن كل شيء يتم بتدبير خارجي. إنها نظرية المؤامرة التي لا يريد أحد في هذه الاوطان أن يتخلص منها بمن فيهم بعض المثقفين الذين ينساقون وراء الموجة ويجردون الذات من أي نوع من أنواع المسؤولية والمحاسبة. ملخص النظرية حسب ما يروج يقول أن أمريكا وإسرائيل وبعض دول الخليج بتحالف مع الجيش في مصر، وبقايا فلول النظام السابق كرجال الأعمال من المستثمرين في المجال الإعلامي كلهم توحدوا من أجل الإطاحة بأول تجربة ديمقراطية في مصر.. أما الأسباب التي دفعت هؤلاء للتآمر فهي عديدة أهمها، إيقاف المسلسل الديمقراطي خوفا من تأثيره على دول الجوار كدول الخليج التي تخاف من انتقال عدوى الربيع العربي المجيد إليها وإسرائيل التي تخاف على نفسها من الانقراض، وخوفا أيضا من محاربة الفساد وإسقاط كبار رؤوس رجال الأعمال والإعلام الفاسدين. ولكي تكتمل الصورة وحتى نجرد الإخوان المسلمين في مصر من أي مسؤولية عما آلت إليه الأوضاع (مادامت نظرية المؤامرة كفيلة بذلك كما كانت دائما)، فإن أصحاب نظرية المؤامرة يصرون على تسمية كوارث نظام الإخوان ب"الأخطاء"، (أي أنها مجرد أخطاء لا أقل ولا اكثر)، ويصرون على التبشير بكون الإخوان كانوا سيأخذون مصر إلى عهد الديمقراطية الخالدة والتقدم المكين والقضاء على الصهاينة والأعداء ومواجهة أمريكية والوقوف لها الند للند. في الحقيقة هي قصة مؤثرة للغاية ولكنها للأسف لا مجرد تطبيل آخر من تطبيلات الفشل كما اعتدنا التعبير عنه من خلال إلقاء اللائمة على الآخرين دائما والتهوين مما اقترفت الأيدي. أبدأ الرد على هذا الكلام من المنطلق، من تلك الحقيقة التي لطالما كررها كاتب هذه السطور منذ بداية فعاليات ما يسمى بالربيع الديمقراطي حين قلنا أنه " لا ثورة في ظل الأمية"، وأن "الديمقراطية ثمرة للتحضر، وليست مقدمة لها"، وأن ( كما قال أدونيس منذ البداية) "الجميع فكر في تغيير الأنظمة ولا أحد فكر في تغيير الشعوب"..هنا ملخص الحكاية والكلام عن الربيع هرطقة صالونات فارغة، وإن كان لابد من وجود مؤامرة علينا فهي منا نحن لا من غيرنا من خلال إصرارنا على دفن رؤوسنا بعيدا عن كل ينابيع الثقافة والمعرفة نلوك كل ما وصل إلينا عن يقين دون مراجعة، ونستمر في سجن كل مقدراتنا الفكرية والعقلية. بمعنى آخر، من الطبيعي جدا أن ننساق وراء نظرية المؤامرة لأننا ألفنا الجاهز ولم نتعود القدرة على طرح الأسئلة والصعود بمستويات تفكيرنا وتعليمنا لعلنا نتقدم ونتطور. اليوم، الكل يبحث عن السلطة، والصعود باسم الديمقراطية لا يعني عدم السعي للانقلاب عليها سواء كان القائم بذلك من اليسار، أو من اليمين وحتى الوسط. نحن شعوب لا نمارس الديمقراطية في بيوتنا كأفراد لأنها لم تترسخ كفكر بعد داخل أدمغتنا ولم تتجسد على الأرض واقعا كسلوكيات تكون الأساس لتعاملاتنا.الديمقراطية لازالت شعارا بصفتها عملة العصر الرائجة. هذا هو الذي وقع ويقع في كل شبر من أرض التخلف العربية القاحلة. محمد مرسي ليس هو من يحكم مصر، ودعونا لا نكذب على بعضنا البعض، إنه المرشد، هو الذي يحكم، وهذه عقيدة لدى الإخوان لا يمكن لأحد أن ينكرها ولو مع ذاته. الإخوان أنفسهم، وقبل أن ينتخب مرسي كانوا يقولون أن مرسي "استبن"، وهي كلمة مصرية تعني "الرجل الهامشي" أو "رجل الظل"، أو حتى "الرجل الثاني". الجماعة كانت تحكم وهذا كان واضحا في خطابها، ومرسي كان أذاتها لزرع كل أذرعها في كل شبر مهم من جسم الدولة، ولهذا السبب تحديدا قام مرسي بانقلاب داخل المؤسسة العسكرية وأتى بالسيسي، مكان طنطاوي دون أن يعلم المسكين ومن خلفه الجماعة أن العقيدة العسكرية لا عقيدة إخوانية لها لأنها تفكر بطريقة العسكر ولا تنقلب على عقبيها أبدا. هل هذا خطأ أم كارثة؟ لأصحاب نظرية المؤامرة أن يجيبوا. للأسف من يتكلمون اليوم عن نظرية المؤامرة لم يكونوا من المدمنين حتما على مشاهدة القنوات الإخوانية.. كاتب هذه السطور كان مدمنا ولهذا دعوني أخبر أصحاب نظرية المؤامرة جميعا أن الكارثة لم تكن في قرارات مرسي أو استفراد الإخوان بالسلطة، أو السير بالاقتصاد المصري إلى الحضيض، بل كانت الكارثة تجري كل يوم على الهواء مباشرة على ألسن شيوخ الإخوان وحلفائهم. كان الإعلام الإخواني يتكلم عن الإخوان باعتبارهم المالكين الحصريين للحقيقة، وباعتبارهم مواطنين من الدرجة الاولى يملكون الوصاية على سلوكيات الناس، وكان الإخوان يصرون على مهاجمة حرية التعبير والاستهزاء منها وتكفيرها والادعاء بأن الطريقة الوحيدة للوصول إلى الحقيقة الأبدية والكمال الإنساني هي طريقة الإخوان ومن والاهم. كان خطابا عنصريا للغاية يقصي كل الأطراف الأخرى مهما كان انتماؤها. وكان هذا بالطبع خطابا دينيا جعلهم يعطون لأنفسهم قداسة لا يمكن انتقادها. ما الذي كان ينتظره الإخوان بعد كل هذا من المجتمع المصري غير الشروع في الندم على انتخاب الإخوان. أكيد أن للولايات المتحدةالأمريكية مصالح جمة في المنطقة كما لكل دولة أخرى في أرجاء الكون، ولكن معادلات الولاياتالمتحدةالامريكية مختلفة أكثر لأنها أقوى دولة في العالم تحمي الكيان الصهيوني، والأكيد أن نظاما مواليا لرغبات أمريكا في القاهرة يعتبر دائما أفضل الأنظمة على الإطلاق، وعليه فليس هناك نظام واحد داخل الرقعة الشرق-أوسطية بإمكانه أن يكتسح المشهد السياسي دون مباركة أمريكية تحدث من خلف الكواليس، والذين يتحدثون عن نظرية المؤامرة اليوم يعلمون كم العلاقات التي تربط الإخوان المسلمين بالولاياتالمتحدةالامريكية وحجم رسائل الطمأنة التي بعث بها قادة الإخوان قبل وبعد الإطاحة بمبارك بخصوص موقفهم من القضية الفلسطينية وتعاملهم مع الوضع القائم هناك والذي تفرضه إسرائيل منذ عقود، ولكن المشكلة الوحيدة أن الكل يريد أن يتاجر بالعداء لأمريكا والركوب عليه لشيطنة الطرف الآخر. وفق مقاربة أصحاب نظرية المؤامرة فما يحدث في مصر اليوم من أجل تثبيت حكم من يسمونهم علمانيين وحداثيين يحدث بمباركة أمريكا لأن العلمانيين والحداثيين "يتركون دئما الخيارات مفتوحة، ولا يتبنون مواقف راديكالية باتجاه العدو الصهيوني" وهو ما يوافق رغبة أمريكا وإسرائيل. في الحقيقة يمكنني القول أن هذه أسخف مغالطة يمكن تمريرها على الإطلاق لأن الفرق الوحيد بين العلمانيين والإخوان زمن مبارك الموالي لرغبات "محور الشر الغربي" هو أن الإخوان كانوا يزبدون ويرغون ويتوعدون الكيان الصهيوني الغاصب بالويل والثبور وعظائم الأمور فيما لا يزيد الحداثيون كلما أتيحت لهم الفرصة على مجرد التنديد بالاحتلال الإسرائيلي. هذا يقع، يا أصحاب نظرية المؤامرة ليس لأن الحداثيين أكثر انفتاحا فيما الإخوان أكثر منافحة عن القضية الفلسطينية الغالية، بل يحدث لسبب بسيط جدا وهو أن الحداثيين يعلمون بحكم واقعيتهم أن تحرير فلسطين الآن لا يمكن أن يتم أبدا بالشفوي على اعتبار أن كل الدول الإسلامية مجتمعة لا يمكن لها أبدا أن تصمد أسبوعا واحدا أمام الآلة العسكرية الإسرائيلية التي تمتلك السلاح النووي ورابع أكثر جيوش العالم تسليحا واستعدادا على المستوى التكنولوجي. الحداثيون يعلمون جيدا أننا أضعف من أن نزيل دولة إسرائيل من الخريطة، ولهذا السبب هم صامتون لعدم إيمانهم بالعنتريات الفارغة التي يتقنها الإخوان المسلمون وغيرهم من التنظيمات الإسلامية الحالمة. هم صامتون لأنهم يعلمون أن الطريقة الوحيدة على إسرائيل هي امتلاك القوة التي تضاهيها وتفوقها، وهذا أمر غير حاصل الآن لأن الشعوب الإسلامية غارقة في تخلفها الحصاري والعسكري، فهل يكفي "الشفوي" لوحده أم من الأفضل أن يلزم المرء الصمت قليلا لأنه غالبا ما يكون حكمة، تماما كما هو الحال مع فضيلة "التكماش للأرض" من باب الواقعية، على الأقل. هل تذكرون حين كان الإخوان يلقبون اليهود ب"حفدة القردة والخنازير" ويتوعدونهم بتحرير القدس، والسير إلى غزة على الأقدام؟ هل تذكرون أيام كانوا يعارضون مبارك وأمريكا وإسرائيل ب"البركة الجهادية" من خلال "الشفوي" الذي لا ينضب معينه؟ هل تذكرون حين كانوا يتوعدون بإلغاء معاهدة كامب ديفيد التي بسببها قتل الإسلاميون المتطرفون أنور السادات؟ هل تذكرونهم وهم يتوعدون بطرد السفير الإسرائيلي وقطع العلاقات الديبلوماسية، ومعها إمدادات النفط، والدخول في حرب محمومة من أجل الشعب الفلسطيني الكليم؟ هل تذكرون كل هذه العنتريات؟ أين كل هذا التطبيل وماذا كان مصيره بعد أن وصل الإخوان إلى سدة الحكم في مصر؟ لا شيء يذكر، اللهم من مناصرة جهورية للقضية الفلسطينية ومساندة معنوية لحماس، ورسائل حب وغرام بين الرئيس محمد مرسي وشمعون بيريز رئيس ما يسمى بإسرائيل (من تحت الطاولة). "طبعا هي السياسة"، هذا ما يجيب به أنصار الإخوان المسلمين عندما تذكرهم بهذا الكلام، وأنا أتفق معهم تماما لأن ممارسة السياسة ليس كالخطابة باسمها من خلف المايكروفونات زمن المعارضة. الواقع شيء آخر تماما، فلا الإخوان ولا غيرهم من أي طيف آخر يستطيع أن يقطع العلاقات مع إسرائيل أو إلغاء المعاهدة، أو تحرير القدس، ولا حتى قطع الإمدادات الغازية عن تل أبيب. وأمريكا تعلم هذا الكلام جيدا، ومعها إسرائيل، وكذا اوربا، ينضاف إليهم أصحاب نظرية المؤامرة أنفسهم الذين يتكلمون عن الممانعة الإخوانية في مصر كذبا وبهتانا لدغدغة أحاسيس الناس وشيطنة الحداثيين وجعل الإخوان أبطالا يطيح بهم الآخرون لأنهم كانوا على وشك مسح إسرائيل من على وجه الخريطة. أعترف أنه كلام يدغدغ أحاسيس البسطاء من الناس لأن الناس يفكرون في الحرب بالعاطفة وليس بعدد طلقات المدافع أو تعداد الطائرات الحربية. ليست هناك دولة عربية واحدة بوسعها أن تفرض الأمر الواقع في الشرق الأوسط بما فيها مصر، ولا أحد يستطيع أن يكون "قد فمو قد كلمتو" اتجاه إسرائيل وأمريكا بمن فيهم الإخوان المسلمون وأمريكا تعلم هذا الكلام، وهو متفق عليه بين جميع الأطراف، وليس هناك من خطر كان يشكله الإخوان على دولة الصهاينة حتى تخطط أمريكا وإسرائيل والمتآمرون من حكام الخليج سوء لمصر. ماذا عن الاطراف الداخلية إذا؟ ماذا عن الجيش، وحركة تمرد، وفلول النظام السابق من رجال أعمال وإعلاميين وغيرهم؟ ما دورهم في المؤامرة التي يقال أنها حيكت ضد مصر؟ هنا سيكون من الغباء أن لا نفكر في إمكانية وجود "إن" في المسألة. نعم كان هناك "فلول"، وكانت هناك رغبات دفينة للعسكر والداخلية، وكان هناك تواطئ للإطاحة بالإخوان الذين أتوا بصناديق الاقتراع، ولكن كل هذا لا يحمل اسم المؤامرة..هي مجرد خطة محبوكة ومدروسة للغاية. ثم ما الفرق بين "الخطة" و"المؤامرة"، وماذا عن معالم "الديكتاتورية" التي يؤسس لها العسكر وحداثيو مصر بعد الانقلاب على مرسي باسم "الشرعية الثورية". عندما ثار المصريون إسوة بالتونسيين يوم الخامس والعشرين من يناير سنة 2011 لم يكن شيء يروج في بالهم أكثر من مجرد الإطاحة برئيس ديكتاتوري جثم على قلوبهم طوال عقود من الاستعباد السياسي ، ويا ليته كان وحده الذي مر على ظهورهم، فقد سبقه آخرون لقرون عديدة. كان عقل المصريين قد نضج للمطالبة بالديمقراطية، ولكن عقليتهم، على غرار كافة الشعوب الإسلامية، لم تكن مستعدة لتقبلها أو ممارستها من الألف إلى الياء. الإخوان المسلمون كانوا شديدي الحماسة وهم يكيلون الانتقادات لحكم محمد حسني مبارك، ولكنهم بالنهاية لم يكونوا قادرين على الدخول معه في مواجهة علنية بالنظر إلى حجم المعاناة التي مروا منها على أيدي جمال عبد الناصر، وأنور السادات وحتى خلال فترة حسني مبارك نفسه، ولهذا كانوا لا يظهرون العداء الصريح لنظام الحكم وكان البعض منهم يستعمل الدين للقول أنه من الحرام الخروج على الحاكم مادام يقول "لا إلاه إلا الله محمد رسول الله" حسب أدبياتهم، ولكل هذه الأسباب لم يساند الإخوان الثورة في البداية، بل خرج الكثير من قادتها وشيوخها للتبرؤ مما كان يجري في مصر آنذاك والتأكيد على كونهم لا يؤيدون الإطاحة بحاكم ولو كان ظالما. ولكنهم وبمجرد ما لمسوا أن الميزان السياسي ينبطح لصالح "الثوار" في ميدان التحرير وغيره من الميادين، دخلوا على الخط بكل ثقلهم وقوتهم باعتبارهم التنظيم السياسي الأكثر انتشارا وشعبية في صفوف الناس. كان الناس يتعاطفون مع الإخوان لعدة أسباب أهمها أنهم يتكلمون باسم الدين الإسلامي دائما، ويدعون أنهم يحملون مشروعا إسلاميا محضا يهدف إلى إعادة الهيبة لدين الله عز وجل، إضافة إلى حقيقة كونهم كانوا المعارضة التي تعرضت لأبشع أنواع الاضطهاد منذ تأسيسها بداية الربع الثاني من القرن العشرين. كان للإخوان منذ البداية رصيد عظيم من الشعبية في صفوف المواطنين العاديين وكان من المتوقع أنهم سيكونون أكبر المستفيدين من الثورة التي انطلقت شرارتها على أيدي اليساريين والليبراليين في الأصل. بيد أنه بعد الإطاحة بحسني مبارك، تماهى الناس مع شعارات الإخوان أيام المعارضة فصوت لهم المصريون بكثافة بمن فيهم المحسوبون من صفوف الشعب على التيار الفكري الحر، وحتى اليبرالي الحداثي. كان الجميع مؤمنا بضرورة منح الثقة لأناس ظلوا في المعارضة ردحا من الزمن ولجماعة رفعت من الشعارات طوال السنين السابقة ما يكفي ليدفع المرء للتصويت عليها بشكل أعمى لأنها كانت المبشر بعهود الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. لهذا صعد الإخوان إلى سدة الحكم، ولنفس السبب صعد أقرانهم في كل البلدان التي شهدت ما يسمى بالربيع الديمقراطي. وكانت الناس متلهفة لتطبيق الأقوال وإنزالها إلى الأرض. هنا ارتكب المصريون خطأ قاتلا. لقد أجروا الانتخابات الرئاسية قبل الحصول على دستور جديد أولا. وهو خطأ قاتل وقع فيه الجميع عدا جماعة الإخوان وحلفاءهم الذين استفادوا من حقيقة كون الدستور جاء بعد انتخاب الرئيس الإخواني، مرشح جماعة الإخوان المسلمين، الدكتور محمد مرسي العياط. عندما وصل الإخوان إلى السلطة، لم يصلوا كحزب سياسي ينوب عن كل المصريين، بل اعتقدوا أن مصر قد دانت لهم أخيرا وأن المصريين أعطوهم شيكا على بياض للقيام بما يرونه مناسبا، ليس لتطوير مصر، فذاك الأمر كان حديثا يلقيه الساسة خلف المايكروفونات الرسمية وحسب، بل ل"أخونة" البلد، وجعل الجميع نسخة واحدة من الإخوان باعتبار المشروع الإسلامي الهلامي الفضفاض الذي كانوا يحملونه هو الحقيقة الأخيرة التي لا تقبل النقاش باسم الدين دائما. لما انسحب الليبراليون من لجنة كتابة الدستور استغل الإسلاميون الفرصة وصنعوا دستورا على المقاس، ولكن أغلبية الشعب (63 بالمائة) كانت لازالت تحت تأثير وصول "أصحاب وأحباب الله" إلى الحكم ل"إقامة شرع الله" عن طريق الدستور الجديد ولهذا صوتوا عليه بنعم. عقدة كراهية الإخوان المسلمين لدى أطياف من الليبراليين في مصر تحالفت مع الغضب المتزايد وسط صفوف الشعب، أو بالأحرى استغلته أبشع استغلال بتحالف مع بقايا النظام السابق طبعا، قبل أن يدخل العسكر على الخط. لهذا لا يتعلق الأمر بمؤامرة، بل بخطة..خطة طارئة لم تكن على بال أصحابها وهو ما أورده باختصار شديد في الحيز المتبقي. لقد استشعر الساسة والمفكرون الليبراليون أن شعبية الإخوان بدأت في النزول بسبب كل "الأخطاء"-"الكوارث" التي ذكرناها، وأحسوا أن الأمر في حاجة إلى بلورة وتنظيم، فتأسست حركة تمرد التي استغلت كل الأحداث السابقة حين خرج الناس إلى الشوارع طوال السنة للاحتجاج على حكم مرسي، وبالطبع كان الكثيرون غاضبين بما يكفي للمشاركة.. هنا دخل الإعلام على الخط ومارس دعاية منقطعة النظير لواقعة الغضب الشعبي.هذا الإعلام يتكون أساسا من رجال الأعمال المحسوبين على النظام السابق والذين لم يكن من مصلحتهم أن يبقى الإخوان في سدة الحكم. لما أحس الجيش أن التمرد ضد الإخوان حقيقي في مصر، قرروا الدخول إلى المعترك وتحويل الدفة إلى صالحهم وهم الذين لم ينسوا سحب الإخوان لبساط الحكم من تحت أرجلهم من خلال عزل القيادات السابقة وامتلاك زمام القرار بعيدا عن الثكنة. هنا تجمعت أطراف الحكاية بشكل مفاجئ، ولا علاقة للمؤامرة المسبقة بالأمر، فالمؤامرة لا يمكنها أن تحشد 20 مليون غاضب في الميادين. هو الغضب وحده القادر على هذا. بالنهاية لا أجد أفضل تلخيص من ذاك الذي كتبه الأستاذ الكبير محمد الساسي بإحدى الجرائد الوطنية يوم الخميس الماضي عندما قال أن "ما حدث يوم 30 يونيو كان ثورة، أما ما حدث يوم 03 يوليوز فقد كان انقلابا"... https://www.facebook.com/abdelkrim.elquamch