أثار انقلاب الجيش المصري ضد الرئيس المنتخب محمد مرسي ردود فعل كثيرة و سيلا من الكتابات و المواقف المتباينة لمفكرين و سياسيين و إعلاميين، بين منتقد لسلوك المؤسسة العسكرية المصرية، و اعتبار الأمر تمردا ضد الشرعية الدستورية الانتخابية و الديمقراطية، و توجيها للبلاد نحو حكم عسكري ديكتاتوري يقضي على أحلام و آمال ثورة 25 يناير 2011، و بين مؤيد يرى في ما حدث استجابة لمطالب حركة تمرد شعبية مستاءة من سياسة مرسي في تدبير شؤون الدولة. وبين هذه القراءة و تلك التي لازمت الحدث، هناك قراءة أخرى يبدو من الأنسب استحضارها حتى لا يظل التحليل منحصرا في حدود تبرير الصراع بالخلاف الإيديولوجي أو تدخل جهات أجنبية لا يروقها استمرار جماعة الاخوان المسلمين في الحكم. تأمل الواقع السياسي ببلدان العالم الاسلامي سيظهر أن مثل هذا النموذج من الصراع كان و لا يزال حاضرا في بلدان متعددة إما بنفس الحدة أو بدرجة أقل حدة من مصر، صراع بين طرف يستند في سعيه للاستحواذ على السلطة بحجة الشرعية التاريخية، و طرف ثان يستند في دفاعه عن أحقيته بالحكم على الشرعية الدستورية الانتخابية و الديمقراطية. فماذا نقصد ببساطة بالشرعية التاريخية؟ و ماذا نعني بالشرعية الدستورية الانتخابية أو الديمقراطية؟ هناك أحزاب سياسية واتجهات إديولوجية وأجهزة عسكرية في العالم الإسلامي تمسك بزمام السلطة بدعوى الشرعية التاريخية، أي أن القوى المذكورة تعتبر نفسها فاعلا رئيسيا في التحولات السياسية العظمى التي شهدتها بلدانها، و في صناعة أنظمتها السياسية و طبيعة نظام الحكم بها ثم ترسانتها القانونية و إرساء دعائما الاقتصادية، بالتالي فوجودها على هرم السلطة حتمي لصيانة هذه الخصوصيات و المكتسبات مهما كانت المتغيرات الدولية و الإقليمية. أما الطرف الثاني في الصراع فلا يعير أي اهتمام لهذا النوع من الشرعية، بقدر ما يدافع عن الشرعية الذستورية الانتخابية الديمقراطية، أي يستند في دفاعه المستميت عن مشروعية سلطته التي أفرزتها صناديق الاقتراع و الإرادة الشعبية بالأغلبية في الزمن الراهن. وحتى يتضح الموضوع و ينجلي، يبدو من الطبيعي أن نذكر بنماذج و أمثلة للتصادم بين الشرعيتين، و التي شاءت أن تصبح عنوان المشهد السياسي بهذه البلدان التي لازالت شعوبها متعطشة لديمقراطية حقيقية، بدء من مصر و انتهاء بالمغرب. لدى الجيش المصري قناعة راسخة، كونه يمثل الشرعية التاريخية و الثوابت في البلاد بل ربما حتى الأصول و التقاليد السياسية، فالعسكر المصري لقن ببراعة فكرة كونه صانع استقلال مصر، و أنه من أطاح بالنظام الملكي و بناء الجمهورية بعد ثورة الضباط الأحرار سنة 1952. هو انجاز عظيم بالنسبة للمؤسسة العسكرية لا يجب التهاون في حمايته و الدفاع عنه، و أي رئيس للجمهورية ملزم بالتعايش مع هذه المؤسسة إن لم يكن خريجها، فكذلك كان جمال عبد الناصر و أنور السادات ثم حسني مبارك، بالتالي فالانقلاب على الرئيس محمد مرسي لم يكن لمجرد اعتباره من جماعة الإخوان المسلمين، بل لأنه كذلك بعيد عن توجيهات و تأثير الجيش، فلا رد فعل حدث ضد مبارك الذي يتفق الكل على أنه أهان الشعب المصري و أذله، لكن لتستأسد المؤسسة العسكرية بالسلطة انقلبت ضد الرئيس مرسي مثال الشرعية الدستورية الانتخابية الذي و إن أخطأ لم يذل شعبه. شهدت الجزائر فصول هذا الصراع قبل مصر ب 23 سنة، بعد اجهاض العملية الديمقراطية، حين انقلب الجنيرالات ضد جبهة الانقاذ الإسلامية التي حصلت على الأغلبية الساحقة من أصوات الناخبين في الانتخابات التشريعية، ليهيمن منذ ذلك الحين حزب جبهة التحرير الوطني على الرئاسة و المؤسسة التشريعية برعاية من الجيش، بأساليب التزوير الانتخابي و تحريف إرادة المواطنين، بالتالي فإن جبهة التحرير نموذج على المتمسكين بالحكم استنادا لما يعتبرونه شرعية تاريخية، و تبرر ذلك بأنها قادت الثورة الجزائرية الكبرى من 1954 إلى 1962، و التي كانت نتيجتها استقلال البلاد عن الاستعمار الفرنسي، و أن فضل قادتها كبير في بناء دولة جزائرية حديثة لا يجب أن تتولى سلطتها أي قوة سياسية ولو حظيت بتأييد شعبي بلا نظير. بنفس التفكير و المنهج و الخلفية و ذات الشرعية التي يراها، كان الرئيس التونسي بن علي الذي أطاح به الثوار يفرض سلطته المطلقة، و هيمنة حزب التجمع الدستوري كحزب واحد حاكم لتونس، كامتداد تاريخي لحزب الدستور التونسي و الحزب الدستوري الجديد، الذي يعتبر نفسه محررا للبلاد بقيادة بورقيبة، بل جعل أولويته استئصال أي توجه سياسي قد ينافسه أو يراه مناقضا لمبادئ الحزب العلمانية. وفي إيران لا سلطة تعلو فوق سلطة المرشد العام أية الله علي خامنئي، فمهما انتخب الرئيس ديمقراطيا سواء كان محافظا أو إصلاحيا، و بالرغم من كونه يمثل الشرعية الدستورية و الانتخابية، تظل سلطاته محدودة و غير مؤثرة بالكامل أمام تعاظم سلطات المرشد العام للثورة الذي يستند في سلطته إلى الشرعية التاريخية، التي لا تزال متمسكة بزمام الحكم و مؤثرة في القرار بالجمهورية الإيرانية. ويهمنا أن نشير في صلب الموضوع إلى أن المغرب يعيش بدوره ظاهريا هذا النوع من الصراع بين الشرعيتين بعدما كان يسري فيه باطنيا، و نجد ضالتنا لفهمه من خلال جولات الأمين العام لحزب الاستقلال حميد شباط في مختلف المدن المغربية بعد قرار الانسحاب من الحكومة، إضافة إلى خرجاته الإعلامية و مواقفه التي يصرفها باسم الحزب، و منها طبعا اعتباره المغرب لن يكون دولة اخوانية (خوانجية) و أن حزبه هو الأصل. في متن هذا الخطاب نجد تجليا واضحا بأن حزب الاستقلال يحركه هاجس التمسك بالشرعية التاريخية كضامن للبقاء سيدا في تدبير شؤون الحكومة، على حساب الشرعية الدستورية الانتخابية و الديمقراطية التي أفرزت تقدم العدالة و التنمية، هذا الحزب الذي ينظر إليه كهيئة حديثة النشأة و العهد بالعمل السياسي، مقابل حزب الاستقلال الذي يعتبر نفسه ضامن استقلال البلاد، لكون معظم زعماء الحركة الوطنية من قادته و كذالتقديمه وثيقة المطالبة بالاستقلال ثم التأثير في مفاوضات تحرر المغرب و بناء أسس الدولة بعد الاستقلال. هي إذن فصول صراع ممتد لن ينتهي تشهدها جل بلدان العالم الإسلامي و إن اقتصرنا على ذكر خمسة نماذج، و بمنطق سنن الاجتماع البشري و تحولات ميدان السياسة، فإن المتمسك بالشرعية التاريخية متشبث بالوهم و شرعية لا تستند إلى تأييد أو منطق معقول، بينما تبقى الشرعية الدستورية الانتخابية الديمقراطية أكثر اتصالا بالحقيقة، فالتاريخ يبقى تاريخا و الحاضر أجدر بالتقدير.